IMLebanon

الطائفية ورقة تركيا لاختراق لبنان

يفضح عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجنسية التركية على تركمان لبنان في وقت تنشغل فيه السلطات اللبنانية ببحث سبل تجاوز التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لانفجار مرفأ بيروت، الأجندات التركية المتخفية خلف هرولتها لتقديم المساعدة للبنان المنكوب، فالكوارث الإنسانية بالنسبة لأردوغان توظف أيضا في تذكية نعرات الهوية والانتماء خدمة للهدف الأسمى وهو إعادة إحياء الخلافة العثمانية التي تبدأ أولا باختراق النسيج المجتمعي وتكريس الولاءات الأيديولوجية بدلا من الولاءات الوطنية.

وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تصريحات نقلتها السبت وكالة أنباء الأناضول شبه الرسمية إن بلاده مستعدة لمنح الجنسية للتركمان اللبنانيين الذين يرغبون في الحصول على الجنسية التركية.

وأضاف جاويش أوغلو خلال زيارة أداها إلى العاصمة اللبنانية بيروت أنّ “تركيا تقف وراء شعب لبنان بعد الانفجار الدامي في بيروت وأن أنقرة مستعدة لتقديم الجنسية التركية لمن هم في البلاد ممن يعرفون أنفسهم على أنهم أتراك أو تركمان بتعليمات من الرئيس رجب طيب أردوغان”، مؤكدا “نقف مع أقربائنا، الأتراك والتركمان في لبنان وحول العالم”.

وتابع الوزير التركي، في إشارة إلى الأتراك الذين يعيشون في المنطقة منذ القرن الحادي عشر، “سنمنح الجنسية التركية لأشقائنا الذين لا يحملون الجنسية التركية ويقولون ‘نحن أتراك، نحن تركمانيون’ ويعبرون عن رغبتهم في أن يصبحوا مواطنين ببلادنا”.

وإلى جانب اللعب على مكون الهوية لتركمان لبنان، تعاضد الجمعيات الخيرية المرتبطة بتركيا داخل لبنان مساعي السيطرة على مناطق الشمال السني، حيث يدرك أردوغان جيدا أن التدخل المباشر في شؤونهم قد يلقى رفضا واسعا، بينما من الممكن تسويق أجنداته إذا روجتها وباركتها قيادات الداخل.

التركمان خاصرة هشة

يضمّ لبنان طائفة تركمانية يبلغ عددها أكثر من 40 ألف شخص، ينتمون في أصولهم إلى القبائل التركية، واستقروا في لبنان منذ العهد العثماني.

ومنذ وصوله إلى الحكم سنة 2002، جعل حزب العدالة والتنمية الإسلامي بقيادة أردوغان البعد القومي ذات أهمية أكبر في سياسته الخارجية، فكان الاهتمام بالتركمان جزءا من هذه السياسة الخارجية المهتمة بتوسيع نفوذ تركيا وتأثيرها في محيطها الإقليمي.

وحظيت هذه الطائفة برعاية تركية خلال السنوات الأخيرة، ويزورها السفير التركي في بيروت بصفة منتظمة، خاصة تركمان منطقة عكّار المتواجدين في شمال لبنان والذين لا يزالون يحافظون على لغتهم التركية.

ومنذ ذلك الوقت نشطت منظمة “تيكا” التركية في المنطقة، وقدّمت تركيا منحا تعليمية لأبناء التركمان، وافتتحت معاهد لتعليم اللغة التركية، فيما ذكرت تقارير صحافية وجود خطّة تركية لتجنيس ما يزيد عن 50 ألف لبناني، بزعم وجود أصول تركية أو مواطنة عثمانية، بهدف خلق كتلة من النخب اللبنانية تدين بالولاء للأتراك.

ومن أجل زيادة نفوذ تركيا الخارجي، يستخدم أردوغان الوازع الثقافي عبر إعادة تشكيل الوعي التاريخي عند التركمان الذين يعيشون خارج تركيا.

وأنشأت تركيا جمعيات لها علاقات متينة مع جمعيات إقليمية تركية أخرى كما مع السفارة التركية لتعزيز حضور التركمان في لبنان وتعزيز الروابط بين بيروت وأنقرة ولعل من أبرزها “رابطة الشباب اللبناني التركي” و”الجمعية اللبنانية التركية” و”الجمعية الثقافية التركية في لبنان”، إضافة إلى “جمعية الصداقة اللبنانية التركية في صيدا”.

تعاضد الجمعيات الخيرية المرتبطة بتركيا داخل لبنان مساعي السيطرة على مناطق الشمال السني، حيث يدرك أردوغان جيدا أن التدخل المباشر في شؤونهم قد يلقى رفضا واسعا
ويعبر المنتمون إلى هذه الجمعيات صراحة عن تأييدهم لحزب العدالة والتنمية التركي عبر برقيات التهنئة المتتالية من مسؤوليهم المحليين، ورفع الأعلام التركية في القرى التركمانية وحتى وسط منازلهم.

واحتفل تركمان لبنان في 2014 بفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التركية، حيث اعتلت الأعلام التركية وأعلام الدولة العثمانية الخضراء، جدران المقاهي.

وفي 2018، احتفل التركمان في عدة مناطق في لبنان بفوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية، حيث شارك في الاحتفالات المئات في مدينة طرابلس وبلدة شبعا، وخرج الكثير بسيارتهم إلى الشوارع، وهم يحملون الأعلام التركية.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت أعداد من التقارير الإعلامية مؤخرا أن بعض الجمعيات التركية تعكف على التحضير لمشروع يطالب الدولة اللبنانية بتخصيص مقعد نيابي واحد يمثل التركمان في البرلمان اللبناني.

وتستثمر تركيا النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية في لبنان في توجيه بعض الجماعات التابعة لها بالتأثير على صانعي القرار اللبناني المحليين في اتجاه مصالحها.

ويمثل تزايد عدد الجمعيات الأهلية المرتبطة في مجملها بالدول الإقليمية دافعا مهما لتركيا لاستغلالها في زيادة ارتباطها بها من خلال دعمها المالي ورعايتها ومساعدتها في التأثير على المواطنين لصالح أهدافها.

ويرى مراقبون أن هناك الكثير من الدوافع التي ساهمت في توجه تركيا نحو تعزيز مصالحها في لبنان بعضها ينبع من الداخل اللبناني والبعض الآخر يتمثل في الملفات الإقليمية والدولية المرتبطة بها، وقد اتجهت أنقرة على عكس توغلها العسكري المباشر في الكثير من الدول العربية إلى استثمار قوتها الناعمة في التأثير على صانعي القرار هناك من خلال هذه الجمعيات.

مغازلة السنة

تحدثت تقارير إعلامية لبنانية الشهر الماضي عن أن تركيا تسعى لفرض نفوذها على لبنان خاصة في شمال البلاد عبر آليات متعددة ما بين اقتصادية واستخباراتية وطائفية، حيث تهدف أنقرة بشكل أكبر إلى السيطرة على الطائفة السنية في البلاد.

وفي تقرير لصحيفة الأخبار المحلية بعنوان “تركيا في لبنان على خطى الإخوان المسلمين: التمكين أوّلا” قال الكاتب فارس الشوفي في 13 يوليو الماضي إن النشاط التركي في لبنان هدفه “تعزيز النفوذ التركي داخل بيئة المسلمين السنّة في لبنان، وتحديدا في الشمال”.

وجاء في التقرير أن تركيا “تعمل على الدعم المستمر للجماعة الإسلامية، الفرع اللبناني لتنظيم الإخوان المسلمين بالتوازي مع حالة الاحتضان لعدد من الشخصيات السلفية في الشمال، مثل الشيخ سالم الرافعي”.

ويسعى أردوغان إلى كسب تعاطف المكوّن السنّي في لبنان، أسوة بالنظام الإيراني الذي يقدم نفسه على أنّه حامي الشيعة، حيث تم الترويج لزيارة أردوغان في 2010 إلى منطقة الكواشرة في شمال لبنان على أنّها زيارة زعيم سنّي.

ويقول مراقبون إن أردوغان يستغل التوجس السني من هيمنة حزب الله في استمالة الكتلة المتعاطفة مع الإسلام السياسي، عبر الدفاع عن وضع السنّة، بحجة حمايتهم من تغلغل الشيعة.

وتوظّف تركيا عدّة آليات لاختراق المجتمع السنّي في لبنان، عبر توظيف الجماعة الإسلامية والمساعدات الإنسانية مستغلّة الوضع الاقتصادي الصعب وفتور الدور العربي حيال لبنان.

وفتح الفراغ الذي أحدثه غياب العرب الفاعل عن التواجد في الساحة السنية الباب أمام اللاعبين على المستوى المذهبي للإيحاء بأنهم البديل الراعي، وهذا ما دفع البعض إلى الاستفادة من الاندفاعة التركية نحو توسيع النفوذ.

ويعيش المكون السني في لبنان فراغا سياسيا ما يجعله جاهزا للاستعمال، فطرابلس والشمال يمكنهما أن يشكلا حاضنة خصبة للمشروع التركي.

ولا يبدو التدخل التركي في لبنان محصورا في الشمال، حيث تشير مصادر إلى محاولة توسيعه باتجاه مدينة صيدا جنوب لبنان عبر مساهمة أنقرة في تمويل بناء مستشفى متخصص في معالجة الحروق، غير أن هذه المحاولة لم تتوسّع كثيرا كما هي الحال بالنسبة لشمال لبنان.

يضمّ لبنان طائفة تركمانية يبلغ عددها أكثر من 40 ألف شخص، ينتمون في أصولهم إلى القبائل التركية، واستقروا في لبنان منذ العهد العثماني
ويعتبر مراقبون أن الانكفاء العربي عن الساحة السنية اللبنانية خاصة جعل 90 في المئة من السنة يتطلعون إلى دور تركي من أجل التوازن مع الهيمنة الإيرانية على لبنان.

ويشير هؤلاء إلى أن أنقرة استفادت كثيرا من الخلافات داخل المرجعيات الإسلامية السنية في لبنان وتشتتها حيث وجدت في هذا الأمر جسرا لتشكيل حالة سياسية جديدة. وفي وقت سابق أكد رئيس التيار الوطني الحر ووزير الخارجية السابق جبران باسيل وجود دور نشط للأتراك في لبنان، موجها اتهامات لبعض الأجهزة الأمنية اللبنانية من ضمنها قائد الجيش جوزيف عون، بالتواطؤ لتسهيل التمدد التركي باتجاه شمال لبنان.

ورد النائب السابق خالد الضاهر على الاتهامات التي وجهها باسيل قائلا إن “هذا الكلام يستهدف الطائفة السنية”، مؤكدا أن المناطق السنية تحت سلطة الدولة عكس المناطق الشيعية التي يسيطر عليها حزب الله.

ويشير مراقبون إلى أن العروض التركية المتواصلة لمساعدة لبنان تعتبر بمثابة تمهيد لملء الفراغ المحتمل عن تضاؤل نفوذ طهران وسط دعوات إقليمية ودولية متزايدة لتحجيم دور الحليف الإيراني حزب الله ومنع هيمنته على السياسة اللبنانية، الداخلية والخارجية، بينما لا يلقى النفوذ التركي المتصاعد في المنطقة استياء على نفس القدر من القوة من قبل الولايات المتحدة والعديد من القوى الكبرى.

العثمانيون الجدد

هاجم الرئيس اللبناني ميشال عون بمناسبة إطلاق برنامج مئوية “لبنان الكبير” العام الماضي الإرث الاستعماري للخلافة العثمانية ما أثار الكثير من ردود الأفعال داخل بيروت وأنقرة.

وقال الرئيس اللبناني في تلك التصريحات، إنّ كل محاولات التحرر من “النير العثماني” كانت تقابل بالعنف والقتل وإذكاء الفتن الطائفية، وإن إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى، أودى بمئات الآلاف من الضحايا، ما بين المجاعة والتجنيد.

وعلى إثرها، أصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا اعتبرت فيه تصريحات عون “تزييفا متعمدا للتاريخ”، قائلة إن “الحقبة العثمانية في الشرق الأوسط كانت فترة استقرار سادها التسامح”.وأضاف البيان أن “المنطقة لم تنعم بالسلام مجددا منذ تقسيمها على أساس اتفاقية سايكس بيكو، بعد الحرب العالمية الأولى”.

وسرعان ما تواترت ردود فعل المسؤولين اللبنانيين على البيان التركي، فقد اعتبر مستشار الرئيس اللبناني أمل أبوزيد البيان انعكاسا لـ”ذهنية التسلط والهيمنة، التي ورثتها الدولة التركية عن السلطنة العثمانية البائدة”، حسبما كتب في تدوينة له.

وتصاعدت وتيرة الأحداث لتأخذ منحى آخر بعد أن علّق شبان لافتة على بوابة السفارة التركية في بيروت، كُتب عليها عبارة “أنتم كمان انضبوا” (أو إلزموا حدودكم).

وفي نفس السياق، تُرجم النشاط التركي بمظاهرات داعمة لأردوغان والإرث العثماني في لبنان، عندما استنكر المفتي السابق محمد قباني تصريحات الإعلامي اللبناني نيشان ديرهاروتيونيان التي انتقد فيها الرئيس التركي وإرث العثمانيين.

أنقرة استفادت كثيرا من الخلافات داخل المرجعيات الإسلامية السنية في لبنان وتشتتها حيث وجدت في هذا الأمر جسرا لتشكيل حالة سياسية جديدة
واستضاف نيشان الوزير الأسبق وئام وهاب، في برنامج “أنا هيك” الذي يبث على فضائية “الجديد”، حيث قال الأخير في معرض حديثه إن الرئيس التركي “خبيث”، قبل أن تخرج الحملة على نيشان نفسه.

وردّا على ما قاله وهاب توجه لبناني إلى نيشان بالقول إن “نيشان اللاجئ أظهر عنصريته”، في إشارة إلى أصوله الأرمنية، ما دفع الأخير إلى الرد بهجوم كاسح، تبنّى فيه ما قاله وهاب، وقال “ابن مليون خبيث.. أردوغان والنظام والعثمانيون والأتراك”، وأضاف “إذا بتعتبرني لاجئا أنا لبناني أكثر منك، وفخور بلبنانيتي أكثر منك”.

وفي سياق متّصل، بارك عدد من رجال الدين تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، وألقى الشيخ ماهر الجارودي، خطبة جمعة أشاد فيها بالقرار، ووصفه بأنّه “بارقة أمل للمسلمين”.

وقبل ذلك تصدّى رجال الدين للرئيس اللبناني، حين هاجم الدولة العثمانية، واستنكر أمين دار الفتوى اللبنانية أمين الكردي، كلام الرئيس، ومجّد العثمانيين من على منبر مسجد، كما خصّص عدد من خطباء المساجد خطبة الجمعة للرّد على الرئيس عون، في بيروت والبقاع وصيدا وإقليم الخروب.