IMLebanon

الوطن الأزرق التركي وحرب الموانئ: لبنان منصّة

كتب د. أيمن عمر  في “اللواء”:

على مرّ العصور كانت البحار والمحيطات والسيطرة عليها وعلى الموانئ المطلة عليها هي المفصل في تحديد شكل العلاقات الدولية وتحديد طبيعة العلاقات بين الدول ومصائر شعوبها. بل لعبت الدور الأساسي في تنظيم العلاقات الاقتصادية وإنشاء المدارس والنظريات الاقتصادية ومنها جاءت أول مدرسة اقتصادية في التاريخ البشري وهي الماركنتيلية/ التجارية، التي قامت على أهمية التجارة الخارجية عبر البحار في استقطاب المعادن النفيسة الذهب والفضة من أجل تقوية الأمة، ورفع مستوى الرفاهية الاقتصادية لدى المواطنين، حيث أصبحت السيطرة على البحار لا تهدد أمن الدول فحسب بل أصبح يهدد اقتصادها ورفاهية شعوبها أيضاً. من هنا تم إنشاء الأساطيل البحرية الضخمة والقوية لزيادة قوة الدول وترسيخ سيطرتها واستعمارها للدول الغنية بالموارد الطبيعية، ومن الأمثلة التاريخية بريطانيا العظمى التي لا تغيب عنا الشمس وهولندا والبرتغال وإسبانيا والولايات المتحدة، الذين أصبحوا قوى عالمية عظمى من خلال مواقعهم وأساطيلهم القوية الضخمة.

ويُعتبر ألفريد ثاير ماهان (1840-1914) «الاستراتيجي الأمريكي الأكثر أهمية في القرن التاسع عشر الميلادي»، لأنه أول من نظّر حول أهية السيطرة على البحار من اجل السيطرة على العالم، من خلال كتابه «تأثير قوة البحر على التاريخ». فقد بنى نظريته على فكرة أن الدول صاحبة القوة البحرية الأعظم سيكون لها التأثير الأكبر في جميع أنحاء العالم. وقد كان لهذا المفهوم انعكاسه الكبير في صياغة الفكر الاستراتيجي للقوى البحرية في العالم، وخاصة في الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وكذلك بريطانيا. وما تزال أفكاره مسيطرة على مبادئ البحرية الأمريكية. وقد أُعيد إحياء هذه النظرية في عصرنا الحالي عصر العولمة، وترسخت أهميتها أكثر فأكثر مع انتشار جائحة كورونا وإغلاق المطارات.

البحرية التركية

تأسس أول أسطول بحري عثماني عام 1327 تحت إسم “بحرية عثمانية قوتلري” أي “القوات البحرية العثمانية”، ووزارة للبحرية في العام 1867 في محاولة من الخلافة العثمانية بناء أسطول قوي يشمل سفناً حربية وحتى غواصات (غواصة السلطان عبد الحميد صنعت في بارو في إنجلترا عام 1886 وكانت أول غواصة تطلق طوربيداً تحت الماء عالمياً). واستمر هذا الإسم حتى عام 1924، وأصبح إسم القوات البحرية التركية بدلاً من العثمانية. واستمرت هذه العقيدة ضمن الاستراتيجية العسكرية إلى الآن، من خلال تأكيد وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” أيلول 2019: “التاريخ يُظهر لنا أن الدولة الممتلكة للقوة البحرية دائماً مصيرها السموّ. والدولة التي لا تمتلك القوة البحرية يصيبها الضعف. ومن وجهة النظر هذه، كنا بحاجة إلى هذه القوة في الأمس ونحتاج إليها اليوم، وسنحتاج إليها في الغد”. وقد بدأت تركيا مشروعاً حربياً بإسم ميلجيم “Milgem” وهو قائم في معظمه على الجانب البحري. وخصصت تركيا ميزانية ضخمة للغاية موجهة للإنفاق العسكري البحري المعتمد على الإنتاج المحلي، من سفن بحرية متطورة وغواصات وسفن الصواريخ السريعة، وتوسيع أسطول الطائرات بدون طيار والذي ينشط حالياً في ليبيا وسوريا، إلى بناء قواعد عسكرية في قطر والصومال والسودان. ووفقاً لبيانات موقع GFP المتخصص بالشؤون العسكرية فإن تركيا تأتي في المرتبة الثانية بعد مصر في منطقة المتوسط من حيث عدد القطع البحرية ب194 قطعة وهي تمتلك 12 غواصة. مع العلم أن ميزانية الدفاع التركية بلغت لعام 2019، وفق موقع “غلوبال فاير باور” المختص بالإحصائيات العسكرية لجيوش العالم، 8،6 مليار دولار.

هي في الأصل خطة وضعها الأدميرال التركى “جيم غوردنيز” في عام 2006، لتوسيع نطاق نفوذ تركيا في البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود، لتمكينها من الوصول إلى مصادر الطاقة و الموارد الاقتصادية الأخرى. وتعادل مساحة الوطن الأزرق نصف المساحة البرية لتركيا، أي حوالي مسافة 200 ميل بحري من البر التركي (370 كم2 تقريباً). وتبنّى الرئيس رجب طيب أردوغان هذه العقيدة كجزء لا يتجزأ من استراتيجية التوسع التركي للخروج من الداخل التركي والبحث عن المجال الحيوي لتشمل النفوذ في المناطق المحيطة ببلاده. وقد ظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بصحبة قائد البحرية التركية في احتفالية بجامعة الدفاع الوطني في أيلول 2019، ومن خلفهما خريطة تشمل ثلاثة بحار: البحر المتوسط، وبحر إيجه، والبحر الأسود، ومدوّن عليها “الوطن الأزرق أو مافي فاتان”. وسمّيت أهم مناورة قتالية تركية بحرية في العصر الحديث “مناورة الوطن الأزرق” في شباط عام 2019، للتأكيد على تبنّي هذه العقيدة والبدء بتنفيذها، وهي أُجريت في وقت واحد في بحر إيجه، والبحر الأسود وشرق البحر المتوسط. تبعتها مناورات بحرية هي الأكبر في تاريخ تركيا، في أيار الماضي، وسميت “ذئب البحر 2019″، بمشاركة 131 سفينة بحرية، و57 طائرة حربية، و33 مروحية.

الصراع على شرقي المتوسط

يذخر البحر المتوسط بالثروات الطبيعية من النفط والغاز إلى الفوسفات والحديد والثروة السمكية، بالإضافة إلى احتوائه على 7.5 ٪ من مخزون الثروة البحرية الحيوانية العالمية و18٪ من مخزون الثروة البحرية النباتية العالمية، وهو منطقة عبور للتجارة العالمية. وتعوم منطقة شرق المتوسط فوق بحيرة من الغاز، ويقدّر مخزونها بنحو 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، و107 مليار برميل من احتياطيات النفط القابل للاستخراج بحسب تقرير هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية في العام 2010، ما يجعلها تضم حوالي 47% من احتياطي النفط العالمي و41% من احتياطي الغاز فيه.

لذلك تنبع أهمية شرقي المتوسط للدول المطلّة عليه وخاصة تركيا، فهي تستورد 95% من اجمالي احتياجاتها من النفط والغاز بتكلفة تصل إلى 50 مليار دولار، ويُتوقّع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% خلال عام 2020، ومن المُرجَّح تراجُع حركة السياحة وبالتالي تقلّص إيرادات تركيا من النقد الأجنبي، بما يضر بقيمة الليرة التركية التي تراجعت بالفعل بنسبة 15% تقريباً مقابل الدولار منذ مطلع عام 2020، وبلغت أدنى مستوى لها في التاريخ بتحقيق 7.24 ليرة مقابل الدولار الأمريكي. من هنا إن الوطن الأزرق التركي هو المتنفّس للاقتصاد التركي، والحق التركي في التنقيب عن النفط والغاز هو السبيل لحماية الاقتصاد التركي من الأزمات، حيث تُقدّر قيمة الاحتياطي من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط بـ3 تريليونات دولار أميركي، وهو ما يكفي تركيا لمدة 572 سنة. وقد استأنفت تركيا عمليات التنقيب عن النفط في منطقة متنازع عليها في شرق المتوسط، غداة توقيع اتفاق بحري بين أثينا والقاهرة نددت به أنقرة.

إن الحدث الجلل الذي أصاب لبنان بانفجار مرفأ بيروت فتح المجال جلياً أمام التدخلات الأجنبية من جديد وبشكل مباشر في الداخل اللبناني، وبتنا أمام تدويل للأزمة اللبنانية ولكن هذه المرة بحكم الواقع والممارسة وليس بحكم القرارات الأممية. ولا يمكننا أن نغفل عن حركة البوارج الحربية البحرية في الشواطئ اللبنانية لتُعيد لنا بالذاكرة مشهد إنزال المارينز على شواطئ بيروت في العام 1958. هذه التحركات الحربية البحرية وإن كانت في ظاهرها هي للمساعدات الإنسانية، ولكن في جوهرها ومضمونها تحمل أبعاداً سياسية داخلية وخارجية. الداخلية تتمثل في السيطرة الخارجية على المرافئ اللبنانية لضمان التحكم بالنفط والغاز المتوقع استخراجه وأيضاً لضمان أمن الكيان الإسرائيلي، وتصريح المبعوث الاميركي ديفيد هيل يصبّ في هذا الاتجاه. أما البُعد الخارجي فيه فلا يمكن فصله عن الصراع على ثروات وموارد شرقي المتوسط، وما الهجمة الفرنسية المستجدّة إلا مظهر من مظاهرها.