IMLebanon

بعدما تخطّى سعر الكيلو الـ9000 ليرة… “قلبي من الحامض لاوي”

كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:

“عرف الحبيب مقامه فتدلّل” والحبيب اليوم هو الحامض ودلاله بات ثقيلاً جداً على جيوب اللبنانيين. ففي غمرة عثراتهم ومآسيهم قفز سعره بشكل جنوني وتخطى في الأسبوعين الأخيرين عتبة 9000 ليرة لبنانية، وبعد ان دخل لبنان موسوعة غينيس بأكبر كوب ليموناضة مصنوعة من عصير حامضه الطازج، إذ به يتهيأ ليدخل الكتاب نفسه بأغلى سعر لثمرة محلية تنبت على أرضه وفي سهوله. ماذا حصل وكيف صار الحامض عملة نادرة لا تطالها يد شعب يصرخ من ألمه: قلبي من الحامض لاوي…

في ما مضى من أيام حلوة كانت تقاليدنا اللبنانية تقضي، بحسب ما يخبرنا إياه كبارنا، بأن تزرع أمام كل بيت بيروتي شجرة ليمون حامض الى جانب الياسمينة، وكانت تلك الشجرة الطيبة تنافس زميلتها حسناََ وشذاً وتتفوق عليها طعماً وفوائد. لم يعرف حتى اليوم لماذا خصّت العائلات اللبنانية شجرة الليمون الحامض بهذه الميزة، وجعلتها جارة لها، إلا أن حب اللبناني للطعم الحامض يبدو متجذراً فيه بعد ان باتت حياته كلها “حامضة” وليس للحلو فيها إلا مروراً عابراً. حتى حالات القرف التي يعيشها والغثيان الذي يعاني منه يومياً حين ينظر الى حاله وحال دولته كان علاجه ” ليمونة حامضة”… اليوم حتى الحامض يخذله ويتآمر عليه وكأنه يريد له أن يبقي شعوره بالغثيان قائماً حتى يكتشف أساس الداء ويقتلعه من جذوره.

للحامض تاريخ إذاً في لبنان وقد شهد مراحل عزّ كان لبنان فيها يصدّر الى كل الدول العربية من بساتينه الجنوبية وكانت صيدا عاصمة الحمضيات، يعتاش الكثير من اهلها مما تجنيه بساتين الليمون الكثيرة فيها. وكان انتشار زراعة الحمضيات يمتد على طول الساحل اللبناني وسهل عكار وبعض المرتفعات التي لا تتعدى 400 متر. لكن الحال تبدّل كما تبدّل كل شيء في لبنان وما عاد للحامض مواسم عز كما كانت له في السابق وبات الإنتاج على وفرته، ضعيف النوعية حيث ان أشجار الحامض المزروعة في السهول الساحلية باتت قديمة يعود تاريخها الى أكثر من 90 سنة مضت، وتعبت تربتها وفتكت بها الآفات الزراعية وفق تقرير نشرته مصلحة الابحاث العلمية الزراعية منذ أعوام.

لكن المواطن اللبناني العادي لم يلحظ هذه التغيرات في انتاج الحامض ولم يهتم بنوعيته او نجاح تصديره الى الخارج، فهمّه كان أن يتأمن الحامض للتبولة والفتوش والحمص والبابا غنوج والعدس بحامض وسواها من الأكلات اللبنانية التي لا تطيب نكهتها من دون عصرة حامض. وكانت ربات البيوت يتحايلن على الحامض في الصيف عندما “يفطّم” موسمه ويرتفع سعره، فيعمدن الى استبداله بالخل اوحتى بـ”حامض الليمون” الذي رغم انه يحمل شهرة الثمرة إلا انه لا يمت إليها بقرابة، بل هو حمض الستريك المركب كيماوياً، أو كنّ يلجأن في عز الموسم لعصرالحامض وتحويله الى مونة تخزن في زجاجات لأيام “القطعة”. ودخلت بعض المصانع على خط إنتاج عصير الحامض، أو ما يشبهه بالطعم، لتؤمن البدائل عن الثمر الطازج خارج موسمه وتسهل على ربات البيوت مهمتهن، واشتهرت بعض الأسماء وفرضت نفسها بديلاً عن الحامض لبعض الوقت، لكن بريقها ما لبث ان خبا بعد أن لمس الكل ان لا بديل عن نكهة الحامض الطازج.

ما أرخصك يا حامض!

اليوم يبدو ان الحامض استعاد ايام مجده، ووصل سعر الكيلو منه الى 9000 ليرة لبنانية في سابقة هي الأولى من نوعها في لبنان. ولا نتكلم هنا عن فاكهة مستوردة او استوائية أوعن ثمرة نادرة يصعب ان تنمو في أرضنا، بل هي ثمرة الحامض التي لا يزال لبنان ينتجها بوفرة. فما سر هذا الارتفاع الجنوني في اسعاره وهل من مبرر زراعي او اقتصادي له؟

حملنا السؤال الى طارق مهنا وهو أحد اصحاب محلات الخضار “الدولوكس” التي باتت أشبه بمتاجرالمجوهرات، فأكّد لنا أن الموسم كان خفيفاً هذا العام لا كما السنة الماضية التي شهدت غزارة في الانتاج. والحامض يصدر الى الخارج بشكل علني عبر المطار الى الأردن والعراق وحتى الى بعض الدول الأوروبية. الحبة الجيدة الإكسترا تباع الى الخارج بالدولار أما الحبة العادية او أقل فتترك للسوق المحلي وتباع باللبناني بأغلى الأسعار. الحامض هذه السنة من النوع السيئ، فقشرته سميكة، لا يعطي الكثير من العصير وعند قصّ الثمرة غالباً ما تبدو جافة ومضروبة من الداخل.

السنة الماضية كنا نبيع الحامض بـ 2500 ليرة للكيلو الإكسترا و 1750 للعادي وعلى رأي المثل السوري القائل “ما أرخصك يا حامض”. كانت الكميات “بحر” نعرضها في صناديقها خارج المحل. اليوم صرنا نعرض الحامض “بالصدر” داخل المحل نظراً الى قيمته مثله مثل المانغا والأناناس…

ألا يأتينا حامض من سوريا يكون اقل سعراً؟ ليمون الحامض السوري يؤكد صاحب “الحسبة ” لا يتميز بنوعية جيدة مثله مثل الحبة العادية من الحامض اللبناني، يباع في المناطق الشعبية ومحلات الخضار درجة ثالثة… يقولها بشفقة. نحن نشتري القفص زنة 25 كيلو بـ 150000 ليرة بالجملة وقد ينزل سعره الى 135000 إذا كانت الكميات كبيرة، اي أن جملته اقل من سعر الرف بـ 1500 الى 2000 ليرة وقد يختلف السعر ألف ليرة للكيلو الواحد بين محل وآخر.

ربح محلات خضار “الدولوكس” بالحامض إذاً يتراوح ما بين 30 الى 35%. وإذا اعتبرنا الحامض من المواد الأساسية في سلة الخضار اللبنانية مثله مثل الخيار أو البندورة أو أقل بقليل، يمكن ان نعرف الأرباح التي يمكن أن يجنيها بائعوه إذا حافظوا على سعره مرتفعاً. والى ربح الحامض بالحبة يضاف الربح بالحامض المعصور المعبأ في زجاجات، التي بات الكثير من محلات الخضار يعمل على بيعها لا سيما للمطاعم والحانات. فقنينة عصير الحامض التي كانت تباع سابقاً بـ 5000 او 8000 ليرة وصلت بورصتها اليوم الى 20 او 25 ألف ليرة، ولكنه عصير صاف غير ملغوم بالماء او “حمض الليمون”!

ليموناضة “العز”

حين نذكر الحامض لا شك نذكر معه الليموناضة ومع الليموناضة نتذكر البترون وهنا تعود بنا الذاكرة بضع سنوات الى الوراء، حين نافسنا العالم بأكبر كوب من الليموناضة ونجحنا في دخول موسوعة غينيس يومها وهلّلنا، مسؤولين ومواطنين، للإنجاز العظيم ووُعدنا بمزيد من الإنجازات المشابهة. اليوم البترون تئن وتشكو محلاتها من ارتفاع سعر الحامض. Hilmi’s المعلم السياحي المشهور في البترون وصاحب كباية الليموناضة الأشهر، يعيد حساباته ليتمكن من تحمل الخسارة الناجمة عن ارتفاع سعر الحامض من دون ان يغلّي الأسعار على زبائنه. سعر الحامض كارثة يؤكد القيمون عليه، فقد ازداد 400% لكننا تحملنا الخسارة وخففنا من الأرباح حتى لا نحمّل الزبون وزر هذا الغلاء. لم نرفع سعر الكوب بما يوازي هذه النسبة بل اضفنا إليه فقط 2000 ليرة حتى نتمكن من الاستمرار.

غلاء الحامض ناجم عن تصديره يؤكدها لنا مرة جديدة المسؤولون هنا، ولكنهم يقولون أنه يصدر عبر البر الى العراق مروراً بسوريا او الى الإمارات، لأن هذه الدول تعاني من نقص في انتاج الحامض عندها. التجار يبيعونه بالدولار هناك، ويطلبون منا بالليرة اللبنانية ما يعادل سعره بالدولار فإذا باعوا القفص بـ 10$ يريدون منا ان ندفع 100000ليرة وهو أمر غير معقول ولا مقبول. والسكر كذلك ارتفع سعره بالنسبة إلينا، لا نشتريه بالسعر المدعوم المخصص للعائلات فقط وليس للمحلات، من هنا باتت الخسارة كبيرة. الزبائن تفهموا الأمر ولم يشتكوا من الارتفاع الطفيف الذي طاول سعر كباية الليموناضة لكن أوضاع البلد بدءاً من الكورونا وصولاً الى الانفجار الكبير هي التي اثرت على البيع وجعلت السوق يتراجع، على أمل ان تتحسن الأحوال ويعود لبنان الى طبيعته نحن مستمرون.

إرتفع سعر الحامض أم تراجع، فثمة من يفتشون بين بقايا الصناديق المهترئة عن حبة حامض لا تزال صالحة للعصر يحملونها الى عائلاتهم، في ظل الفقر المدقع الذي باتت غالبية اللبنانيين تعاني منه، علّها تحمل اليهم شيئاً من الطاقة او تمدهم ببعض فيتامينات الفرح وتقضي في احشائهم على الغثيان والقرف.