IMLebanon

لماذا خَرَج أو لماذا «أُخرِج» الحريري من السباق الحكومي؟!

الرئيس سعد الحريري يُعلن انسحابه من السباق الحكومي وعزوفه أو اعتذاره عن مهمة تشكيل حكومة جديدة.

هذا الأمر يحصل للمرة الثانية في غضون أشهر وفي ظروف مشابهة، وكان أسفر عن هبوط مفاجئ لحسان دياب في السراي الحكومي من خارج السياق ومن خارج نادي رؤساء الحكومات، ومن دون تغطية وموافقة أركان الطائفة السُنية.

ولكن ما يختلف هذه المرة أن لا مكان لحسان دياب آخر، وأن تجربة حكومة تكنوقراط مموهة ومقنعة لن تتكرر.

للمرة الثانية يُعلن الحريري انسحابه ويجد طريق عودته الى رئاسة الحكومة غير سالكة. هذا يعني أن الأسباب والظروف التي وضعته خارج الحكم مازالت قائمة.

وهذا يعكس المأزق السياسي الذي يتواجد فيه الحريري غير القادر على التقدم الى الصفوف الأمامية، وغير القادر على البقاء طويلا في الصفوف الخلفية.

وفي الحالين يتكبد خسائر ويواجه حال نزف في رصيده الشعبي إن عاد وفي رصيده السياسي إن لم يعد.

في بيان «الانسحاب» الذي أراده مكتوبا ورسميا ليؤكد جدية ونهائية قراره، أوحى الحريري بأن مشكلته الرئيسية تكمن مع الرئيس ميشال عون ومع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.

فهذا البيان تضمن رسائل عدة منها ما يتعلق بالمشاركة والاستشارات النيابية خلافا لما حصل في آخر استشارات (أدت الى تسمية دياب)، ولكن الرسالة الواضحة والمباشرة كانت في اتجاه بعبدا بدعوة رئيس الجمهورية الى احترام الدستور والدعوة فورا لاستشارات نيابية ملزمة والإقلاع عن بدعة التأليف قبل التكليف.

وكانت أيضا باتجاه باسيل الذي مازال (حسب تعبير الحريري) «في حال من الإنكار الشديد لواقع لبنان واللبنانيين، ويرى في تشكيل الحكومة مجرد فرصة جديدة للابتزاز من زاوية أن هدفه الوحيد التمسك بمكاسب سلطوية واهية، ولاحقا تحقيق أحلام شخصية مفترضة في سلطة لاحقة» (في إشارة يوحي الحريري من خلالها بأن باسيل يحاول مفاوضته على الحكومة مقابل رئاسة الجمهورية، وأنه يرفض هذه «المقايضة المستقبلية»).

من الواضح أن مشكلة الحريري هي أولا مع عون وباسيل، وهذا ما يوحيه عندما يقول إنه يرفض رئاسة الحكومة حتى لا يقع مجددا تحت الابتزاز ومن خلال تفاهم مسبق على الحكومة وربط التكليف بالتأليف.. ولكن من الواضح أيضا أن مشكلة الحريري هي أكبر وأوسع من مجرد خلاف مستحكم مع باسيل.. وعودته الى رئاسة الحكومة غير مرحب بها من الحلفاء والخصوم على حد سواء، الى درجة أن تسميته في استشارات التكليف ستكون ضعيفة ولا يحرز فيها رقما مرموقا.

فالتأييد الصريح والقاطع يأتيه من الرئيس نبيه بري فقط.

أما حزب الله فإنه غير ممانع ولكنه غير متحمس لعودة غير مشروطة للحريري، وتأييده له هو «تأييد مشروط» بتلبية متطلبات الشراكة والمساكنة من جهة، ومراعاة موقف رئيس الجمهورية من جهة ثانية، وهو ما لا طاقة للحريري على فعله وتحمله في ظل وضع دولي جديد أكثر تطويقا لحزب الله، وفي ضوء وضع شعبي أكثر حساسية ونفورا تجاه حزب الله بعد حكم المحكمة الدولية الذي أربك الساحة السُنية، وبعد انفجار بيروت الذي هز الساحة المسيحية.

موقف الحلفاء لا يبدو أفضل، ولا يشجع الحريري على المضي قدما في «مغامرة العودة»، وإن جاء هذا الموقف من منطلقات وخلفيات أخرى.

وليد جنبلاط ضد عودة الحريري في هذا الظرف ونصحه بالابتعاد حتى لا يعرض نفسه لفشل جديد ويجد نفسه مجددا أمام حائط مسدود.. سمير جعجع ضد هذه العودة أيضا ولأسباب سياسية أكثر منها «شخصية»، بمعنى أن تولي الحريري رئاسة الحكومة في ظل الأوضاع وموازين القوى القائمة لا يلحق الضرر بشخص الحريري ورصيده فقط، وإنما بمجمل الوضع، لأنه يسهم في تغطية وإنعاش السلطة القائمة على تحالف عون ـ حزب الله، من دون أي مقابل وتنازل، وفي تكريس الواقع القائم وحيث المشكلة ليست في الحكومة وإنما في الطبقة الحاكمة، والحل ليس في حكومة جديدة وإنما في مجلس نيابي جديد وانتخابات مبكرة.

يواجه الحريري وضعا داخليا يحاصره بالضغوط ويطوقه من كل الجهات وعلى كل المستويات ويجعله متهيبا للموقف، ولكن مشكلته الفعلية ليست في الداخل وإنما مع الخارج.

فباستثناء الموقف الفرنسي الذي يبدو الاكثر تقبلا لخيار الحريري على المستوى الدولي، والموقف المصري المماثل على المستوى العربي، وكلاهما على قدر من التناغم مع موقف بري وخطته، مازال الموقفان الأميركي والسعودي رافضين لتولي الحريري رئاسة الحكومة في هذه المرحلة، وهذا الرفض انعكس على الفرنسيين الذين ما عادوا يركزون على شخص رئيس الحكومة وإنما يعطون أولوية لبرنامج ومهمة الحكومة بصفتها «حكومة مهمة Mission وانقاذ».

السعوديون رافضون لعودة الحريري الى السراي بعدما فشل لسنوات في إحداث أي خرق أو تقدم على الساحة اللبنانية وما نتج من إحباط سُني ومن تقدم وسيطرة لحزب الله لمصلحة المشروع الإيراني في المنطقة.

وهم لا يريدون للحريري أن يكون من جديد متراسا لإنقاذ العهد وتوسيع نفوذ حزب الله.. والأميركيون الذين يشجعون على ثبات الموقف السعودي، يعتبرون أن الحريري سيكون غطاء لحزب الله وليس قادرا على اتخاذ خطوات على صعيد مواجهته، وهو ما أثبته طوال فترة وجوده على رأس الحكومة.

وبالتالي، لا تريد واشنطن خصوصا في هذه الفترة الحساسة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية حكومة في لبنان يشارك فيها حزب الله ويكون مسيطرا ومهيمنا على قراره.

ولما صار من المؤكد أن انسحاب أو اعتذار الحريري ليس مناورة لتحسين شروط التفاوض بقدر ما هو هروب الى الأمام ورمي لكرة المسؤولية (مسؤولية التعطيل والتأخير) في مرمى عون وحزب الله.. فإن السؤال يصبح: كيف سيتصرف «الثنائي الحاكم»؟ وما الخيارات المتاحة والمطروحة؟!

٭ الخيار الأول: هو إقناع الحريري بتسمية مرشح آخر يحظى بالقبول من الجميع، وخصوصا من عون والحزب، ولا يكون مرشح استفزاز أو تحديا.

٭ الخيار الثاني: أن يصار الى استشارات نيابية تفضي الى «حسان دياب آخر»، بالاحتكام الى أكثرية الأصوات.

٭ الخيار الثالث: أن تظل الدعوة الى الاستشارات النيابية مربوطة ومشروطة بتفاهم مسبق على رئيس الحكومة.

وطالما هذا الاتفاق غير متوافر، فإن الاستشارات وعملية التكليف تظل معلقة لأسابيع ومفتوحة من دون سقف زمني محدد.

انسحاب الحريري يعيد خلط الأوراق ويعيد الملف الحكومي الى النقطة صفر، أي النقطة التي كان فيها بين استقالة الحريري وتكليف دياب.. والنتيجة الواضحة في كل هذا الوضع الشائك والمعقد أن حكومة تصريف الأعمال مستمرة حتى إشعار آخر، وأن إقامة حسان دياب في السرايا ستطول، وربما هو الآن وبين قلائل من يضحك في سره، إذ بعدما «أقيل» هو من رئاسة الحكومة ودفع الى الاستقالة، يرى الآن أن الحريري أُخرج من السباق الحكومي ولم يخرج بملء رغبته وإرادته.