IMLebanon

4 آب – 4 أيلول… مَن “قتل” بيروت؟

كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:

شهر بالتمام والكمال، ثلاثون يوماً، 720 ساعة، 43 ألفاً و200 دقيقة، 190 ضحية وأكثر بينهم 4 أطفال، 6000 جريح وجريحة وأكثر، مفقودون، دمار، وبكاء كثير… وها هو الوقت يمرّ. فماذا عن المشهد الواقعي؟ ماذا عن “مشهد الأرض”؟ ماذا تغيّر في شهر؟ الأمل؟ الصبر؟ الإحباط؟ المساعدات؟ الزجاج المشلّع؟ وبيروت النازفة؟ هل بيروت ما زالت بيروت؟

لا، لم ينته المشهد بعد. ما زال من يسرح في بيروت النازفة، ويملك قلباً، “يتش بدنه” لهول المشهد. نكبة الاشرفية ومارمخايل والجميزة والكرنتينا تستمر هائلة والعيون تستمر تائهة والبيوت تستمر مخلعة والأحياء، التي تنغل بالمساعدات والمساعدين، تستمر بلا نبض. “we are not leaving” عبارة عُلقت على آرمة كبيرة على أطلال “بور” بيروت أما بقايا الخرطشات على الحفافي، فواضحة “Good Bye Beirut” فأيها نصدق؟

الجدران مغطاة، على الميلين، بالمنشورات والقصاصات الورقية الإعلانية: دعامات للبيع والإيجار، سقالات، هندسة مقاولات، تعهدات، تصميم، تركيب ألومنيوم، تركيب زجاج… وأصوات “طقطقات” الزجاج لا تزال، بعد شهر، قوية. والتحذيرات من خطر وقوع المباني مستمرة. ثمة مبانٍ، في منطقة مارمخايل وقعت وهناك مبانٍ تقوم المديرية العامة للآثار بأعمال تدعيم طارئة لها. ثمة عمال في كل مكان. فرقة إنقاذ تشيلية وصلت قبل 25 يوماً وستبقى عشرة أيام إضافية. المسؤول عن الفرقة واسمه “توبوس” يسألنا قبل أن نسأله: هل تعرفون تشيلي؟ قوام الفرقة الآتية من تلك البلاد، في أميركا اللاتينية، 20 شخصاً، بينهم صبايا، ومعهم كلب، أتوا به من بلادهم، وهو يلهث منهكاً. هو بالكاد يستريح منذ 25 يوماً ساعات قليلة، واليوم (البارحة) بحث كثيراً بين أنقاض مبنى، أول مارمخايل، عن “مفقودين”. هو تنشق رائحة موت وآلة تقنية متطورة جداً، مملوكة من الفرقة التشيلية، التقطت “نبضات” ما أكد وجود مفقودين. مفقودون؟ كيف؟ ألا يعتبر هذا إهمالاً آخر؟ الجواب ليس طبعاً عند التشيليين. نتابع الإصغاء الى “توبوس” وهو يُخبرنا عن مسؤول عسكري (لا يعرف اسمه) تروى في الإيذان لهم بالدخول الى قلب الميناء في الأيام الأولى، ليساعدوا في البحث عن الناجين، وبعدها “اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب”. بائع قهوة يسرح في الجوار منادياً “قهوة قهوة”. ذكرنا بأيام المخابرات.

وجد… هل من يعرف شيئاً عن أصحابه؟

بعد شهر على المأساة لا يزال يظهر، من بين الركام، حجم الإهمال! لكن، هناك في المقابل، ضربات قلب كثيرة دقت بشدة حين سمعت أن إنساناً قد يكون حياً، بلا مياه ولا طعام، وبلا حتى هواء! ثمة أمل؟ الثابت أن لا مستحيل تحت الشمس.

“بسمة بيروت”. هو اسم جمعية اتخذت لنفسِها خيمة. نبحث في الأرجاء عن بسمات، عن بسمة واحدة، فلا نرى إلا القهر العميق. جماعة USAID ينغلون. جماعة “اليونيسف” ينتقلون بين الأحياء ويساعدون في إعادة المياه الآمنة الى المنازل والمباني، ويتحدثون عن 1000 طفل جريح و4 أطفال ضحايا وعن آثار جد خطيرة عليهم ستتردد أصداؤها، إذا لم يتكاتف الجميع، لسنوات طويلة قادمة. نتابع مسارنا. بيت ناجي، بابا ناجي كما يناديه كل المصورين، مشلع. وهو غادر مع عائلته الى مكان ما. جمعية “تمنى” تتمركز في خيمة معلنة “نرمم الأحلام”. مهمتها ليست أبداً سهلة. جبهة السيادة اللبنانية ايضاً موجودة وتعلن في شعار “no reform without sovereignty” (لا اصلاح بلا سيادة). ننظر حولنا فنرى شعارات شعارات: أنا أرفض هذه المنظومة السياسية أنا أرفض سلاح “حزب الله”.

يقترب منا شاب طالباً مساعدة. إسمه سليمان العقلة من البقاع. لا أهل لديه، وهو كان يسكن قبل الإنفجار في رياض الصلح واليوم اتخذ مسكناً خيمة في الجميزة ويقول: “عمي “زعبني” وليس في حوزتي مال ولا طعام. بدلت ملابسي مرتين في شهر”. ينضم إليه حسن فياض الحاج حسن الذي يعمل، او كان يعمل، في “العتالة” في مرفأ بيروت وهو اصبح عاطلاً عن العمل. يُخرج من جيبه اذناً من دائرة أمن عام مرفأ بيروت يُصرح له بالدخول الى الميناء موقعاً من الرائد داود فياض. العم حسن يعيش بدوره على المساعدات.

وجدتا هرّة كانت مفقودة
مجموعة نسوة يتحلقن حول طاولة الليونز يطلبن ربطات خبز. وكل واحدة تريد بدل الربطة إثنتين. بالقرب منهن خيمة الشبكة الوطنية للرعاية التي تعمل “صلة وصل” بين من يساعد ومن يحتاج الى مساعدة. وعلى بعد مسافة قصيرة طاولة الإتحاد النسائي التقدمي. رشا جبر، الناشطة في الاتحاد، تتحدث عن أهداف جلوسها، مع رفاقها، في الأحياء المنكوبة: “نهتم بكبار السن ونقدم رعاية منزلية مجانية لمن يحتاج وإسعافات نفسية أولية للنساء اللواتي “تحت الصدمة” ومنهن الحوامل او اللواتي تعرضن الى الإجهاض بفعل الانفجار”. ونحن نصغي الى رشا نتأكد مجدداً أن ارتدادات الرابع من آب لن تنتهي في الرابع من أيلول ولا في المدى المنظور. تنضم إليها المسؤولة الإعلامية في الإتحاد النسائي التقدمي متابعة الحديث عن “المهمات الصعبة” في هذا الزمن الصعب.

نجول في أحياء الأشرفية. ثمة صور نراها لأول مرة لضحايا “فلوا” في ذاك اليوم. جو أندون صوره في كل مكان. صور المهندس يعقوب بولس الجميل على الجدران. صور الصبية ديانا ميشال خوري “شهيدة دولة المافيا والزعران” تتدلى بين أغصان الزيتون والتوت في أحياء الأشرفية… أجمل الوجوه باتت بلا حياة… مبنى شركة الكهرباء يستمر مشلعاً ووحدها آرمة “خدمة الزبائن” لا تزال واقفة. آرمة بلا معنى. الجمعية الطبية الإسلامية أتت من طرابلس مع عربة اسعاف تقدمة محمد بن راشد آل مكتوم والممرضة في الجمعية يسرا عويد تتحدث عن المساعدات المقدمة “البارحة إستقبلنا 70 حالة، عدد من بحاجة الى مساعدات، يرتفع بعدما تضاءل عدد الجمعيات التي تقدم هكذا خدمات بعد مرور شهر على الإنفجار. هناك كثيرون يلجأون إلينا لتنظيف جروحهم ونذهب نحن أحياناً الى بعض البيوت. ونوزع الى من يحتاج الشاش و”البلاستير” والمعقمات”.

إستراحة الفريق التشيلي
مكتب المختار بشارة أنطوان غلام، كما منزله الموغل في التاريخ، في حال يرثى لها. التشيليون، بالقرب من المكان، ما زالوا يعملون، والكلب الذي أتوا به معهم، أنبأهم الى وجود رائحة موت في المكان. وصبيتان، في العشرين، تهرولان بعيون فرحة. ثمة هرّة في صندوق بين أيديهن وجدتاها للتوّ. يا الله كم هما فرحتان لنجاة هرة في حين هناك من لم يرفّ له جفن لمئات الضحايا والمفقودين! ننظر الى الجدران ونلتقط صرخات من نوع آخر من سكان مارمخايل والجميزة: القطة “كوكي” فقدت قرب مستشفى الروم ومن يجدها له مكافأة وكثير من الحب. هرة أخرى سوداء وبيضاء مفقودة. وصورة ثالثة لكلب أشقر وجده أحدهم وهو في انتظار اصحابه إذا كانوا لا يزالون أحياء.

“من قلبي سلام لبيروت”. عبارة تتكرر. ثلاث واجهات لمحال ستائر في مارمخايل عادت تعمل. وصاحب المحال أعاد تركيب واجهات من ماله الخاص، من عرق جبينه ويقول “دفعت 250 دولاراً عن كل واجهة، بسعر صرف 8000 ليرة. ننتقل الى الكرنتينا. هناك، على الطريق، عند مدخل “فوروم دو بيروت” المشلع بالكامل يافطة كتب عليها: “السلطة قتلت شعبها… علقوا المشانق”. دمار وكثير كثير من الأطفال. نراهم يلهون بين الركام. وصل الغذاء. ثمة أطباق تتكدس الى جانب “جمعية أطباء العالم- فرنسا”. والسكان يتقاطرون لأخذ حصصهم. هو مشهد بيروتي آخر استجد في شهر.

نعود الى مارمخايل. نقف أمام تمثال العذراء. كل شيء ركام ووحدها العذراء صامدة ونقرأ: هنا، أمام مزار السيدة العذراء كادت تنفجر سيارة رينو 18 في 12 ايار 1986. في ذاك اليوم نجا الحي بمعجزة. ننظر الى اليمين. الفرقة التشيلية وشباب الدفاع المدني ما زالوا يعملون. ثمة معجزات قد تحصل.