IMLebanon

فوج الإطفاء لم يكن على علم بأي عمليات تلحيم في المرفأ

كتب حسين طليس في “الحرة”:

بيروت تختنق… ليس مجازاً إن قيل أن “السبب واحد”، عمليات التلحيم التي كانت مسؤولة عن شرارة انفجار المرفأ قبل أكثر من شهر، تسببت مجدداً، بحسب مزاعم شهود عيان، باندلاع حريق ضخم في المنطقة الحرة بمرفأ بيروت، ما أدى إلى خنق العاصمة بدخان أسود سام لف سماءها وتساقط رماداً أسود على بيوت أهلها.

هو الحريق الثاني الذي يشهده المرفأ في غضون أقل من يومين. الأول كان بعلم الجيش اللبناني، وفقاً لبيان صادر عنه، حيث جرى إحراق “ردميات وبقايا اخشاب وإطارات ونفايات” نتجت جميعها عن الانفجار، وسط استعدادات مسبقة بالتنسيق مع الدفاع المدني وفرق الإنقاذ وقد تمت السيطرة على الحريق سريعاً في حينها.

ومع ذلك أثارت عمليات الحرق حفيظة الرأي العام اللبناني الذي طرح أسئلة حول سلامة “مسرح الجريمة”، والأدلة التي قد تحملها الردميات المحترقة لاسيما وأن لا نتيجة نهائية للتحقيق قد عرضت على الرأي العام اللبناني حتى اليوم.

تلاعب بمسرح الجريمة؟

الغموض المستمر بنتائج التحقيقات، سرعان ما دفع اللبنانيين إلى تبني نظرية “إحراق أدلة” بمجرد اندلاع الحريق الثاني، وهو ما ظهر واضحا من خلال تصدر هاشتاغ “مسرح الجريمة” قائمة الكلمات الأكثر استخداما على تويتر في لبنان، واعتبر من خلاله اللبنانيون أن هذه الحرائق مفتعلة لإخفاء الأدلة التي قد تدين المسؤولين عن انفجار المرفأ وتكشف ملابسات المواد المتفجرة التي تسببت به، وما عثر عليه لاحقاً خلال عمليات الإنقاذ والبحث.

20 حاوية من المواد الكيميائية الخطرة، أعلن عنها عضو في فريق التفتيش الفرنسي خلال تصريح صحافي بعد 6 أيام على الانفجار (10 آب). أكثر من 70 حاوية من المواد الخطرة أيضاً كشف الجيش اللبناني عن عثوره عليها في مرفأ بيروت محيط مكان الانفجار خلال الفترة الممتدة بين 14 و22 آب، وآخر ما عثر عليه كان كمية من مادة نيترات الأمونيوم تبلغ زنتها حوالي 4.35 أطنان في “بورة الحجز” التابعة للجمارك خارج حدود المرفأ قرب المدخل رقم 9.

كل هذه المواد لم يُعرف صاحبها، ولم تحدد أي مسؤولية من قبل القضاء رغم الخطورة البالغة التي تشكلها، وهو ما لا يمكن إغفاله بالنظر إلى الحريق المستجد بحسب الخبير العسكري نزار عبد القادر، الذي يرى أن ما جرى “ليس بريئاً، ولا بد من ربطه بما وجد من مواد في المرفأ مؤخراً، لذلك هناك محاولات لفتح أبواب تعقد التحقيق الأساسي في الجريمة الأولى، وهذا الحريق جزء منه، ولا يمكن أن أقتنع إنه في ظل هذه البقعة المحروسة أمنياً وتحت أنظار العالم كله يمكن بين دقيقة وأخرى ان ينتج حريق بهذا الحجم ويمتد بهذا القدر الذي تطلب كل إمكانات لبنان البرية والجوية لإخماده، دون أن يكون مفتعلا أو ملحوظاً على الأقل”.

حريق اليوم كشف بالنسبة إلى عبد القادر حجم الفوضى التي تسود المرفأ بعد الانفجار، “ورغم كل ما عثر عليه من مواد أظهر حريق اليوم أن المرفأ كله عبارة عن قنبلة موقوتة ومواد قابلة للاشتعال.

هذه الفوضى يستغلها كل من لديه مصلحة في تعقيد التحقيق وتضليله، وخلق تعقيدات وتكبير حجم المهمة بالتحقيق وذلك لعدم الوصول إلى المجرمين والمسؤولين الحقيقيين”.

كان يجب بحسب عبد القادر “أن تشكل على أعلى المستويات لجنة مسؤولة من وزارة الأشغال والعدل والدفاع والداخلية تدير المرفأ وترفع وتستخرج كل المواد المشبوهة وتتفقد كل العنابر ومحتوياتها من مواد وإمكانية اشتعالها أو انفجارها وإخراجها إلى خارج المرفأ وتجنب وقوع أي عمليات تخريب أو صدف استبعدها”.

يذكر أن الرئيس ميشال عون طلب بعد اندلاع الحريق تشكيل لجنة برئاسة وزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال تضم ممثلين عن الأجهزة الأمنية وشركة المرفأ، لوضع تنظيم جديد للعمل في المرفأ وتأمين السلامة العامة فيه.

عمليات تلحيم مجدداً

وفقاً لما كشفه لموقع “الحرة” أحد شهود العيان الذين كانوا قرب موقع الحريق التابع لمستودعات “بي سي سي” في المنطقة الحرة، فإن المستودعات شهدت قبل اندلاع الحريق بوقت قصير عمليات قص وتذويب للعواميد الحديدية الكبيرة التي تبعثرت في المكان بنتيجة الإنفجار ضمن عمليات رفع الأنقاض، وما لبث أن امتد الحريق بين البضائع المتناثرة بسرعة كبيرة. زيوت للطعام، مواد غذائية، إطارات مطاطية، وألبسة ودهانات، كلها اشتعلت بسرعة كبيرة جداً وامتدت بغضون دقائق معدودة وكأن المكان كله كان قابل للاشتعال، بحسب شاهد العيان، الذي يؤكد أن القوى الأمنية كانت متواجدة بالقرب من مكان الأعمال التي كانت قائمة وعلى اطلاع بها.

هذه المعلومات يؤكدها مسؤول العلاقات العامة في فوج إطفاء بيروت الملازم أول علي نجم الذي شرح في حديثه لموقع “الحرة” أن “مكان الحريق مليء بالمواد الزيتية القابلة للإشتعال والبلاستيك والمواد الغذائية، وفق ما عاينه عناصر الفوج”، مرجحاً وفقاً لما تلقاه الفوج من روايات أن تكون عمليات التلحيم تسببت باندلاع الحريق، مشدداً على أن التحقيق الرسمي وحده ما يحدد الأسباب الحقيقية.

نجم أكد أن “فوج الإطفاء لم يكن على علم مسبق بأي عمليات تلحيم في المكان ولم يتم التنسيق معه أبداً وإنما تلقى الخبر كما تلقاه المواطنون وهرع سريعاً بإمكاناته المتواضعة لمحاولة السيطرة على الحريق الذي امتد على شكل حرف U وعلى هذا الأساس بدأ الإخماد بمساعدة كافة الجهات والأجهزة الأمنية والجيش وجرى سريعاً إبعاد النيران عن خزانات شركة “توتال” النفطية التي كانت استقدمت في فترة التنقيب عن غاز في لبنان، وكان يمكن أن يكون اشتعالها خطيراً”.

يذكر أن عمليات التلحيم كانت الفرضية الأكثر ترجيحاً لأن تكون سبباً في اندلاع الحريق الذي أدى إلى انفجار المرفأ في الرابع من آب الماضي، بحسب ما يُسرب التحقيقات الجارية وهو ما يؤكده أي تصريح رسمي في ظل غياب تام للشفافية في كشف ما تتوصل إليه التحقيقات أمام الرأي العام.

بحسب الخبير الاستراتيجي والعسكري العميد سمير الخادم وضع خلال حديثه مع موقع الحرة 3 فرضيات الأكثر ترجيحاً لأسباب ودوافع هذا الحريق. الأولى، أن يكون الإهمال وسوء التخزين لاسيما بعد الإنفجار بالإضافة إلى أعمال التلحيم قد تسببت باندلاع هذا الحريق والمعطيات نفسها أدت الى امتداده بهذا الشكل قبل أن يتم رصده من قبل الجهات المشرفة على إدارة المرفأ.

أما الفرضية الثانية فهي فرضية أن يكون الحريق مفتعلا من قبل أصحاب هذا المخازن والمواد الموجودة فيه، وذلك من أجل تجنب التكاليف المترتبة على تخزينها في المرفأ من جهة، ومن جهة أخرى يحصلون على تعويضات من شركات التأمين التي ما كانت ستعوض عن الأضرار التي تسبب بها الانفجار، بعكس الأضرار الناتجة عن الحريق.

وهذه الفرضية كان أيضاً قد أشار إليها الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي، المتابع لملف المرفأ، حيث نقل عبر صفحته على فيسبوك عن أحد مصادره في المرفأ أن جهاز الجمارك كان يطالب أصحاب هذه البضائع التي احترقت في المنطقة الحرة أن يوقعوا على أوراق رفع مسؤولية عن الجمارك اللبنانية تجاه كل الخسائر والأضرار التي تسبب بها الإنفجار، “وعليه يبدو أن هنالك من قرر أن يحرقهم.”

أما الفرضية الثالثة فيعود بها العميد سمير الخادم إلى  نظرية إحراق “مسرح الجريمة لطمس أدلة ومواد كان يمكن أن تساعد في كشف تفاصيل حول المسؤولين عن انفجار المرفأ، وعلى الرغم من أن المكان بعيد جداً عن موقع الانفجار، ومن المستبعد أن يضم أدلة ملموسة تستدعي طمسها، إلا أننا في لبنان وكل شيء وارد”.

يعارض الأستاذ الجامعي المتخصص بالعلوم الجنائية عمر نشابة نظرية أن المكان بعيد عن موقع الإنفجار، ويؤكد إنه يبعد 700 متر فقط، “وإذا ما أدرنا نتيجة علمية دقيقة، كان يجب احتساب دائرة مسرح الجريمة انطلاقاً من قوة الدفع التي تسبب بها الانفجار، وبما أن الانفجار كان بهذه الضخامة وشاهدنا مقذوفات منه سقطت أبعد من مكان حصول حريق اليوم، فإن 700 متر ليست بالمسافة البعيدة وكان يجب أن تحدد من ضمن مسرح الجريمة”.

“كان يفترض منذ الليلة الأولى للانفجار، أن تحدد الدائرة الواسعة له ويتم اغلاقها نهائياً أمام الجميع باستثناء المحققين، يتم من بعدها وضع خرائط قبل وبعد الانفجار، من أجل كشف أي عملية تلاعب بالموجودات بعد الانفجار، وعليه كان يجب تصوير المكان، وإدارة عملية الدخول والخروج إليه ووضع نظام التصاريح المسبقة ومراقبة وتفتيش كل داخل وخارج واغراضه وخلال عمله في الداخل ولو أن هذا ما كان يحصل لما شهدنا حريق اليوم وهذا مستوى عالي من انعدام المسؤولية”.

فائدة ذلك بحسب نشابة أنه يمكن ان يكون تطاير إليها بعض الموجودات المفيدة للتحقيق يجب ان تخضع جميعها للرقابة والمسح الشامل وابقاءها مغلقة إلى حين انتهاء التحقيق. إذ التحقيق الاستنطاقي أو الجنائي من الممكن أن يصلوا في أي لحظة إلى معلومة حول مواد معينة أو أدلة ملموسة تساهم في تحديد المسؤوليات وإدانة المرتكبين، وهو ما يوجب مسحاً ثانياً وثالثاً كلما تطلبت الحاجة للبحث عن مواد محددة، وهذا ما لم يعد ممكناً في مكان الحريق.

يرى نشابة أن “كل ما يجري وجميع الفرضيات تقول إننا نعيش في فوضى عارمة وغياب تام لأدنى شعور بالمسؤولية، هناك تقصير من أعلى المستويات وكافة الجهات، أمنياً وإدارياً وقضائياً في الدولة اللبناني، وسط تهرب وقح من المسؤوليات وتقاذفها في ما بينهم، فيما يتلقى اللبنانيون في كل يوم صدمة جديدة ويعيشون مجدداً مخاوف انفجار ثان أو كارثة جديدة”، متسائلاً “أي حس بالإنسانية أو بالمسؤولية يسمح لقيمين على مسرح الإنفجار بإفتعال حريق قبل يومين أعاد كما حال حريق اليوم مشاهد الدخان المتصاعد إلى أذهان أهل المدينة وأطفالها؟”.