IMLebanon

باريس تواجه إنقلابات في المتوسط ولا تحتمل الفشل في لبنان

كتب أنطوان الأسمر في “اللواء”:  

الحلقة الحكومية المفرغة مرشّحة الى مزيد من السلبية، لا سيما في ضوء مقاربة أميركية تعتقد بأن المبادرة الفرنسية فقدت صلاحيتها وصارت خارج السياق المقبول. وهذا السياق تحديدا يرى أن لا مجال للتطبيع مع حزب الله ولا مع مشروعه اللبناني والإقليمي، وتاليا لا بد من مواصلة الضغط والعصر وصولا الى إنهاكه، بصرف النظر عن أضرار تلك المقاربة على الوضع اللبناني، وتأثير فشل المبادرة الفرنسية على صانعها، فرنسيا ومتوسطيا.

لا يُخفى أن الإليزيه يخوض راهنا حروبا سياسية مكلفة، مع أنقرة، بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن غيرها. تستعين القيادة التركية لتنفيذ أجندتها الغازية، ببعض حلفائها من عواصم ومجموعات. وتفترض تلك الأجندة تمددا للنفوذ التركي في شرق المتوسط، وهو ما تستميت له انقرة في صراعها مع اليونان ودول أخرى في المنطقة. كما تفترض تمددا للنفوذ من نوع آخر في أفريقيا، حيث تجد باريس نفسها مهددة بفقدان موطئ القدم في مالي بعد الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالحليف، وهو إنقلاب مدموغ ببصمات تركية، في موازاة إنقلاب من نوع آخر في موزامبيق حيث تواجه شركة توتال حربا تكفيرية شاملة بقيادة مجموعات داعشية، تهدد إستثماراتها الغازية، وهي تقرب من الـ15 مليار يورو.

تلك التحديات الفرنسية، وخصوصا المتعلقة بالمتوسط، شرحها إيمانويل ماكرون تفصيلا تحت عنوان لافت Notre Méditerranée gronde (متوسطنا يزمجر)، متناولا في جزء منها الشأن اللبناني، ليخلص الى ان حوض شرق المتوسط هو على حد سواء غنيّ بالغاز وطريق إنتقاله الى أوروبا. وهنا تكمن أهميته أوروبيا، بحيث تستفيد شعوب المنطقة من الثروات الكامنة شرط توقيع إتفاق دولي للقوى المؤثرة متوسطيا ينظم طرق إدارة هذه الثروات. وليس خافيا أن النفوذ الغالب في شرق المتوسط هو راهنا نفوذ ثلاثي أميركي وروسي وتركي، فيما تعوّل باريس على نجاح مبادرتها اللبنانية لتفرض نفسها الجناح الرابع في هذا الاتفاق. وتاليا إن خسارتها اللبنانية تحتم خروجا مبكرا ومذلا من الإدارة المنشودة لثروات شرق المتوسط.

باريس حيّدت التهديد بالعقوبات وتخلت عن مهلة الاسقاط لمصلحة مساحة واسعة من الحوار

في الأصل، الأفكار البسيطة التي حملها معه الى بيروت ماكرون للمشاكل اللبنانية المعقدة، سرعان ما أوجدته في مأزق يستحيل تدريجا الى إستعصاء. صار الرجل في حاجة ماسّة الى خبرات لبنانية تمدّه بأفكار مركّبة بما يتيح له تخطّي العقبات التي حالت الى الآن دون أن يحقق مبتغاه، وهو مبتغى لبناني شكلا، متوسطيّ مضمونا يرتبط وثيقا بالصراع القائم على غاز الإقليم ونفطه من إسرائيل الى ليبيا، ومرورا خصوصا بلبنان، حيث لا يزال البئر الغازي في البقعة الرابعة لغزا حبكته توتال ولم تفرج عنه بعد، رغم أن التحليل العلمي – التقني لأعمال الحفر كان يفترض صدوره في مهلة أقصاها آب الفائت.

المهمّ أن ماكرون الذي كوّن في الشهر الأخير صداقات لبنانية جديدة لافتة مع عدد من المسؤولين، وخصوصا ممن كانت تقارير الدسّ والتدليس قد شوّهت صورتهم فرنسيا، صار يطلب من هؤلاء النصيحة تلو الأخرى. يهاتفهم، يومياً أحيانا وفق مقتضيات تدرّج التعقيدات اللبنانية، ويستشيرهم، والأهم أنه يسمع ويأخذ بالنصائح. لذلك كان لافتا تطويره المبادرة، تدريجا، في موازاة إدراكه، ربطا بتلك النصائح، أن التهديد بالعقوبات ليس الحلّ السحري كما صُوّر له خطأ بداية تدخلّه، وأن تحديد مهلة الإسقاط (15 يوما تحت طائل الانسحاب وترك لبنان ينهار) لا يعكس هو الآخر ما يراه اللبنانيون في فرنسا الصديقة لا المستعمِرة، العطوفة لا المتجبّرة.

ما حصل أن باريس، ربطا بفهمها الجديد للواقع اللبناني، حيّدت عن مبادرتها التهديد بالعقوبات، وتخلت عن مهلة الإسقاط لمصلحة مساحة واسعة من الحوار نُصح بها مصطفى أديب بعدما ثبُت أن إقفال الباب على نفسه، كما فعل في أسبوعيّ التكليف، ليس ذات جدوى، لا بل جاء بضرر شديد وزاد التعقيد تعقيدات، وقضم كثيرا من المومنتوم الذي نتج من الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي غداة مأساة مرفأ بيروت.

وما حصل أيضا أن باريس تيقّنت أن ثمة فريقا سياسيا -مذهبيا تراءى له أن في مستطاعه توظيف مبادرتها للإنتقام من الفريق المناهض ومن العهد على حد سواء، من خلال الإصرار على أفكار مسبقة مشبّعة بالإقتصاص، وعلى ثوابت لم تكن في الأصل ثوابت فرنسية. ولما إتّضح لها ذلك، كلفت الرئاسة الفرنسية المسؤول الأبرز راهنا إجراء إتصال بالقيادة السعودية للتشاور والنصح والإنتصاح. وجاء الاتصال بالنتيجة المعروفة: لا نتدخّل ولا نريد ذلك. لكن الكسب الفرنسي تمثّل في لفت الإنتباه الى وقائع لبنانية، من قبيل الرغبة في الإنتقام، لا يجوز تمريرها ويُخشى من أن تؤدي الى تعقيدات جمّة، وصولا الى استشعار إحتمال حدوث تطورات أمنية تقضي على ما بقي من إستقرار هش.