IMLebanon

هل تتحرّك الدولة بوجه “مافيا الدواء”؟

كتب مازن خطاب في “اللواء”:    

تُشكّل الصّحة واحدة من الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها مؤشرات التنمية في البلاد، في بُعديها التنموي والاقتصادي، الّا انّها أعمق وأسمى من ذلك كونها قضية إنسانية تتعلق بالحفاظ على حياة المواطنين والمقيمين. ومن ضمن الإطار الصحّي يُشكّل الدواء القضية الأكثر إثارة بعد فضائح عديدة طالت هذا الملف بفعل «مافيا الدواء» التي تتقاطع عندها مصالح سياسية وطائفية ومالية ضخمة وخطيرة. ويبدو جلياً أنّ تحقيق الأرباح لأعضائها يفوق أهمية أي اعتبار آخر، حتّى وان جاءت على حساب أرواح الأبرياء، ما يفسّر فشل جميع محاولات إصلاح ملف الدّواء ومن ضمنها احباط وضع «لائحة أساس للدّواء»، ومنع تحرّك التفتيش المركزي وتحقيقاته، وعدم انشاء المكتب الوطني للدواء وغياب المختبر الوطني للدواء، ومنع خفض أسعار الدّواء من خلال السماح بالاستيراد المباشر من بلد المنشأ، وغيرها.

لا سياسة دوائية وطنية في لبنان في ظلّ «مافيا الدّواء»

في هذا المجال نستندُ الى النائب السابق الدكتور إسماعيل سكريّة، رئيس «هيئة الصحّة حق وكرامة»، الذي يمثّل مرجعيّة في ملفّ الدّواء على مدى عقود طويلة سخّر فيها جهده وخبرته لمتابعة هذا الملفّ الشّائك وتسليط الأضواء على خفاياه ومخاطره، قائلاً بشجاعة في كلمة له أمام المجلس النيابي: «إذا كانت مافيا الدّواء قد أضحت بمثابة القدر الذي لا يُردّ، فإنني لن استسلم لهذا القدر…»، وهو الذي قدّم عدداً من الأسئلة النيابية والاستجوابات الى الحكومات المتعاقبة خلال مدّة نيابته، فإمّا اتاه الردّ بالتكتّم أو بالاعتراف أنّ «مافيا الدّواء» فعلت فعلها.

ويشدّد الدكتور سكريّة أنه «لا يوجد سياسة دوائية وطنية في لبنان، ويخضع الدّواء للتفكير التجاري والربح المادي والتواطؤ ما بين التاجر والإدارة وبحماية من الفساد السياسي». وقد كشف في ندوة له أنّ نواباً وأطباء ونقابيين وموظفين في وزارة الصحة العامة يتقاضون مكافآت شهرية من شركات الأدوية وشركات بيع الأعشاب الطبّية. وأكّد أنّ مجلس النّواب يعجز عن رسم سياسة دوائية «بسبب قوة تجار الأدوية الذين يتم التنسيق بينهم وبين النواب لتمويل حملاتهم الانتخابية في بعض الأحيان».

غياب المختبر الوطني للدواء

أمام كمّ الفضائح التي طالت جودة الأدوية المروجة في الأسواق اللبنانية في الآونة الأخيرة، يُمكن تفسير ذلك بالعودة الى ما قاله الدكتور سكريّة عن تداول الدّواء في غياب المختبر الوطني للدواء الذي من مسؤولياته مراقبة الدّواء وتحليله وتحديد نوعيّته وجودته، الأمر الذي نتج عنه وجود قرابة ٥٠ في المئة من الأدوية في السّوق اللبناني لا حاجة علاجيّة لها، أضف الى ذلك سوء التخزين والتوزيع ما يعرّض الدّواء الى التَلَف. وقد كشف الدكتور سكريّة عن وجود أكثر من ثلاثمائة مختبر خاص غير مرخص قانونياً، وعن فضيحة إلغاء دور الرقابة على المختبرات الطبية الخاصة ومختبرات الدم.

غياب سياسة وطنية لتسعير الأدوية

بخصوص حجم الفاتورة الدوائية المترتبة على الدولة والجهات الضامنة والمواطن، ينسب الدكتور سكريّة ذلك الى غياب «سياسة وطنية لتسعير الأدوية» تعتمد على شهادات بلد المنشأ وغياب «لائحة أساس للدواء» بخلاف ما هو معتمد في غالبية دول العالم. ويوضح أنّه لو وجدت هذه اللائحة الأساسية لكان من المفترض أن تلتزم المؤسّسات الضامنة بها بمعزل عمّا يوجد في السوق. الّا أنّ غياب اللائحة بفعل ضغوط مافيا الدّواء قد سمح للتجّار بإدخال أصناف جديدة تفوق السوق اللبنانية أضعافاً، وتباع بأسعار مرتفعة، فضلاً عن الالتفاف على تصنيع الدّواء المحلّي عبر استيراد الحبوب من البلد المنشأ وتغليفها محلياً للتهرّب من الالتزام بالتسعيرة الأساسية للبلد المنشأ.

كذلك يعزو التفلّت في الأسعار الى غياب المكتب الوطني للدواء «الذي يمكن عبره خفض الفاتورة بين ٤٠ و٥٠ في المئة لأن الدولة ستستورد عندئذٍ بنفسها من دون وسيط»، ويعطي مثالاً على ذلك ما حصل منذ سنوات «عندما عرضت وزيرة الصحة السويدية بيع بعض أدوية السرطان إلى لبنان من دولة إلى دولة من دون المرور بالوسطاء وبسعر أرخص٤٠ في المئة، ما يوفر على الدولة سنوياً نحو ١٢٠ مليون دولار. وقد رفض طلبها، بحجة أن لبنان يعتمد الاقتصاد الحر».

وقد حصلت محاولات للتصدي لهيمنة الشّركات الاحتكارية على سوق الدواء، منها عام ١٩٧١ حيث أصدر وزير الصحة آنذاك الدكتور إميل بيطار قراراً بتخفيض أسعار الأدوية وسعى لإلغاء المرسوم ٣٤ الذي ينص على الحق الحصري بالاستيراد ويكرّس الاحتكارات، فأقدم التجاّر على إخفاء الأدوية الأساسية من السوق. وعندها طلب الوزير بيطار من مجلس النواب وضع قانون معجّل مكرّر يسمح بمواجهة هؤلاء التجار، وعند تعيين الجلسة امتنع النواب عن الحضور فلم يكتمل نصابها، ما دفع الوزير إلى تقديم استقالته.

ما تقدّم يكشف أهمّ القصور في ملفّ الدّواء في ظلّ منظومة فاسدة منتفعة، فهل تتحرّك الحكومة ومجلس النّواب باتجاه الإصلاحات المطلوبة، أم تبقى مافيا الدّواء أقوى من الدّولة، فيحقق المنتفعون منها مئات ملايين الدولارات سنوياً على حساب صحّة المواطن اللبناني وحياته؟