IMLebanon

ضعف أمام كورونا.. أم قوّة في مواجهتها

كتبت نعمة جعجع في “اللواء”:

في أیامها الأولى قرأنا عن ولادة جرثومة صغیرة سُمّیت «كورونا»، وبقي إسم الشهرة غیر معروف، لكنها كبرت بسرعة بفعلها لا بحجمها، إذ بقیت غیر منظورة إلا بالمجهر لكن أفعالها أصبحت كبیرة وصلت إلى حد القتل ثم الإرهاب. أصبحت وباء وجائحة عالمیة زرعت الرعب في أقطار المعمورة بلا حاجة إلى سمة دخول ولم توقفها شرطة حدود، ولم یمنعها إختلاف اللغات أو الإتنیات أو لون البشرة من التفشّي، ولم ترهبها أسلحة الدمار الشامل ولا الرؤوس النوویة، فاجتاحت العالم وبقیت مقاومتها أقلّ بكثیر من الذعر منها. إستوقفتني تلك الجائحة للبحث عما تكون، فكتبت في شهر آذار الماضي مقالاً بعنوان «كورونا العالمیة الأولى» لأنها بدت أشدّ فتكاً وبطشاً من أي حرب عالمیة وكأنها جاءت بدیلاً عن حرب عالمیة ثالثة.

تحرّشتُ بها ولم أخف ولم تُرهبني ومضیتُ في الكتابة أكثر، فكتبتُ في شهر نیسان مقالاً آخر بعنوان «كورونا الإرهابیة إلى أین»، لأن خطورتها فاقت خطورة الإرهاب بكثیر وتجرأت عل ضرب جمیع الدول وحاصرت مقرّ مجلس الأمن الدولي بالذات. بقیتُ على ملاحقة تطوراتها إلى أن جاء یوم أحسست فیه ببعض العوارض المریبة التي تجاوزت الصداع الشدید فأیقنت أنها ربما كانت هي من یهاجمني هذه المرة، ولما لا فقد كنتُ البادئة في مهاجمتها قبلاً، لكنني ما اعتدتُ الهرب من المواجهة أو السقوط أمام الخوف فأجریت الفحص، وجاءت نتیجتي إیجابیة!

هي المرّة الأولى التي لا یفرح فیها البشر بالنتیجة الإیجابیة ویتمنون السلبیة، وحدها كورونا قلبت المعادلة. تلقیت النتیجة بعد إنتظار ساعات مزعجة لا خوفاً منها بل تساؤلاً عن مصیر الإلتزامات المهنیة والأوضاع العائلیة والرحلة المفترضة في حال إلزامیة الحجر، أما أنّ الجرس قد دقّ، فالإنطلاقة كانت سریعة حمایة للعائلة، فجمعتُ أمتعتي وانطلقت في رحلة لا تُشبه أبدا رحلة الإستجمام، بل هي رحلة في بحرٍ من التأملات المعاصرة تقود إلى خلوة مع الذات بعیداً عن كل ما یدور في الخارج. الوجهة الأولى كانت نحو مقرّ الحجر الراقي الذي دُعیتُ إلیه حیث كل أسالیب الراحة والرفاهیة مؤمنة إضافة إلى مساحة خارجیة لا بأس بها تشرف على قلعة جبیل حیث إنطلقت الأبجدیة إلى العالم، ویضمن مشاهدة الشمس وهي تلامس بأشعتها الذهبیة میاه البحر. هناك إستقرّیت مصطحبة معي هاتفي المحمول وجهاز الكومبیوتر لأطارد بواسطتهما عزلتي القسریّة وأتواصل مع العالم الخارجي، ومواد التعقیم المبتكرة والتي باتت آخر صرعة كما یقال، وهكذا بات كل شيء حولي معقّم، حتى أفكاري باتت معقّمة! الإستطلاع الأول كان لمعرفة كیفیة تأمین الغذاء الیومي وكان ذلك سهلاً بفضل المهنة الرائجة «الدلیفري» المریح والملتزم بدقّة.

التحدّي الأهم كان تجاوز مصیدة القلق من مخاطر الوباء إلى فتح آفاق جدیدة من الأمل بالمستقبل والأهم كان مضاعفة ساعات العمل لأنني كنت مكلّفة من اللجنة الوطنیة اللبنانیة للیونسكو ومعالي وزیر الشؤون الاجتماعیة التنسیق مع معهد الیونسكو الدولي للتعلیم المستمرّ لإعداد التقریر الوطني للبنان لإدراجه في التقریر العالمي الذي سیصدر في العام 2022، وكان عليّ تسلیمه قبل السابع عشر من أیلول أي خلال الأسبوع الأول من الحجر، فرحتُ أسابق الحرارة المرتفعة وأوجاع العضلات والمفاصل التي تزداد إلى حین إنتهائي من إعداد التقریر، فسلمته قبل یوم واحد من إنتهاء المهلة المحددة للبنان، وكان هذا إنتصاراً أول على مفاعیل كورونا اللعینة، والحكمة التي إستحضرتها هنا كانت إن قوّة الفكر قادرة على إحداث المرض كما الشفاء منه. ثم بلغتني الدعوة للمشاركة في ندوة إفتراضیة تنظّمها الیونسكو والألكسو ویُشارك بها خبراء دولیون، فقرّرت المشاركة من مكان الحجر وحرصت على إسماع مداخلة لبنان في المواضیع المطروحة وفرحت بالنتائج المثمرة المحقّقة. وبالتوازي، بقیتُ على تواصل یومي بالبرنامج الوطني لتعلیم الكبار في وزارة الشؤون الإجتماعیة الذي لي شرف إدارته كي لا أحسّ نفسي في غربة عنه أو یتأثر بمفاعیل كورونا عليّ شخصیاً فكانت الأمور طبیعیة وكأن شیئاً لم یكن.

ومع إنتهاء كل مهمّة عودة إلى الذات حیث الأسئلة تتكاثر والجواب علیها یتطلب المزید من التأمّل الذي كان سهلاً جداً عند الجلوس أمام منظر البحر وفي الید فنجان النسكافیه في ساعات الفجر الأولى، وعند مغیب الشمس العظیمة، المغیب الذي یذكر الجمیع بالأدوار المتناهیة تماماً كالشمس التي تشرق عند الصباح فتضيء بنورها ثم تحرق بحرارتها ثم تنكفىء عند المغیب لتخلف وراءها العتمة، فهلا إتعظ القادة والحكّام؟ وهل أدركوا في أي مرحلةٍ أصبحوا؟ وهل هم بحاجة إلى الألم لیعلموا؟

هذه لیست خواطر مناسبتیة مباشرة عن كورونا بل إنطلاقاً من كورونا تجعلنا نتیقّن في عزلتنا أننا خاسرون لا محالة بضعة أیام لكننا نعلَّل النفس بربح المستقبل اذا خرجنا بدروس مستفادة من تلك العزلة. ولعلّ الدرس الإنسانى الخارج من هذه الرحلة الخاصة جداً، هو إكتشاف هشاشتنا أمام هذا الوباء وقوّتنا فى مواجهته، أنانیتنا فى خوفنا على أنفسنا وأحبائنا، خصوصیتنا الشدیدة كأفراد وشعوب وصفاتنا الإنسانیة ومشاعرنا التي لا تختلف بین بلد وآخر، إستمتاعنا بالهدوء والطبیعة التى إكتشفناها، وضعفنا أمام الحیاة المتطورة التى نفقدها بحیرتنا في استخدام الوقت عندما نصبح في عجالة من أمرنا نطلب الكثیر ونلهث وراءه فنُحرم لذّة وسعادة اللحظات. فهل ستتغیّر علاقاتنا الإنسانیة التي اشتقنا إلیها ثم استسلمنا لوحدتنا وتأقلمنا علیها؟ وهل سنتغیّر بعد خروجنا من زمن كورونا والعودة إلى الحیاة الطبیعیة، وهل كانت حیاتنا التي نتمنّى العودة إلیها طبیعیة؟ وما الطبیعي في «حیاتنا الطبیعیة»؟

هي خواطر في لحظات المخاطر، لكنها أسئلة باتت تلازمنا وربما رسمت أجوبتها خارطة طریق مستقبل طبیعي بكل ما في  الكلمة من معنى.