IMLebanon

حذار لعبة الازدواجية في تشكيل الحكومة

كتب العميد الركن نزار عبد القادر في صحيفة “اللواء”:

 

لا يمكن توقع إخراج لبنان من ازمته المعقدة الراهنة، والحصول على الأموال اللازمة لإعادة بناء اقتصاده وإنقاذ مؤسساته الإدارية والمالية، أو إصلاح الدمار الذي أحدثه انفجار الرابع من آب الماضي، إذا استمر كل فريق من الأفرقاء السياسيين في تقديم أولوياته ومصالحه الخاصة على أولويات الوطن ومصالحه العليا. ولا يمكن للبنان بناء نظام سياسي واجتماعي منصف وعادل، تحترم فيه الحريات والحقوق الإنسانية إذا استمر المسؤولون في امتهان الدستور والقانون، ممعنين في ارتكاب المظالم بحق الشعب، والتي تولد حالة الشك والظلم وانعدام الثقة.

تدفعنا المقاربات المعتمدة لتشكيل حكومة جديدة قادرة على اعتماد الإصلاحات الواردة في الخطة التي وضعها الرئيس ايمانويل ماكرون من أجل إنقاذ لبنان إلى الشعور بحالة من الاحباط واليأس، حيث يستمر مختلف الأفرقاء في تقديم مصالحهم على المصالح الوطنية، ساعين في نفس الوقت لتحقيق امتيازات على حساب الآخرين، متناسين بذلك دعوات البابا يوحنا بولس الثاني لهم في الإرشاد الرسولي بأنه يجب ان «لا يتصور أحد ان موقعه الخاص يحتمل ان يسوّغ له البحث عن امتيازات له أو لطائفته بابعاد الآخرين».

عشية الاستشارات النيابية الملزمة والمؤجلة لتكليف رئيس جديد لتشكيل حكومة عتيدة بعد فشل السفير مصطفى أديب في مهمته نتوجه أولاً إلى الرئيس ميشال عون لنؤكد عليه ضرورة إدراك حراجة الموقف الذي تمر به البلاد، وبأنه بات لزاماً عليه التوقف عن إضاعة الوقت تحت حجج واهية، وبأن الواجب والقسم يمليان عليه ان يُبادر لاجراء الاستشارات، التي ستؤدي حتماً إلى تسمية سعد الحريري للعمل على تأليف حكومة انقاذية قادرة على السير قدماً في تنفيذ المبادرة الفرنسية وبالتالي منع سقوط لبنان إلى قعر الهاوية، أو نحو الزوال نهائياً، وفق التحذيرات الصادرة عن الخارجية الفرنسية.

لا بدّ ان يُدرك الرئيس عون ضرورة وحراجة التقيّد بالمبادرة الفرنسية، وان يتخلّى عن ازدواجية المواقف التي طبعت تصرفاته منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية إلى اليوم، والتي تضعه في حالة تناقض ونزاع بين الالتزام بموجبات الرئاسة وما يفرضه عليه الدستور من التزامات وبين علاقته الابوية والتاريخية بالتيار الوطني الحر، بالاضافة إلى مواقفه وميوله العاطفية لدعم صهره جبران باسيل لتحقيق طموحاته وتدعيم موقعه والحفاظ على نفوذه داخل منظومة الحكم، وصولاً إلى تحقيق طموحه ليكون خليفته في رئاسة الجمهورية. ولا بدّ أيضاً ان يُدرك الرئيس عون أهمية عمل كل ما يمكنه لإنجاح المبادرة الفرنسية، وذلك من خلال تسهيل تسمية الرئيس الحريري لترؤس الحكومة العتيدة ومساعدته ودعم جهوده لتشكيل حكومة مستقلة من اختصاصيين، قادرين من خلال تجاربهم العملية واستقلاليتهم على السير قدماً في تنفيذ الأجندة الإصلاحية المطلوبة. لقد ضاقت فرنسا ومعها أوروبا والعالم بمناورات التذاكي والتسويف ومناورات اللف والدوران التي اعتمدها العهد وتياره وانصاره في حزب الله من أجل إسقاط جهود الرئيس مصطفى أديب، في الوقت الذي يأمل فيه تغليب الحكمة لتسمية سعد الحريري.

لم يعد هناك من بديل للمبادرة الفرنسية، فهي المبادرة الوحيدة التي لم تستبعد مشاركة حزب الله في منظومة الحكم، بل اعتبرته كشريك سياسي، له نفس الحقوق والواجبات كالافرقاء الآخرين. من هنا لا بدّ ان يُدرك العهد أهمية السير قدماً في تشكيل حكومة «مهمة»، وبأن أي تعثر في مسيرة التكليف والتشكيل سيؤدي حتماً إلى سقوط المبادرة بالضربة القاضية هذه المرة، وبما يفتح الباب مستقبلاً إلى وحدانية الدور الأميركي في معالجة أزمة لبنان، كواحدة من الأزمات الإقليمية، مع كل ما يمكن ان يرتبه ذلك من الزامات ومخاطر على الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، بالإضافة إلى ما يمكن ان يستلحق ذلك من عقوبات على حزب الله وعلى التيار.

سقطت حجة العماد عون بأن تأجيل الاستشارات النيابية قد جاء على خلفية رفضه لتشكيل حكومة اللون الواحد برئاسة سعد الحريري، متناسياً بأنه قد سبق وقبل بتشكيل حكومة اللون الواحد من خلال قبوله بحكومة حسان دياب، والتي لم تحظ بأي دعم سني سياسي أو شعبي أو ديني، لكن يبدو بأنه يحاول الاستمرار في لعبة ازدواجية المواقف، وهذا ما يؤشر إليه عدم قراءته بتمعن وواقعية الرسالة الأميركية المباشرة التي وجهها مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر إبان زيارته للبنان بتوسيع دائرة زياراته واتصالاته السياسية بمختلف القوى السياسية باستثناء جبران باسيل والتيار الوطني الحر. وكانت الرسالة الأكثر وضوحاً في ما عبر عنه شنكر في أكثر من مناسبة عن دعم واشنطن لترشيح الحريري نفسه وبدعم أو طلب فرنسي لترؤس الحكومة الإنقاذية. لكن يبدو بأن الولايات المتحدة قد فضلت، ومنعاً لأي التباس حول حقيقة مواقفها مما يجري في لبنان، تأكيد نيتها على مساعدة لبنان على النهوض من خلال اتصال وزير الخارجية مايك بومبيو برئيس الجمهورية، ليؤكد له دعم لبنان في عمليات الترسيم، ورغبة واشنطن في رؤية ولادة حكومة قادرة وملتزمة على تقديم فرصة للنهوض الاقتصادي والمالي، وتصحيح مسار الحكم ووضع حدّ للفساد الكلي والشامل.

من الواضح أن هناك رغبة لدى العماد عون للاستمرار، في ضغوطه على الحريري واستعمال تكليفه برئاسة الحكومة كممر لإعادة تعويم جبران باسيل سياسياً بعد سقوطه داخلياً ودولياً، ومن المتوقع الا تنتهي محاولة التعويم هذه عند نقطة اجراء الاستشارات وتكليف الحريري بل هي مرشحة للاستمرار أثناء عملية التأليف، من خلال تكثيف الضغوط ووضع العراقيل الممكنة لدفعه إلى التراجع عن مطلبه بتشكيل حكومة من المستقلين المشهود بكفاءتهم وانجازاتهم، حكومة قادرة فعلياً على تحقيق الإصلاح المحدد في المبادرة الفرنسية والتي سوق لها الفريق النيابي من تيّار المستقبل في جولته على القيادات السياسية.

إذا جرى تجاوز عقدة التكليف غداً، فإنه لا بدّ من دعوة الحريري للعمل بحكمة لاستعجال عملية التأليف وفق الرؤية التي انطلق منها لترشيح نفسه، وذلك بدءاً من تجاوز مطالب الثنائية الشيعية والتي لا تقتصر على تولي حقيبة المالية بل تتعداها لتسمية جميع الوزراء الشيعة، وسيشكل هذا المطلب متراساً لكل من الرئيس عون والتيار الوطني الحر لتسمية أكبر عدد من الوزراء المسيحيين في الحكومة، وسيؤدي ذلك دون شك إلى فقدان الحريري لكل المبررات التي انطلق منها لترشيح نفسه.

وعلى الحريري في هذه الحالة رفض كل الضغوط والمساومات للقبول بأقل من المطالب التي دفعت مصطفى أديب إلى الاعتذار. وان المطلوب أيضاً من الحريري ان يتحصن بقوة وراء تجاربه السابقة والفاشلة مع الحكومة السابقة بدءاً من تسوية الدوحة، ومروراً بالحكومتين اللتين شكلهما في ظل التسوية مع هذا العهد، وفشله في تنفيذ أية خطوة إصلاحية من الخطوات المطلوبة بموجب مقررات مؤتمر «سيدر».

من الضروري تحذير الحريري من الوقوع ثانية ضحية عمليات تدوير الزوايا أو القبول بمنطق الديمقراطية التوافقية وحكومات الوحدة الوطنية، والتي أدّت جميعها إلى تخريب الدولة وأفلاسها، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

في النهاية يبقى المطلوب من العهد الإقلاع عن لعبة الازدواجية القائمة ما بين موقع الرئاسة وقيادة التيار الوطني الحر والمتمثلة بحماية مصالح جبران باسيل في الحكم، وفي تدعيم مسيرته ليكون الرئيس المقبل، ويجب ان يُدرك أيضاً بأن الفشل في تشكيل حكومة إصلاحية برئاسة الحريري سيؤدي حكماً إلى فرض عقوبات أميركية – فرنسية ضد عدد من المحسوبين على العهد، بالإضافة إلى فرض مزيد من العزلة على لبنان.