IMLebanon

بايدن و”إرث ترامب”

كتب وليد شرارة في صحيفة “الأخبار”:

 

في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية، كيف سيتعامل جو بايدن مع تركة دونالد ترامب في ميدان السياسة الخارجية؟ غالبية التحليلات ترجّح أن الرئيس الجديد سيشرع بقطيعة شبه كاملة مع توجّهات سلفه، ويعطي الأولوية لترميم علاقات بلاده مع الحلفاء الغربيين، ولتجديد التزامها بالمعاهدات والاتفاقات الدولية التي انسحب منها الأخير، كاتفاقية باريس حول المناخ و«منظمة الصحة العالمية» والاتفاق النووي مع إيران، ضمن مسعى إلى تأكيد قيادتها لنظام دولي ليبرالي شارف على التداعي بسبب الانقسامات والاختلالات في داخله، والتي عمّقتها سياسات ترامب الجامحة. بايدن أعلن بالفعل نيّته المباشرة بـ«حركة تصحيحية» في ميدان السياستَين الداخلية والخارجية، إذا وصل إلى سدة الرئاسة، للتخلُّص من التبعات السلبية لإرث مَن سبقه. لكن ماذا عن الملفات المركزية بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية، كالمواجهة المتصاعدة مع الصين أو مستقبل «الوجود» العسكري في الشرق الأوسط أو حتى العلاقات التجارية مع الحلفاء الأوروبيين؟ مواقف جو بايدن التي عبّر عنها في خطابات ومقالات، ومنها مقالته الشهيرة في «فورين أفيرز» في خلال العام الجاري، تُظهر نوعاً من الاستمرارية مع سياسات ترامب حيال هذه الملفات، على رغم اختلاف اللغة المستخدمة والأسلوب. والحقيقة هي أن ترامب نفسه لم يقطع، في السياسات التي اعتمدها تجاه الملفات المذكورة، مع تلك التي أرساها باراك أوباما، إلّا على مستوى اللغة والأسلوب. مراجعة تجربة العقود الماضية توضح أن عناصر الاستمرارية في السياسة الخارجية الهادفة إلى تعزيز الموقع المهيمن للإمبراطورية الأميركية، بمعزل عن نجاحها أو فشلها في ذلك، تَطغى على تلك التي تمثّل قطيعة، مهما كانت الهوية السياسية للرئيس أو شخصيته وطباعه.

إعادة الاعتبار إلى «القيادة الأميركية» على الصعيد العالمي هي بين أبرز الشعارات التي يرفعها بايدن، على غرار شعار ترامب عن استعادة «العظمة الأميركية». في سبيل ذلك، أعلن المرشّح الديمقراطي نيّته القيام بجملة من الإجراءات والخطوات الهادفة إلى اكتساب بلاده مجدّداً الصدقية كزعيمة للعالم «الحرّ»، عبر تمتين صلاتها بحلفائها «الديمقراطيين»، الأوروبيين أولاً، وعقد قمة عالمية حول الديمقراطية في خلال السنة الأولى من رئاسته، وتفعيل دورها في مؤسسات النظام الدولي الليبرالي، والتصدي بحزم لـ«أعدائها». وبطبيعة الحال، فإن النقطة الأخيرة هي الأهم، لأنها تغلّف بلغة أيديولوجية غاية حيوية للإمبراطورية الأميركية: التصدي لصعود منافسيها غير الغربيين، وفي مقدمتهم الصين وروسيا. حول الصين بالذات، يدعو بايدن في مقاله المذكور أعلاه إلى «التشدّد معها»، ويلوّح باستخدام قوي لسلاح العقوبات ضدّها رداً على ما تفعله في هونغ كونغ أو حيال تايوان أو في بحر الصين الجنوبي. الأمر ليس مستغرباً من نائب الرئيس أوباما (2009-2017) الذي دشّن سياسة الاستدارة نحو آسيا سنة 2012 لاحتواء صعود القوّة الصينية. هو سيمضي أيضاً في توثيق التعاون مع دول الـ«كواد»، التي تضمّ إلى الولايات المتحدة كلاً من الهند واليابان وأستراليا، المجاورة للصين والمتخوّفة من اتّساع نفوذها. حول الشرق الأوسط، ورغم الاختلاف في كيفية التعامل مع إيران، فإن الهدف المشترك لترامب وبايدن هو خفض الوجود العسكري الأميركي في هذه المنطقة، وكذلك عدم الانغماس في إدارة صراعاتها وتناقضاتها لمصلحة التفرّغ لأولوية مواجهة الصين. صحيح أن ترامب محاط بفريق عقائدي – أيديولوجي كان، ولا يزال، وربّما حتى آخر أيام رئاسته في حال خسارته الانتخابات، ينوي دفعه إلى أقصى درجات التصعيد ضدّ ايران، وحتى الحرب عليها إن تمكّن من ذلك. اتّبع ترامب سياسة الضغوط القصوى، لكنه لم يذهب إلى حدّ الصدام العسكري المباشر والمفتوح. بايدن يرى أن الوظيفة الأهم للعودة إلى الاتفاق النووي، مع تعديلات في ملحقاته ربما، هي الوصول إلى «فكّ اشتباك» معها بالحدّ الأدنى، يتيح له المزيد من التركيز على الصين. وحتى بالنسبة إلى الحلفاء الأوروبيين، المتفائلين بانتصار بايدن، فإن المستقبل القريب، في حال فوزه، قد يحمل لهم مفاجآت غير سارة. حول هذا الموضوع، يقول جيريمي كليف، الناشر الدولي لمجلة «نيو ستيتسمان»، في مقالة على موقعها، إن الفريق المحيط ببايدن «لا يوافق على الحرب التجارية، لكنه يريد أن تخدم السياسة الخارجية أهدافاً محلية أميركية عبر إصلاح الاتفاقات التجارية لتحسين مستوى الأجور في الولايات المتحدة وجذب الاستثمارات إليها. يسمّي بايدن هذا التوجه سياسة خارجية لمصلحة الطبقة الوسطى».

التاريخ المعاصر للولايات المتحدة يزخر بالأمثلة التي تشي بوجود عناصر استمرارية بين السياسة الخارجية المعتمدة من رؤساء يختلفون في خلفياتهم وفي الكثير من مواقفهم. فالمرتكزات التي أرساها ريتشارد نيكسون في السياسة الخارجية الأميركية منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، لم يشذّ عنها جوهرياً مَن تناوبوا من بعده حتى سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991. أبرز ثلاثة مرتكزات كانت التقارب مع الصين، وصولاً إلى شراكة فعلية معها، منذ زيارته لبكين عام 1972، أولاً؛ واعتماد سياسة الانفراج مع السوفيات، التي تُرجمت بتوقيع اتفاقات الحدّ من التسلّح النووي ومن الصواريخ البالستية، وفتح قناة تواصل مستمر بين القيادتين الأميركية والسوفياتية لمنع تحول أيّ مواجهة بين حلفائهما في مناطق أخرى من العالم إلى صدام مباشر بينهما، ثانياً؛ وإطلاق مسار التسوية بين مصر والكيان الصهيوني الذي أفضى إلى اتفاقية كامب ديفيد، ثالثاً. يلفت جورج فريدمان، مؤسس موقع «جيوبوليتيكال فيوتشور»، في مقال بعنوان «استقرار السياسة الخارجية رغماً عن الفوضى السياسية» على الموقع إياه، إلى أن عرّابي «كامب ديفيد»، أي الرئيس الأسبق جيمي كارتر وفريقه، يقرّون بصعوبة بـ«فضل» نيكسون عليهم، نتيجة كرههم الشديد له، لكن الوقائع عنيدة، ولا ينفع الإنكار معها!

عودة إلى ترامب وإلى سياسته الخارجية التي تضمّنت قدراً كبيراً من الاضطراب والتخبُّط والاستفزاز على مستوى الإعلان عنها وتظهيرها، ارتباطاً بشخصية الرئيس الأميركي الفذّة. هذه السمات وثيقة الصلة باستشعار قطاع واسع من النخب والمجتمع الأميركيَّين لواقع الانحدار المستمر والمتسارع لقدرات الولايات المتحدة وموقعها الدولي المهيمن. تشير فيونا هيل، المديرة السابقة للشؤون الأوروبية والروسية في مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد ترامب، في مقابلة مع الكاتبين في «أتلانتيك مونثلي» توم ماك تاغ وبيتر نيكولاس، إلى أن الرئيس الأميركي توصّل إلى الخلاصات نفسها التي أوردها المؤرخ بول كينيدي منذ عام 1987 في كتابه الشهير «صعود وانحدار القوى العظمى» عن الانحدار الأميركي «على رغم أنني أشكّ في أنه سمع بالكتاب»، حسب قولها. يضيف الكاتبان أن «القوة الأميركية من منظور عالمي تراجعت وستمضي في التراجع. في عام 1960، كان الناتج المحلّي الإجمالي الأميركي يمثّل 40% من الناتج العالمي، وفقاً للبنك الدولي، وفي عام 2001 بات يمثّل 32% من هذا الأخير، وفي عام 2018، 24% منه. يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل هذا التراجع في عام 2025، إلى 14,78% من الناتج الإجمالي العالمي. يتوازى مع هذا الأمر تراجع في الإنفاق العسكري من 6% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في عام 1988 إلى 3,4% منه في عام 2016». الذعر الذي يثيره ضمور الدور المهيمن يفسر لدرجة كبيرة هيجان ترامب ومن يمثّل، وسياسات أوباما قبله وتلك التي سيتبنّاها مَن يليه قريباً أو في المستقبل. من تدغدغهم أحلام بسياسة أميركية مختلفة، فإنّ عليهم أخذ هذه المعطيات في الاعتبار.