IMLebanon

مَن “قَبّ الباط” لسعد الحريري؟

كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:

حشر رئيس الحكومة اللبنانية المكلّف سعد الحريري نفسه في خانة المحاسبة المحلية والإقليمية والدولية، وقيّد نفسه بحبال استحقاقات تترتب على “قَبّ الباط” الذي تلقاه لتمرير تكليفه بتشكيل حكومة سيكون تأليفها مُثقلاً بالمقايضات.

مجرد وصول الحريري الى منصب الرئيس المكلّف أتى بتسهيلات غير مجانية في بلد اعتاد على الصفقات ذات الرائحة الكرهة التي تُبرم على حساب الوطن والناس. هذه التسهيلات إيرانية بامتياز، علماً أن الاستراتيجية التي تبناها “الحرس الثوري” القائم على صنع السياسة الإيرانية في لبنان وسوريا والعراق وتنفيذها، تضمّنت بنداً ينص على الحاجة الى الظهور بمظهر الليونة واللياقة السياسية في هذا المنعطف والدفع نحو السماح بحكومة في لبنان بدلاً من الفراغ.

الحريري إذن وصل الى التكليف بـ”قَبّ الباط” الإيراني المدروس لغايات أوسع وأكبر، بحسب الاستراتيجية الإيرانية (راجع المقال: الأولوية الشرق أوسطية لترامب في مناظرة مقبلة مع بايدن – بتاريخ 4 تشرين الأول – أكتوبر). إدارة ترامب أيضاً ارتأت أن أولوياتها لا تشمل اسم هذا الرئيس المكلّف أو ذاك وإنما هي ذات شقّين: ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل لتسهيل التنقيب عن النفط والغاز لمصلحة البلدين، مع العمل نحو ترسيم الحدود البريّة للبنان مع إسرائيل وكذلك مع سوريا. الشق الآخر يحمل عنوان المحاسبة على الشراكة مع “حزب الله”، سياسياً وفساداً وغير ذلك، بغض النظر عن الهويّة الطائفية للشركاء. بعض اللاعبين السياسيين في لبنان لجأ الى حدسه وحذاقته وتأقلم، وفي مقدمته رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي يتقن التذاكي ومهارة اللعبة السياسية غير المقيَّدة بالقيم، ويحسن الإبحار.

سعد الحريري ليس بنبيه برّي، وشخصيته تضعه في عين العاصفة الآتية. المشكلة لا تكمن في خطر وقوعه في المصيدة وإنما هي في مساهمته – سهواً على الأرجح – في نصب كمين لسيادة لبنان، تحت عنوان تسهيل “استقراره” الموقت في رعاية إيرانية وفقاً لاستراتيجية “الحرس الثوري” طالما يبقى “استقلاله” مرهون بقرار طهران.

على الصعيد الداخلي، يغامر سعد الحريري بعودته الى الصناعة المحليّة للحكومات ضارباً بعرض الحائط رفض الناس لهذه العملية المُريبة والبازار المُهين. انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) – برغم كل إخفاقاتها – أبلغت كامل الطبقة السياسية المتحكّمة بلبنان أنها مرفوضة وأن زمنها ولّى وسط انهيار رهيب للبنان ووقاحة مُرعبة لحكّامه. لم تبلِّغ سعد الحريري أنه مُستثنى ولم تطلب منه التطوّع ليترأس – وهو ابن البيت السياسي المرفوض كغيره – تشكيل حكومة من التكنوقراط، كما يَعِد، ولن يتمكن من أن يُلبّي مهما أتى بوجوه جديدة. فهذه الوجوه تبقى رهن ورهينة المحاصصة والمقايضات السياسية والطائفية المعتادة. حتى “الحرس الثوري” يفهم هذه المعادلة وهو قرر في استراتيجيته أن من مصلحته أن يأتي بوجوه “جديدة” تُعطي الانطباع الخاطئ بأن طهران انقلبت على ايديولوجيتها وعلى مشروعها للبنان.

ثم من أعطى سعد الحريري صلاحية إيكال وزارة المال مسبقاً الى الطائفة الشيعية تلبية لإصرار “الثنائي الشيعي” الذي يقوده نبيه برّي وحسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” بعدما كان هذا الإصرار هو الذي أفشل محاولة سلفه مصطفى أديب تشكيل حكومة؟ إذا كانت القيادة الفرنسية هي التي مدّته بهذه الصلاحية من أجل إنجاح ما يسمى بـ”المبادرة الفرنسية” لإنقاذ لبنان، رحمة الله على ذلك اللبنان الجديد الذي تعدنا به باريس.

ففرنسا بذلك تكون نسفت مطالب انتفاضة الناس بأن تكون الحكومة الجديدة برمّتها من التكنوقراط وليس برئاسة الحريري أو غيره من السياسيين. وتكون لبّت برّي ونصرالله وكذلك “الحرس الثوري” الإيراني بوضع وزارة المال في أياديهم، ما يعني إلغاء أية محاسبة مقبلة لما قامت به هذه الوزارة عبر السنوات وما ينوي هؤلاء اللاعبون القيام به لاحقاً عبرها.

مشكور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لاهتمامه بإنقاذ لبنان وتسهيل حصوله على معونات دولية كي لا يهبط الى الحضيض بصورة نهائية. إنما مهلاً، السيد الرئيس. مَن أوكل اليك مهمّة إضفاء المباركة الفرنسية لأنماط المحاصصة التي تُعمّق الطائفية، ومن طلب منك نسف مطالب الشعب اللبناني بعدم تعويم رجال الطبقة السياسية المتحكّمة وأولياء أمرهم؟ وماذا وراء تراجعك عن وعدك بإنزال العقوبات على الذين عرقلوا مساعي تشكيل حكومة أديب عبر عقدة إصرار “الثنائي الشيعي” على امتلاك وزارة المال؟ إزالة هذه العقدة من خلال دفع سعد الحريري الى فكّها بلياقة سياسية مريبة وغير شرعية كي لا تضطر الى فرض العقوبات على الذين وضعوا أمامك عرقلة العقدة إنما يضرب صدقيّة الديبلوماسية الفرنسية، وصدقيتك.

إدارة ترامب تتربّص لكل من الشريكين الجديدين، ماكرون والحريري، وفي بالها “حزب الله” وإيران. فهي باركت لهما، حتى في خطوة التنازل أمام “الثنائي الشيعي”، وهي في حاجة اليهما – كما الى الثنائي الشيعي – لتسهيل أولويتها، أي ترسيم الحدود البحرية. لذلك، قام مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر في زيارته الأخيرة بإرضاء الطبقة السياسية المرفوضة شعبياً وزار أقطابها في خضمّ رفضها شعبياً بالرغم من تحفّظ وانتقادات له بما في ذلك من صناع قرار في واشنطن.

الخطوط العريضة الأساسية لسياسة إدارة ترامب لا تسمح بالتهاون أمام تعميق العلاقة بين سعد الحريري و”حزب الله”، لذلك تتربّص له. رأيها بإزاء الدبلوماسية الفرنسية نحو لبنان انها دبلوماسية التخبّط وفقدان الصدقية، إنما لا حاجة بواشنطن الى عرقلتها الآن. أما إذا انزلقت الديبلوماسية الفرنسية الى شرعنة الاستراتيجية الإيرانية للبنان عبر توطيد هيمنة “حزب الله” على الحكومة والقرار والاستقرار أو عدمه، كما على الجيش، عندئذٍ ستكون إدارة ترامب في حال تربّص لباريس لردعها. وإذا كانت الشرعنة تتخذ الحكومة الجديدة برئاسة الحريري غطاءً لها، سيدفع سعد الحريري ثمناً إذا ظن أنه فوق المحاسبة مهما تهيّأ له انه يقوم بعملية إنقاذية فيما هو في الواقع يعمَّق للبنان.

وللتذكير، ما سمته الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ”خطة تجديد” renewal لبنان عبر “سيطرة مرنة وناعمة” لها يشمل إنشاء حكومة مستقرة ضمن آليات توطيد وترسيخ ارتباط لبنان العضوي بإيران إنما بصورة غير استفزازية عبر إدخال عدد محدود من الوجوه الجديدة ولاؤها دائم لـ”حزب الله”. يشمل أيضاً العمل على إخراج الجيش اللبناني من اللعبة السياسية ليصبح قوة تابعة للبنان الجديد الذي يحيكه “الحرس الثوري”.

عسى أن يكون سعد الحريري قرأ كامل الاستراتيجية كي يعي مكامن تمريره رئيساً مكلّفاً. عسى أن يكون حصل على ضمانات من إيمانويل ماكرون بغطاء إقليمي وأميركي ودولي، سياسي واقتصادي ومالي وآني، وألّا يكون غامر بتهوّر وقصر نظر.

فبغضّ النظر إن كان دونالد ترامب سيفوز بولاية ثانية أو أن جو بايدن سيصبح رئيساً، هناك فترة أشهر مهمّة في مسيرة الانزلاقات اللبنانية على سعد الحريري أن يفهم تداعياتها على لبنان وعليه أيضاً. العقوبات الأميركية على إيران و”حزب الله” وحلفائه مستمرّة على أي حال للمرحلة المقبلة- وهي تتربّص لأيٍّ كان بما في ذلك الذين يصيغون “تسوية -2” كالأولى التي جمعت رئيس الحكومة حينذاك سعد الحريري مع رئيس الجمهورية ميشال عون ومع “حزب الله”.

أسبوعان على الانتخابات الرئاسية الأميركية يرافقهما ازدياد القلق من عدم حسم الفوز لأي من المرشحين. هناك خبراء يجزمون لصالح بايدن وآخرون لصالح ترامب وسط استطلاعات مضلّلة. في الحلقة 19 من الدائرة المستديرة الافتراضية لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي، (https://m.youtube.com/watch?feature=youtu.be&v=b6lpqWGBx5U) توقعت الوكيلة السابقة لوزارة الخارجية الأميركية، بولا دوبريانسكي، “انتصار” ترامب، و”استمرار أقصى قدر من الضغط والعقوبات” على إيران. وافقها في ذلك مايكل غفيلر المنسّق الإقليمي السابق في سلطة التحالف الموقتة في العراق متوقعاً فوز ترامب بالتصويت الشعبي والكلية الانتخابية. وقال إن العقوبات “ستزداد حدّة وسيستمر تأثيرها الساحق في الاقتصاد الايراني وستظل صادرات النفط الإيرانية مقيّدة وستقع إيران تحت ضغط كبير وتوتر سياسي داخلي بسبب قوة الجاذبية في حرب ناغورنو كراباخ”.

كارل بيلدت، رئيس الوزراء ووزير خارجية السويد الأسبق، قال انه إذا فاز بايدن “سيتم تسهيل” العودة الى الاتفاقية النووية مع إيران “من خلال الدبلوماسية الأوروبية والروسية والصينية”. وإذا فاز ترامب سيكون هناك “أقصى الضغوط” على إيران. أما ديمتري ترينين رئيس معهد كارنيغي في موسكو، فرأيه هو “إذا فاز ترامب في الانتخابات، فسوف يعاقب الكونغرس الأميركي روسيا بشدة على هذا الفوز. إذا فاز جو بايدن، فسوف يعاقب الكونغرس الأميركي والبيت الأبيض معاً روسيا”.

التدخل الإيراني في العملية الانتخابية الأميركية سيلاقي عقاباً، حسبما أكّد أحد أهم مهندسي السياسة الأميركية نحو إيران. أكد أيضاً أن “لا صفقة تُعدّ مع إيران” لا حول لبنان كما يُزعم “ولا حول أي شيء آخر”، بل انه أنذر أن “عقوبات جديدة آتية”، على إيران وحلفائها وحلفاء حلفائها أينما كان.