IMLebanon

أسرعوا بتشكيل الحكومة ولو بعملية قيصرية!

كتب درويش عمار في صحيفة اللواء:

كمن ينقّب عن أغلى الدرر من الذهب والماس والياقوت والزمرد في باطن الأرض والمناجم، كمن يغوص قعر وأعماق البحار لكي يصطاد المرجان واللؤلؤ والحلي التي تزهو بألوانها الجميلة الساحرة على أنواعها، وقد بات بينها وبين الماء والملح «عشرة عمر»، وكمن يسير أيضاً على طريقة «يا هويدلي يا هويدلك» إنما ببطء شديد كالسلحفاة التي تزحف رويداً رويداً في عالم بات الريح فيه يسابق الزمن، وباتت العولمة فيه تختصر المسافات من دون هوادة.

نعم، هكذا يتحفنا المسؤولون في هذا البلد بين حين وآخر عن جهود حثيثة تبذل من قبلهم صباحاً ومساءً بهدف التوصّل إلى تشكيلة حكومية جديدة في لبنان، حيث يعتقد  الكثير من اللبنانيين أنها «بدا تشيل الزير من البير». وبالعودة إلى البحث والتنقيب والتفتيش عن أسماء وشخصيات لامعة من عالم الاختصاص لكي يصبحوا نواة تلك الوزارة، وبذلك يحملون لقب «أصحاب المعالي»، وقد ذكرني سعي المسؤولين في هذا الإطار بموضوع «تصويل العدس» واليكم الحكاية.

في سن الطفولة كنا، وكانت تلك الأيام ساحرة بعفويتها وبساطتها وخيراتها، وبمعنى أوضح كانت أيام خير وبركة. آنذاك كنا نلتف خلال ما يسمى موسم تحضير المونة حول والدتي- رحمهاالله – وقد كانت ست بيت بكل ما للكلمة من معنى، حيث كانت تصرّ دائماً  على تحضير وتأمين مونة البيت بيديها الطاهرتين، ولا ترضى أن يعاونها أحد بذلك، وكان التفافنا حولها في تلك الأيام، خلال عملية تحضير المونة، لكي نرى ماذا تفعل وكيف يتم ذلك، وأكثر ما كان يغريني آنذاك عملية «تصويل» العدس، حيث كانت تضع كميات كبيرة منه في وعاء مستدير وكبير، وبعد ان تضع النظارات على عينيها الملونتين، للاستعانة بها في التنقيب والتفتيش والبحث بدقة عن كل ما يختلط بحبيبات العدس تلك من حجارة صغيرة أو حبات بحص أشبه ما تكون بتلك البحصة التي لم «يبقّها» حتى الآن الشيخ سعد، إنما كانت على صغرها تكاد لا ترى الا عبر المجهر أو من خلال نظارات  الوالدة.

وبعد ساعات وساعات من مثل هذا العمل المضني والشاق في عملية تصويل العدس كانت تنهي مهمتها تلك بعد غسله جيداً، بوضعه في أوعية وأكياس مخصصة له استعداداً لاستخدامه عندما تدعو الحاجة، كمونة للعائلة يضاف إلى غيره من المونة المنزلية الأخرى.

وبعفوية الأطفال، كنا نعمد إلى تجميع تلك البحصات والاحجار الصغيرة، بعدما تنتهي والدتي من مهمتها تلك، ليتبين لنا ان عددها كان لا يقل عن 18 ولا يزيد عن 22 منها، أي ما يوازي العدد المختلف عليه حالياً بشأن  طول الحكومة  الجديدة وعرضها. وعندما كنا نسأل «ست  الكل» لماذا  هذا التعب كلّه، ولماذا لا تشترين العدس جاهزاً من المحال والسوبرماركت، كانت تبتسم وتجيب بهدوء: «اللي بيدري بيدري واللي ما بيدري بيقول كف عدس».

أما لماذا ذكرت وتذكرت هذه الواقعة وما كانت تقوم به الوالدة الفاضلة في هذا السياق، ذلك لأننا منذ عدّة أسابيع  لا بل منذ فترة غير قصيرة ونحن ننتظر ونسمع ونراقب ونتابع ونلاحق أخبار تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان بما يشبه «تصويل» تلك الحكومة.

وبعد أن نسمع أن الاتصالات والاجتماعات جارية  على هذا الصعيد  علی قدم وساق ما بين قصر بعبدا وبيت الوسط، مروراً بكل الأطراف الأخرى المعنية بهذا الشأن بهدف التنقيب والتفتيش والبحث  عن اختصاصيين يتراوح عددهم ما بين 18 إلى 22 بالتمام والكمال، بهدف إنجاز تشكيل الحكومة التي طال انتظارها والتي لم تبصر النور  حتى الآن.

نعم قد يحتاج الأمر إلى التروي والحكمة والصبر وعدم التسرع لإختيار وانتقاء الأفضل، الا أن الأمر بحد ذاته بات لا يحتمل المماطلة أو التأخير أو المزيد من الانتظار وتضييع الوقت في ما يتعلق بالاستحقاق الحكومي المنتظر، والأمر هنا بات يشبه التعجيز في عملية التشكيل تلك، بانتظار استكمال الاتصالات الجارية من وراء الستارة والكواليس خاصة بين بعبدا  والرئيس المكلف مروراً  بعين التينة بهدف التوصّل إلى صيغة  ما تحافظ علی اقتسام الحصص والمغانم تحت شعار هذه الوزارة  لي وتلك لك، وهذا الوزير من الطائفة أو المذهب الفلاني يجب أن يعطى لهذه  الفئة وذاك الوزير لفئة أخرى، وكأنهم جميعاً يحيكون كل منهم ثوباً من «الحرير الاصلي» كل علی قياسه و«بالمازورة».

علی  طريقة مدام روز، وما أدراك ما مدام روز، تلك  السيدة  التي خبرتها الحياة وعلمت أجيالاً وأجيالاً وتمرست بثقافة عالية كما خاضت تجارب كثيرة في الحياة، وقد شاهدناها عبر وسائل الإعلام وشاشات التلفزة حين دمر منزلها إثر انفجار المرفأ المشؤوم، وقد سارع عدد من الزملاء الصحافيين في  حينه لمساعدتها على اعادة ترتيبب أغراض البيت قدر الإمكان  فقالت بعفوية وطيبة أمام عدسات المصورين مرددة:  «أهل يعقل هذا؟!» «أهل يعقل هذا»؟؟

فعلاً غريب عجيب أمر  هذا البلد،  وعلى طريقة مدام روز، لا بدّ لنا من أن نقول للمسؤولين والسياسيين والحكام في بلد كلبنان «أهل يعقل هذا»؟؟ حيث أضفت مدام روز على الحقيقة المرة حقيقة صادقة مجردة عندما طرحت بعفويتها مثل هذا  السؤال، والغريب العجيب أيضاً في أمر أولئك المسؤولين في لبنان علی مختلف انتماءاتهم واحزابهم وتياراتهم وفئاتهم السياسية والحزبية كما غيرهم أيضاً ممن يتولون مقدرات الأمور على مختلف المستويات الروحية والزمنية والاقتصادية منها إلى ما هنالك. إذ تبين وكأنهم يعيشون في عالم آخر وعلى كوكب آخر، فيما يتم الايحاء للناس الطيبين من قبلهم انهم يعملون على تسريع ولادة الحكومة الجديدة، ومن ثم يرمون بثقلهم عبر وسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي والادلاء بالتصريحات تلو الأخرى في مواقف تشبه البالونات الحرارية التي تحمل معها مسحة من التفاؤل حيناً، لتتبخر فيما بعد مثل تلك الأجواء التفاؤلية، ومن ثم تعود الأمور إلى سخونتها من جديد وإلى نقطة الصفر، لتتجدد معها معاناة اللبنانيين مع القيمين على شؤون وشجون البلاد والعباد وتبدأ اللعبة من جديد.

الكل يُدرك ان المسافة الجغرافية والزمنية ما بين بيت الوسط وقصر بعبدا قد لا تتعدّى وقتاً قصيراً وقد لا تستغرق أكثر من 18 إلى 22 دقيقة ذهاباً أو اياباً، أي بنفس العدد الذي يبحثون عنه «بالسراج والفتيلة»، في ما يتعلق بأصحاب المعالي الجدد، لكن علينا طرح سؤال وهو لماذا يقتصر لقاء الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري على اجتماع واحد أو اثنين أو حتى ثلاثة على مدار الأسبوع، وبالتالي لماذا لا تكون هنالك سلسلة اجتماعات متتالية ومتلاحقة على مدار الساعة بهدف الخروج بحلول تتزامن مع تصاعد الدخان الأبيض من قصر بعبدا وذلك رحمة بلبنان واللبنانيين الذين باتوا بأمسّ الحاجة في هكذا أوضاع مصيرية صعبة يعانون منها إلى حكومة قد تبلسم الجراح وتدير شؤون البلاد الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية والاجتماعية والبيئية والصحية إلى ما هنالك منعاً للوقوع في المحظور.

انطلاقاً من كل هذا، نقول للمسؤولين جميعاً مرّة جديدة وللمرة المئة، لبنان في خطر ارضاً وشعباً وكياناً ومؤسسات، فتنبهوا إلى ذلك جيداً قبل فوات الأوان، والخوف كل الخوف ان نصل إلى يوم لا يأتي فيه الترياق من الخارج كالعادة لحل أزمات لبنان، فأسرعوا بتشكيل الحكومة ولو بعملية قيصرية، أخرِجوا الجنين من رحم أمة أياً تكن المخاطر التي تحيط بالمولود الجديد مخافة موته قبل ان يولد وأن يبصر النور.

ولكي لا نردد حينها مع مدام روز «أهل يعقل هذا»، اما في حال سؤال اللبنانيين لماذا كل هذا التأخير وما هي مبرراته حتماً سيأتيهم الجواب على طريقة والدتي: «اللي بيدري بيدري واللي ما بيدري بيقول كف عدس».