IMLebanon

الراعي: على القاضي أن يتصف بالمعرفة والمنطق والحكم السليم

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي افتتاح السنة القضائية، بحضور النائب البطريركي العام المشرف على المحكمة الإبتدائية المارونية الموحدة المطارنة حنا علوان، المشرف على العدالة المطران مارون العمار، رئيس المحكمة الإستئنافية المطران الياس سليمان، والقضاة وموظفي المحاكم الروحية المارونية.

وقال الراعي في كلمة: “إخواني السادة المطارنة الأجلاء، الآباء القضاة والموظفون القضائيون في المحكمتين الإبتدائية الموحدة والبطريركية الإستئنافية المحترمون، المحامون والمحاميات، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء.

1- يسعدني أن أستقبلكم، ونحن بين عيدي الميلاد المجيد وبدء السنة الجديدة 2021، بل في آخر يوم من عام 2020، وأن أبادلكم التهاني بالعيدين، راجيا أن يكونا مصدر خير وسلام عليكم وعلى عائلاتكم ومحاكمنا الروحية. وأشكر عزيزنا الخوري جوزف نخلة رئيس محكمتنا الإبتدائية الموحدة على عاطفة التهنئة التي عبر عنها في كلمته باسمكم جميعا، وعلى الهموم المشتركة بين محاكمنا والمتقاضين، وعلى وجوب إيجاد سبل تقنية للتقاضي في الظروف الراهنة. وألتمس معكم من الله شفاء جميع المصابين بوباء كورونا، وإبادة هذا الوباء، لكي تعود الحياة الطبيعية إلى الكرة الأرضية والأوطان والمؤسسات، رحمة بالفقراء والمحرومين من أبسط وسائل العيش. ويطيب لي أن أتناول معكم هذه السنة موضوع شخصية القاضي والميزات التي ينبغي أن يتحلى بها مع الإنصاف، وسعيه إلى اكتساب اليقين الأدبي.

أولا: شخصية القاضي وميزاته

2 – القاضي هو خادم الحقيقة ومحقق العدالة، وفاعل السلام. إن ترابط هذه الثلاثة المتكاملة ظاهر في الكتاب المقدس وتعليم الكنيسة واللاهوتيين والإجتهاد القضائي. فالحقيقة هي “أساس العدالة وأمها”، بل “هي شريعة العدالة”. والعدالة تزرع السلام في قلوب المتداعين، على ما يقول أشعيا النبي “السلام ثمرة العدالة” (أش 32: 17).(راجع خطاب القديس البابا يوحنا بولس الثاني لمحكمة الروتا الرومانية في 4 شباط 1980).

وكون الحقيقة “أساس العدالة وأمها وشريعتها”، فإنها “تحرر المتداعين” (مر 10: 9) وكل الذين يلجأون إلى الكنيسة متوجعين من أوضاع مؤلمة، لا سيما الشك في صحة رباطهم الزوجي. ووجوده. من واجب القاضي أن يقول ما هو حق وعدل، كما تعني اللفظة اللاتينية iudex من فعل ius-dicere. ولذلك، يتخذ حكمه قوة الشريعة وطابعها الإلزامي بالنسبة إلى الأشخاص المعنيين بهذا الحكم. وكون الحكم عملا خطيرا في نتائجه، لا يستطيع القاضي أن يصدره إلا بعد تكوين اليقين الأدبي لديه بنتيجة الدرس والتنقيب وجمع الحيثيات من كل أعمال الدعوى والعلامات والبينات والقرائن.

3 – من أجل أن يأتي حكم القاضي صائبا ومنسجما مع الحقيقة والعدالة، ومنزها عن أي خطأ أو ظلم، وضعت الكنيسة قواعد في أصول المحاكمات كطريق يسلكه القاضي في البحث عن الحقيقة الموضوعية، وقول العدالة بإسم الله العظيم، بما له من سلطان أسندته إليه السلطة في الكنيسة. ليست هذه القواعد غاية بحد ذاتها، بل هي وسائل لبلوغ الحقيقة. فتكون أولى صفات القاضي الأمانة للشريعة الإلهية، الموحاة والطبيعية أولا ثم للشريعة الوضعية القانونية في جوهرها وفي أصول تطبيقها. هذه الأمانة تقتضي من القاضي أن يتماهى معها، بحيث يمكن القول وبحق “إن القاضي هو الشريعة نفسها التي تتكلم”. هذه الأمانة عينها هي التي تدفع بالقاضي إلى التحلي بمجموعة من الصفات التي يحتاج إليها لكي يتم واجباته تجاه الشريعة، وهي: “الحكمة لفهم الشريعة، والعلم لإظهارها، والغيرة للدفاع عنها، والفطنة لتفسيرها، والتبصر لتطبيقها” (خطاب القديس البابا يوحنا بولس الثاني لمحكمة الروتا الرومانية في 4 شباط 1980، 8).

4 – بالنسبة إلى دراسته ملف الدعوى، يجب أن يتحلى القاضي بصفتين: الأولى الإجتهاد (diligence)، الذي هو ليس فقط الإعتناء والدقة، بل وبخاصة الشعور العاطفي، كما تعني اللفظة اللاتينية (diligere ومنها dilection)، وأيضا الوعي الواضح للمسؤوليات التي غالبا ما تمس بالعمق المساحة الشخصية والزوجية.

والصفة الثانية السرعة (célérité) التي تعني الإسراع في دراسة الدعوى والحكم فيها، مع تجنب نقيضين: التسرع الذي يحول دون الدراسة الهادئة، والبطء الذي يحرم المتداعين من تقديم الأجوبة لقضاياهم في الوقت المناسب، وهم في حالة قلق مطالبين بحل سريع (خطاب القديس البابا بولس السادس لمحكمة الروتا الرومانية في 28 كانون الثاني 1978).

من أجل ضمانة الجو الضروري لبحث المسائل بحثا هادئا ومتنبها وكاملا ومستفيضا، ومن أجل تأمين الإمكانية الواقعية للمتداعين كي يتبسطوا في براهينهم وحججهم، فمن واجبهم إعتماد قواعد أصول المحاكمات التي تضمن لهم حقوقهم في كل مراحل التداعي. كما تضمن للقاضي الطريق الذي يؤدي به إلى الحقيقة الموضوعية، وبالتالي إلى خدمة العدالة. ولا يغفل عن باله أن الكل يدخل في إطار التدبير الخلاصي، لكون “خلاص النفوس هو الشريعة الأسمى” (المرجع نفسه).

ثانيا: الإنصاف (équité)

5 – لا يغيبن عن بال القاضي أن العدالة، التي يفصل بها القضية المتنازع بشأنها، تحتاج إلى روح الإنصاف الذي يلطف العدالة، إدراكا منه أن “أقصى العدالة أقصى الظلم”. مع تمسكه بالشريعة، يأخذ القاضي بعين الإعتبار أوضاع الأشخاص والظروف الراهنة للقضية، وغاية الشريعة، وراعوية قوانين الكنيسة الهادفة إلى تعزيز الخير العام وخير النفوس. الإنصاف يصلح قسوة الشريعة وشكلياتها، ويلطف العدالة بالرحمة. “فالرحمة هي القبلة على جبين العدالة” (مز 85: 11)، والإنصاف صيغة رفيعة للعدالة، وتعبير ناطق عن المحبة والرحمة المسيحية.

نجد في مجموعة قوانين الكنائس الشرقية قوانين ترسم وجوب تطبيق رسومها بالإنصاف، مثل القوانين 24، 929، 998 بند1، 1400، 1501. ومن المعلوم أن “الإنصاف القانوني الكنسي” موروث من الإجتهاد القضائي الروماني القديم وقد حدده “بالعدالة الملطفة بطيب الرحمة” (راجع خطاب القديس بولس السادس للروتا الرومانية في 8 شباط 1973).

أشار القديس البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة “الرحمة الإلهية” (30 تشرين الثاني 1980) إلى كيفية سوء إستعمال مفهوم العدالة وتشويهها في الواقع، وخلص إلى القول: “إن العدالة وحدها لا تكفي، فيجب أن يفسح بالمجال لفضيلة أخرى هي المحبة الرحيمة لتكيف الحياة البشرية على إختلاف وجوهها” (الفقرة 12). وكتب: “الرحمة الصحيحة هي أعمق ينابيع العدالة” (الفقرة 14).

ثالثا: اكتساب اليقين الأدبي

6 – يوجب القانون 1291 على القاضي، لكي يتمكن من إصدار حكمه في القضية التي ينظر فيها، أن يتوافر عنده اليقين الأدبي بشأنها إنطلاقا من جميع أعمال الدعوى وبيناتها (البندان 1 و2). الأعمال هي الوسائل المكتوبة التي تبين واقعات الدعوى. إذا احتاج القاضي إلى مصادر أخرى تؤدي إلى اليقين، عليه أول الأمر إدخالها في أعمال الدعوى، عملا بالمبدأ الذي يقول إن “كل ما لا يوجد في الأعمال يعتبر غير موجود”. والقانون 1278 “يمنع منعا باتا أن تبقى خارج أعمال الدعوى معلومات يتلقاها القاضي من المتداعين أو المحامين أو أشخاص آخرين”. أما البينات فعلى القاضي أن يقيمها بحسب ضميره، مع التقيد بما يرسمه الشرع بشأن فعالية بعض البينات (البند 3).

إذا لم يتكون اليقين الأدبي لدى القاضي بعد كل الجهود، فعليه عندئذ أن يحكم بعدم ثبوت حق المدعي وبإطلاق سبيل المدعى عليه. أما في الدعاوى التي تتمتع بحماية القانون، فعلى القاضي أن يحكم دائما لصالحها (البند 4). وهكذا عند الريب يجب دائما الحكم بصحة الزواج حتى إثبات العكس (ق 779).

7 – اليقين الأدبي هو الذي يقصي أي شك ذي أساس أو معقول، ولكنه يفسح في المجال للامكانية المطلقة لتبيان العكس. ليس اليقين مجرد يقين ذهني (subjectif)، قائم على المشاعر الشخصية أو على نقص في الخبرة، بل هو درجة من التأكد تحمل العقل الراجح على العمل، من دون أي شك، على إقرار الإستنتاجات التي يبلغ إليها. اليقين الأدبي يختلف عن اليقين الحسي الخاص بشرائع الطبيعة، وعن الماورائيات (métaphysique) التي تتبع الخط المطلق للمنطق، وعن الأرجحية(probabilité)، ولو كبيرة، لكنها لا تصل إلى اليقين. إن صفة “أدبي” خاص باقتناع القاضي، كما هي الحال مع العديد من حالات أفعال البشر التي يجب على القاضي أن يعلن قراره بشأنها (راجع Pio Vito Pinto, Commento al Codice canonico, p. 916; John Bruke, A Dictionary of Canon Law, p. 319-320). يعلم المكرم البابا بيوس الثاني عشر أن بين طرفي اليقين المطلق والشبه يقين أو الأرجحية يوجد اليقين الأدبي الذي يقصي كل شك ثابت أو منطقي، وفي الوقت عينه يترك قائمة الإمكانية المطلقة للعكس. هذا اليقين ضروري وكاف من أجل إصدار حكم، وسير خدمة العدالة المنظمة من دون إبطاء غير مجد، ومن دون تحميل المحكمة والمتداعين أثقالا مفرطة. في بعض الأحيان، لا ينتج اليقين الأدبي إلا من كمية علامات وبينات، إذا أخذت منفردة لا تشكل يقينا حقيقيا، بل فقط عندما تؤخذ مجتمعة ولا تترك أي شك لدى إنسان ذي عقل سليم.

وعليه، لا يمكن العبور بأي حال من مجرد مجموعة إحتمالات إلى اليقين، لأنه يكون عبورا من جنس إلى جنس مختلف جوهريا، ولكن بالنسبة إلى العلامات والبينات التي تتواجد مع بعضها البعض، يمكن أن يكون لها أساس واحد ومصدر مشترك هو الحقيقة الموضوعية والواقع. في هذه الحال، يتوافر اليقين من تطبيق سليم لمبدأ البرهان الكافي. يحق للقاضي أن يعلن في حكمه كل هذه الأمور التي تختص بالعلامات والبينات (راجع خطاب المكرم البابا بيوس الثاني عشر إلى الروتا الرومانية في أول تشرين الأول 1942).

الخاتمة

8 – إن السعي إلى اكتساب اليقين الأدبي من كل أعمال الدعوى وبيناتها مطلوب ليس فقط من القاضي المقرر الذي يكتب الحكم، بل أيضا من القاضيين الآخرين اللذين يشكل معهما الهيئة الحاكمة بموجب القانون 1292 الخاص بكيفية إجراء المذاكرة. وبما أنه لا توجد حالة مثل الثانية، يجب على كل قاض أن ينظم في رأيه “قسم القانون” بما فيه من تعليم واجتهاد قضائي، لأنه يسلط الضوء على الحالة المطروحة للنظر فيها.

وفي ضوء كل ما رأينا يجب على القاضي أن يتصف بالمعرفة والمنطق والحكم السليم، وأن يطالع باستمرار اجتهادات محكمة الروتا الرومانية، والمحاكم المدنية، وأن يتملك من قواعد أصول المحاكمات.

كل هذا الذي قلناه عن القاضي ومسؤولياته يصلح للمحامين، لأن ما يعنيهم في الدعوى التي يتولونها إنما هو مساعدة القاضي على اكتشاف الحقيقة التي يدافعون عنها، وعلى قول العدالة التي يريدونها، وتوافر اليقين الأدبي لدى القاضي لصالح قضيتهم”.