IMLebanon

الراعي يُعيد للحياد مجده… بكركي صوت الناس في المئوية الثانية

كتب ألان سركيس في “الجمهورية”:

لو كان التصويت في لبنان نموذجاً لإختيار رجل العام لكان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي حاز على أكبر نسبة أصوات، نظراً للحراك الذي قام به في عام مئوية لبنان الكبير، والذي توّجه بطرحه الذي دعا فيه إلى حياد لبنان وإخراجه من سياسة المحاور وإعادة الإعتبار للشرعية وبناء الدولة، بدل سيطرة الدويلة.

بدأ عام 2020 على وقع إستمرار ثورة شباب وشعب لبنان على الطبقة السياسية الحاكمة، تلك الثورة التي حظيت بمباركة البطريرك الراعي ودعم البابا فرنسيس، لكن الثورة لم تكمل نحو إسقاط كل المنظومة الحاكمة بل أملت بتأليف حكومة جديدة تضع حداً لمسلسل الإنهيار الشامل.

وكان البطريرك الراعي قد باشر هجومه على الطبقة السياسية قبل أشهر من بداية الثورة، وقد طالب في مرات عدّة بوقف نزيف الدولة وسرقة المال العام والعمل على معالجة الأوضاع المالية المزرية، وكأن بكركي كانت تشعر بما هو آت إلينا حتى وقعت الكارثة.

إنطلق عام 2020 في ظل تعنت الطبقة السياسية وعدم تأليف حكومة ترضي الشعب، فانفجرت الإحتجاجات في وسط بيروت ووقعت أعمال شغب في كانون الثاني نتج عنها سقوط نحو 400 جريح من مدنيين وعسكريين، فما كان من الراعي إلا أن خرج بموقف ناري مهاجماً تحجّر المسؤولين وعدم إدراكهم لخطورة ما يحصل في بيروت، وصمّ آذانهم عن سماع صوت الشعب المنتفض وتفضيلهم مصالحهم الخاصة على مصالح الشعب، وبعدما كانت الأمور تنحدر نحو العنف أبصرت حكومة الرئيس المكلّف حسّان دياب النور في 21 كانون الثاني، ودعا الراعي إلى إعطائها فرصة كي تعمل وتنتج، لكن سرعان ما جعلت بكركي غير راضية عن أدائها خصوصاً انها لم تباشر في تنفيذ الإصلاحات الموعودة، والتي تسمح للبنان بالحصول على المساعدات الدولية وعلى الأموال المرصودة من مؤتمر “سيدر”.

وكأنه لا يكفي لبنان أزماته ومصائبه، حتى أتت جائحة كورونا لتزيد الإنهيار إنهياراً، ذاك الفيروس الذي لم يميز بين مواطن وآخر وبين دولة ودولة في أي بقعة من العالم، ودخلت الكنيسة المارونية بقوة على خطّ التصدي للوباء، وقادت حملات توعية في المناطق تدعو المواطنين إلى الإلتزام بالإرشادات الصحية الضرورية، وتتابعت الخطوات إلى أن أُقفلت الكنائس في وجه المؤمنين ومنعت الصلوات والجنائز والإحتفالات الدينية، وتعرضت البطريركية قبل ذلك لهجوم ناري على خلفية تناول القربان المقدّس في اليد ومنح الكاهن السلام، لكن هذا الهجوم توقف بعد أن تطور الفيروس وبات خطراً داهماً، في وقت وضعت بعض الاديرة مراكز خاصة للحجر أمام من يحتاج هذا الأمر.

ووسط الإنشغال بفيروس كورونا والأزمة الإقتصادية والإجتماعية، شعر البطريرك بأن هناك شيئاً ما يتحضّر ويهدف إلى قلب وجه لبنان المالي والإقتصادي لصالح مشاريع مشبوهة، وإذا كان الراعي ضد التجاوزات التي كانت في القطاع المصرفي، إلا أنه يرفض بشدّة هدم كل قطاع كان يعتبر ناجحاً. فبعد محاولة “حزب الله” تطيير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عبر إشعال إحتجاجات في الشارع وهجوم دياب الشرس على سلامة، كان للبطريرك موقف مما يجري، وكان هذا الموقف حازماً بوقف الإنقلاب، حسب الكنيسة.

وقد قال الراعي في عظته الشهيرة في 25 نيسان: “تميز لبنان عن سواه من البلدان المجاورة بنظامه الديموقراطي البرلماني الليبرالي، لم يسقط لا في الدكتاتورية ولا في التوتاليتارية بل نجح في المحافظة على هذا النظام، ومن أبسط قواعده اعتماد الحوار قبل اصدار الحكم كما جرى مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وثمة قضاء يجب الرجوع إليه للنظر في النزاعات ونأمل ان يكون القضاء مستقلاً”. وأكد انه “كنا ننتظر من رئيس الحكومة حسان دياب اعلان الخطة الاقتصادية التي تختص بالهيكليات والقطاعات، والتي من شأنها ان تقضي على مكامن الخلل الاساسية والفساد والهدر، وفيما كنا ننتظر خطة المراقبة العلمية والمحاسبة لكل الوزارات والادارات، فإذ بنا نفاجأ بحكم مبرم بحق حاكم مصرف لبنان وحده من دون سماعه واعطائه حق الدفاع عن نفسه”. وشدد على ان “الشكل الاستهدافي الطاعن بكرامة الشخص والمؤسسة التي لم تعرف مثله منذ انشائها غير مقبول على الاطلاق”.

وسأل: “من المستفيد من زعزعة حاكمية مصرف لبنان؟ المستفيد نفسه يعلم اما نحن فنعرف النتيجة وهي القضاء على ثقة الدول بمقومات دولتنا الدستورية”. وسبّب هذا الموقف المتقدم للراعي إحراجاً للمحور الذي كان يبحث عن إقالة سلامة ليس بهدف الإصلاح بل لوضع اليد على حاكمية مصرف لبنان، وسط تخوف بكركي من أن يضع هذا الفريق المصرف المركزي والمصارف تحت دائرة العقوبات الأميركية التي كانت بدأت بالتصاعد.

“بلغ السيل الزبى”، بهذه العبارة يمكن إختصار غضب الراعي على ما وصلت إليه الأمور بعد محاولات لتغيير وجه لبنان والقضاء على نظامه المصرفي والمالي والتعليمي والإستشفائي، وأخذه إلى محور لا يريد أهله الذهاب إليه، فكانت عظة البطريرك الراعي الشهيرة في تموز الماضي حيث ناشد رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ، معتبراً أن “حيادَ لبنان هو ضمانُ وِحدته وتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلة المليئة بالتغييرات الجغرافيّة والدستوريّة. حيادُ لبنان هو قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط”. وأعطت كلمة الراعي مردوداً لم يقتصر على بكركي فحسب بل على كل المرجعيات، وشكّلت دار الفتوى محجاً لشخصيات سياسية تأييداً لنداء الراعي، حيث استقبل مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان عدداً من الشخصيات التي رأت في كلام البطريرك الراعي مناسبة لإطلاق حوار وطني جامع، يهدف إلى الحفاظ على لبنان وطناً ودولة ورسالة.

بدورها شكلت الديمان محجاً لشخصيات سياسية أيدت طرح الراعي، فيما تحرّك سفراء الدول العربية والغربية باتجاه الديمان، وكان لافتاً الزيارة المتكررة للسفير السعودي وليد البخاري الذي أكد أهمية طرح البطريرك لحماية لبنان. وتصاعدت مواقف البطريرك مطالبة بعودة الدولة وتسليم “حزب الله” سلاحه، خصوصاً عندما طرح وثيقة الحياد، فباشر المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان الهجوم على سيد الصرح نيابة عن “الحزب” في حين أن حلفاء “الحزب” المسيحيين قد أحرجوا. ولم يقف الراعي عند حد المطالبة بالحياد بل توجه إلى الأمم المتحدة لصون هذه الفكرة وطلب مساعدة الدول الصديقة والتي تحب لبنان، لأن هذا الامر يخرجه من حروبه وعذاباته ويعيد له دوره الريادي في الشرق والعالم.

وفي الأسبوع الذي ينتظر لبنان حكم المحكمة الدولية في انفجار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقع إنفجار من نوع لم تشهده البشرية، إذ إهتزت العاصمة ولبنان في 4 آب بعد وضع نحو 2.7 طن من نيترات الأمونيوم في المرفأ، وانفجرت هذه المادة مخلفةً وراءها دماراً هائلاً، وقد صنّف كأكبر انفجار غير نووي بعد الحرب العالمية الثانية. إستنفر الراعي والكنيسة لنجدة الأحياء المدمرة خصوصاً ان الإنفجار استهدف الناحية المسيحية من العاصمة ورفع الراعي الصوت عالياً من أجل نجدة الشعب اللبناني، وتجندت الجمعيات الكنسية والمجتمع الاهلي لمساندة الاهالي في الجميزة والأشرفية والصيفي والرميل والكرنتينا، وأتت النجدة سريعاً من دول العالم التي تعاطفت مع لبنان، لكن بكركي أرادت معرفة الحقيقة كاملة وسارعت إلى طلب المساعدة الدولية لكشف الحقيقة، ولا تزال تطالب بمعرفة الحقيقة كاملة.

يحمل الراعي منذ سنوات همّ إستمرار لبنان الكبير بعد مئويته الأولى، وهو الذي أعلن رفض تغيير النظام والذهاب نحو المثالثة بدل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، ويرفض الراعي الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي في ظل إستقواء فريق على آخر بالسلاح، وكان ينظر إلى مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كفرصة إنقاذية في ذكرى ولادة لبنان الكبير، لكن السياسيين أفشلوا كل الخطة الإنقاذية الفرنسية، فتحرّك هو بنفسه وبادر إلى لقاء عون والحريري لحثهما على تأليف الحكومة لكنه اصطدم بما اصطدم به الرئيس ماكرون.

من هنا وفي نهاية هذا العام، ترى بكركي أن لا امل في هذه الطبقة السياسية وهؤلاء الحكام الذين يريدون تدمير الوطن من أجل مصالحهم الخاصة، لذلك لا بدّ من العودة إلى منطق الحياد وإعادة وصل علاقات لبنان بالدول العربية والغربية، والإنتهاء من ظاهرة الميليشيات والسلاح المتفلت والعمل على إنتاج السلطة عبر إنتخابات نيابية مبكرة، وتأليف حكومة إختصاصيين مستقلة يسعى الراعي إليها من خلال مبادرته الأخيرة التي لم تسلك طريق النجاح حتى الساعة، والتي سببت غضباً من سيد بكركي على عون والمنظومة الحاكمة في نهاية هذا العام، من ثمّ المباشرة بالإصلاحات المطلوبة لعودة لبنان إلى سابق عهده.