IMLebanon

عون وبكركي وساعة الحقيقة

كتب نجم الهاشم في صحيفة نداء الوطن:

يكاد وضع الرئيس ميشال عون اليوم في قصر بعبدا يشبه ما كان عليه هناك في تشرين الثاني 1989 بعد التوصّل إلى اتفاق الطائف وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. كلّ العالم ناشده أن يتنحّى ويسير في التسوية التي وافق عليها مجلس الأمن ومعظم الدول، ولكنّه بقي رافضاً. حتى عندما تبلّغ من السفير البابوي وقتها موقف الفاتيكان بأنها ساعة الحقيقة وأن البابا مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بقي عون متمسّكاً برفضه وبقراره حلّ مجلس النواب.

لم يكن البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بعيداً من تلك الأجواء في تلك المرحلة قبل ثلاثين عاماً، ذلك أنه كان شاهداً عليها بحكم قربه من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، ومشاركته في حضور لقاءاته مع الجنرال عون في بكركي أو في بعبدا.

اليوم تتكرّر مع الراعي تجربة صفير مع عون. يعيش لحظات الخوف على لبنان الكيان في مئويته الأولى التي يرى أنّها تذوي وتغيب لمصلحة مشروع “حزب الله”، ولا يتوانى عن الجهر بهذا الأمر وإعلان رفضه له، بينما يغرق الرئيس عون في تغطية موقف “حزب الله”. الأمر الذي يمكن أن يصل إلى حد التخلّي عن دوره كرئيس للجمهورية عليه أن يحترم الدستور الذي أقسم عليه.

يعرف البطريرك الراعي أن الرئيس بصلاحياته ودوره يمكنه أن يتولّى عملية إنقاذ لبنان من السقوط. لذلك توجه إليه مباشرة في 5 تموز الماضي داعياً إياه إلى تحرير الشرعية وتطبيق القرارات الدولية القاضية بنزع سلاح “حزب الله” واستعادة سيادة الشرعية على كامل الأراضي اللبنانية، ولكنه يبدو مذهولاً من تلكّؤ الرئيس عن القيام بما يمليه عليه الواجب الدستوري. ذلك أنه لا مجال للتردّد إذا كان الخيار بين هوية مختلفة ومناقضة يريدها “حزب الله” لا تشبه لبنان بل تشكل نقيضاً له، وبين هوية وطن قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني انه وطن الرسالة، وطن كان للبطريركية المارونية الدور الأهم في ولادته. ذلك البابا القديس كان طلب من عون في العام 1989 السير في تسوية الطائف، ولكن عون تحدّى رغبات البابا.

عون قبل ثلاثين عاماً

يوم الأربعاء أول تشرين الثاني 1989 اتصل الرئيس حسين الحسيني بالبطريرك صفير ليطلعه على نيته تعيين جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية في 4 تشرين الثاني يوم السبت في قصر منصور المقر الموقت لمجلس النواب قرب معبر المتحف.

تلقى صفير ايضاً اتصالاً من السفير الأخضر الإبراهيمي قال له فيه أنه التقى العماد عون وهو باق على موقفه الرافض لانتخاب رئيس، مضيفاً أن الإعداد للإنتخابات مستمر.

في ظل هذه الأجواء إنعقد في بكركي إجتماع رؤساء الطوائف المسيحية من دون أن يكون هناك تصوّر وقرار للخروج من المأزق. قبل الإجتماع الذي بدأ في الساعة العاشرة، وصل الى بكركي السفير البابوي كارلو بوانتيه الذي أبلغ صفير أن عون إستدعاه ليقول له إنه سيحلّ المجلس النيابي.

حضر السفير البابوي جانباً من إجتماع رؤساء الكنائس وقد تقرّر إيفاد أربعة مطارنة لمقابلة عون، فذهبوا فوراً. بعد اللقاء عاد المطران رولان أبو جودة ليبلغ صفير أن عون يرضى بأن يجتمع مع النواب في بكركي أو في السفارة البابوية وأنه سيناقشهم، فإذا أقنعوه سمح بانتخاب رئيس وإذا لم يقنعوه، حلّ المجلس.

كل هذه الأجواء السلبية لم تمنع صفير من إستنفاد كل الوسائل الممكنة. وعلى رغم معرفته الأكيدة بموقف عون لم يتوانَ عن زيارته يوم الخميس 2 تشرين الثاني الساعة العاشرة صباحاً. رافقه في الزيارة نائباه المطرانان رولان أبو جودة وبشارة الراعي. لاحظ صفير أن القصر ازداد خراباً. جاء عون بالوثيقة التي وُضعت في الطائف وراح يقلِّبها صفحة صفحة ويشير الى ما يعتبر أنّه ثغرات فيها، في ما بدا لصفير أنه مقاربة سلبية للواقع على رغم أن مجلس الأمن تبنّى الإتفاق ومعظم الدول أيّدته وتطالب عون بالتنحّي.

تطرق الحديث الى المرشحين للرئاسة بعد أن غادر المطرانان أبو جودة والراعي ليتركا لصفير وعون حرية التحدث عن الأسماء. قال عون: “سيجري الانتخاب ولم يباحثني أحد به، كأنّي غير موجود. بلغني أنهم يرشّحون رينيه معوّض وقد عرفت أنه ذهب منذ زمن بعيد الى دمشق سرّاً في سيارة الحسيني. فهل هذا ما يريدونه رئيساً؟ من الأفضل إنتخاب الرئيس فرنجية لسنتين ومعوّض رجل صفقات”، وذلك وفق ما دوّنه صفير في يومياته.

رسالة البابا ورفض عون

عند هذا الحدّ بدا للبطريرك صفير أن الحوار مع عون سيبقى من دون نتيجة، وكان خوفه الكبير من حصول إنقسام كبير في الصف المسيحي. وكان مدركاً أهمية الغطاء الدولي لوثيقة الطائف ولخطورة إستمرار عون في الرفض. بعد عودته من بعبدا إستقبل الدكتور سمير جعجع في بكركي “وكان رأيه إجراء الانتخابات في موعدها، وأن الفرصة مناسبة للبنان، وأن المرشّح هو رينيه معوّض”…

يوم الجمعة 3 تشرين الثاني اتّصل جان عبيد بالبطريرك وتمنى عليه إقناع عون بالقبول بالإجتماع بالنواب. الأخضر الإبراهيمي أيضاً إتصل ونقل الى صفير أن اللواء نديم لطيف ممثل عون في اللجنة الأمنية أخبره أن عون يرفض الخطة الأمنية ولا يتعاون لإعداد قصر منصور لإجراء الانتخابات، ولذلك تم تأجيل الجلسة.

ضمن هذه الأجواء المنذرة بالمخاطر تم تحديد موعد إنعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في مطار القليعات في عكّار يوم الأحد 5 تشرين الثاني. كان القرار بالحسم قد اتُّخذ بحيث يتمّ نقل النواب من الخارج بالطائرات الى المطار مباشرة، وقد تم إعداد مدرجه على عجل لتأمين هبوط آمن للطائرات في جوّ سياسي غير آمن.

فجر السبت 4 تشرين الثاني، أصدر عون مرسوماً حلّ بموجبه مجلس النواب ودعا الى انتخابات عامّة بغض النظر عن شرعية هذا المرسوم من عدمها. ذلك اليوم زار السفير البابوي العماد عون في بعبدا ثم توجّه الى بكركي لوضع صفير في أجواء اللقاء، ناقلاً إليه بحضور المطرانين أبو جودة والراعي أنّه “أبلغ عون أنّ الفاتيكان ضد حلّ المجلس النيابي وضد تقسيم لبنان، وأن ساعة الحقيقة قد دقّت وأنّ إختيار الشرّ الأهون هو الأسلم، وأنّه مع انتخاب رئيس للجمهورية ومع مؤسّسات دستورية. هذا رأي الكنيسة ولا مجال للحياد في هذا المجال”. طلب السفير من عون أن يعمل شيئاً ليعود عن قراره إذا كان بالإمكان، واعتبر أن حلّه للمجلس غير قانوني. ولكن عون كان في وادٍ آخر كأنّه كان يقول له “سلِّم لي عالبابا”.

بعد ظهر ذلك السبت، وصلت إلى بكركي معلومات عن اتّجاه أنصار عون إلى توجيه تظاهرات إلى بكركي. أوفد صفير المطرانين أبو جودة والراعي فوراً الى بعبدا للقاء عون وكلّفهما إبلاغه “أن موقفنا هو موقف الفاتيكان، وأنّا ضد التقسيم ومع انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة مؤسسات الدولة. وطلبنا إليهما أن يقولا له إنّه يحمل مسؤولية ما يحدث في التظاهرة”. كانت تلك ذروة حرب الإرادات بين البطريرك صفير وعون.

رسالة عون إلى بكركي

الساعة العاشرة صباح يوم الأحد 5 تشرين الثاني في الموعد المحدد لجلسة الانتخاب، إتصل عون بالبطريرك صفير يسأله عما إذا كان النواب إتصلوا به وما إذا كانوا سافروا من باريس أو قرّروا من ينتخبون رئيساً. أجابه صفير: لا نعرف شيئاً عن ذلك.

بالفعل كان النواب قد بدأوا بالوصول الى مطار القليعات. كل الترتيبات كانت أُعدّت لإنجاح جلسة الانتخاب. كان النائب رينيه معوّض هو المرشح شبه الوحيد.

مساء الأحد بينما كان الرئيس المنتخب معوّض ينتقل الى دارته في إهدن بعد زيارة الرئيس سليمان فرنجية، كانت التظاهرات المؤيّدة لعون تصل الى بكركي وتستبيح حرمة الصرح وكرامة البطريرك. كان المطران الراعي شاهداً على ما حصل تلك الليلة وقد ذهب إلى الكنيسة يصلّي قبل أن ينتقل مع صفير فجراً إلى الديمان.

بين الراعي وعون

لم تمرّ علاقة أي رئيس للجمهورية بالبطريركية المارونية بما مرّت به علاقة عون معها. من صفير إلى الراعي لم يتغيّر الوضع. كان مؤيدو عون يحمّلون المسؤولية للبطريرك صفير وكانوا يأملون أن تنقلب المعادلة عندما يصل بطريرك آخر غيره. وصل البطريرك الراعي ولكن الصورة لم تتبدّل. يكاد الراعي أن يعيش مع عون التجربة نفسها التي عاشها صفير في مرحلة مصيرية جديدة من تاريخ لبنان. ليس المطلوب اليوم من عون أن يوافق على الطائف أو يرفضه. وليس مطلوباً منه أن يحلّ المجلس النيابي أو أن يسمح بانتخاب رئيس للجمهورية. وليس مطلوباً منه أن يُخلي قصر بعبدا لرئيس غيره. المطلوب منه أقلّ بكثير. أن يكون الرئيس المؤتمن على هوية لبنان وعلى لبنان الذي تريده بكركي والبطريرك الراعي. أن يكون الرئيس المؤتمن على الدستور والرافض محاولات أخذ لبنان إلى هوية مناقضة، يعبّر عنها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله وأعلن البطريرك الراعي رفضه لها.

المطلوب من الرئيس أن يحرّر الشرعية كما طلب منه البطريرك. فلماذا لا يفعل؟ هل يوافق عون مثلاً على قول نصرالله أن العالم لا يتذكّر لبنان إلا بسبب صواريخه؟ هل بدأ لبنان مع هذه الصواريخ؟ هل يستطيع الرئيس أن يخرج من أسوار السجن الذي وضع نفسه فيه ليحرّر لبنان معه؟ المطلوب من عون القليل. أن يختار بين الإستتباع لولاية الفقيه واستراتيجية إيران في المنطقة وبين وطن الرسالة، رسالة القديس يوحنا بولس الثاني من أجل لبنان.

مرّة جديدة هي ساعة الحقيقة التي يواجهها عون وتفصل بينه وبين بكركي. ومرّة جديدة أيضاً لا مجال للحياد أمام عون تماماً كما تبلّغ في رسالة البابا قبل ثلاثين عاماً. فهل يرتكب الخطأ مرتين؟