IMLebanon

السلطة تنجح في إلهاء متعاقدي “المهني”

كتب راشد الحاج في جريدة الأخبار:

طوال السنوات الـ24 الماضية، قام التعليم المهنيّ على كاهل الأساتذة المتعاقدين الذين لامست نسبتهم 90% من نسبة العاملين في القطاع، بعدما ألغيت شهادة

الـLET (Licence D›enseignement Technique)، الّتي كان يمنحها «المعهد الفنّي التربوي»، وتوقف مبارياتِ التثبيت عبر مجلس الخدمة المدنيّة عام 1997.

أي مقاربةٍ علميّةٍ أو موضوعيّةٍ لا يمكن أن توصلنا إلى فهم هذا السلوك العبثيّ في إبقاء الأمر على ما هو عليه، لكون المشكلات الناجمة عن وجود هذا العدد من المتعاقدين من جهة، والسياسات المتّبعة في التعاطي معهم من جهة أخرى، متعدّدة ومتشعّبة، من الناحيتين التربوية والاجتماعية.

من الناحية التربويّة، لا يحمل معظم المتعاقدين الإجازات التعليميّة، وبالتالي هم غير متخصصين في طرائق التعليم، ولا يملكون مهارة في استخدامها وملاءمتها مع الأهداف التعليميّة، التقويم التربويّ، الإدارة الصفيّة، خصائص المراحل العمريّة، علم نفس التعلّم، علم النفس التربويّ… كذلك هناك صعوبة في مقاربة المنهج التعليمي، وانتقاء ما هو مناسب لكلّ مرحلة تعليميّة في ظلّ عدم وجود كتاب دراسيّ موحّد في التعليم المهنيّ والتقنيّ. وثمة صعوبة أيضاً في تدريب الأساتذة وتأهيلهم، لأن معظمهم متعاقدون بعدد من الساعات ومرتبطون بوظيفة في القطاع العام، أو في القطاع الخاصّ، أو بمصالحهم الخاصّة، وهم بالكاد يصلون في الوقت المحدّد إلى حصَصِهِم، وبالتالي يتعذّر جمعهم لمناقشة العمليّة التعليميّة وأوضاع التلامذة وتطوير العمليّة التربويّة.

في المقابل، ليس لدى عدد من المتعاقدين وظيفة أخرى، والتعاقد هو مصدر رزقهم الوحيد، وهؤلاء يعانون لكون المتعاقد يحصل على بعض مستحقّاته بعد مرور ما يقارب السنة على بداية العام الدراسيّ، والجزء الآخر بعد أكثر من سنة. المتعاقد غير مغطى صحياً ولا يتقاضى بدل نقل، ما يعني أنه يذهب إلى عمله طوال العام على نفقته الخاصّة، وهو يستدين بدل النقل والطبابة. كذلك هو محروم من حقه الطبيعي في التثبيت بعد خدمة تعدّت 24 عاماً في التعليم كمتعاقد.

في لبنان ممنوع أن يكون «منتَج» نظامنا التعليميّ من المبدعين، والصناعيّين، والمفكّرين الناقدين، والباحثين العلميّين، ومنتجي العلم والفكرِ في مختلف الميادين، والأدلّة على ذلك كثيرة، ليس أولها السياسة المالية التي أفقرت البلد ووجهت رؤوس الأموال نحو المصارف لتُنهَب بدل توجيهها نحو الصناعة والإنتاج، والاستثمار في التعليم والبحث العلمي وغيره. بل إنّ النظرة الدونيّة إلى التعليم المهنيّ، الّتي سببتها سياسات الدولة أولاً، هي بالأساس ناشئة وموجودة لدى معظم أهل السلطة القيّمين على التربية والتعليم والاقتصاد.

خلال عام 2012، تألفت لجنة للمتعاقدين في التعليمِ المهنيّ والتقنيّ وكانت تمثّل المتعاقدين في معظم المناطق اللبنانيّة، آخذةً في الاعتبار حضور ممثّلي القوى السياسيّة الأساسيّة، وحملت مطالب المتعاقدين وهمومهم ودارت بها على الكتل السياسية. وفي إحدى الزيارات بادر أحد النواب الذي كان وزيراً سابقاً للتربية، أعضاء اللجنة بالقول: «أعلم ما هو مطلبكم وقبل أن تبدأوا بعرضه أريد أن أقول لكم رأينا (الجهة السياسيّة الّتي يمثّلها) بصراحة: نحنا ضدّ أن يكون هناك أساتذة في التعليم المهني. أي شخص لديه مهنة يستطيع أن يدرّس كم حصة في التعليم المهني وتنتفي الحاجة للأساتذة».

الدولة الّتي تُبقي قطاع التعليم المهنيّ من دون مباريات تثبيتٍ لأكثر من 24 عاماً، ولا تدعم هذا القطاع على المستويات كافّة، والتي فيها وزراء ونوّاب ينظرون نظرة دونيّة إليه ويعتبرون أنَّ وقف «المعهد الفنّيّ التربويّ» الذي رفد التعليم المهني بأساتذة أكْفاء، هو تصحيحٌ لخطأ، لا يمكن أن نصدّق أنّها تسعى إلى أن يكون لبنان بلداً منتجاً وغير تابع في اقتصاده. فهذا النظام التعليميّ لن ينتج إلّا عاطلين من العمل ومستهلكين وتائهين في بلدان العالم. وهي أيضاً لن تنظرَ بعين الإنصاف إلى المتعاقدين في هذا القطاع، وهم الذين يفنون أعمارهم في التعليم وتقديم أفضل ما لديهم. المتعاقدون أعلنوا الإضراب، ليس على خلفيّة حقوقهم المهدورة طوال السنوات الماضية فحسب، بل ما أضيف إليها هذا العام من تقليص لعقودهم إلى النصف، في حين أنّه قبل أزمة كورونا وارتفاع سعر الدولار، كان العقد الذي يتضمّن أعلى عدد من الساعات التعليميّة، يوازي ما يقارب 15 مليون ليرة، أي ما يعادل 10 آلاف دولار. أما اليوم مع الممارسات الظالمة في احتساب الساعات وانخفاض العقود إلى النصف، سيتقاضى أفضل المتعاقدين بعد سنة على تنفيذ الساعات ما يقارب 8 ملايين ليرة، أي ما يعادل ألف دولار في حال بقي الدولار على قيمته الحاليّة.

لقد نجح المعنيّون في إلهاء المتعاقدين بقضيّة العقود، ووعدوهم بحلّها، فأعلنوا تعليق الإضراب، وعادوا يحلمون بمعالجة قضاياهم ومظلوميّتهم الأساسيّة الّتي زاد عمرها على 24 عاماً في دولة لا تعير هذه القضايا أيّ اهتمام.