IMLebanon

تدويل “الإصطفافات اللبنانية”: حلّ سلس أم اضطرابات ساخنة؟

من التأفف، من سوء إدارة حالة الطوارئ الصحية، من مرحلة سبقت قرار الاقفال العام، والذي استمر 24 يوماً، على أن تبدأ المرحلة الأولى، من إعادة فتح البلد أو التخفيف من الإجراءات، اليوم بتوسيع المجالات الخاضعة لنظام الإستثناء، بكل تعقيداته الرقابية، من إذن المنصة للوصول إلى “السوبر ماركت” إلى شرطة التدقيق هناك، عبر بوابات الحرس، وشغيلة “الديلفري”، إلى مضي النّاس في حالة من القرف، من سرعة فلتان الأسعار والأسعار، التي تشابه سرعة الرياح الخمسينية أو القطبية، عند أدنى تغير، في الوضع، يتيح “نتش” ما تبقّى في جيب موظف صغير أو حتى كبير، أو معتاش على إعانة عبر “O.M.T” أو مصادر أخرى، أو ما أتيح سحبه من “المصارف” التي تستعد للانقضاض على ما تبقى من ودائع، بشطبها “بدم بارد”، كلما أتيح المجال لذلك، على مرأى ومسمع سلطة، منشغلة بملف من هنا، أو ملف مثقل بالفساد من هناك..

من التأفف إلى التقشف، إلى التخوف، من مدارات حرب أسبارطة ضد أثينا، في المشهدية اللبنانية النادرة، قوى “المجتمع المغلق” بيدها الرصاص والكواتم، وشتى أسلحة “الإبادة الفردية”، مثلاً من “الرمانة” (القنبلة اليدوية) إلى الديناميت، والصواريخ، والـ بي.سفن (B.7) وأسلحة الكلاشينكوف، والـ (M.16) وسواها من أسلحة فتك قديمة وحديثة، وبإمكانها القتل، في وضح النار، وفي الليل، وعند الغسق، في الغدوة والعشيات، وكل الأوقات، وقوى “المجتمع المفتوح” بأبعاده الإنسانية، من الإيمان بحرية الرأي، إلى حرية الاعتراض، والنشر والتأليف، وتداول المعلومات، إيماناً بأن التشبه بسقراط، وأفلاطون وأرسطو، في كسب الخطابات والمحاججات عن طريق المنطق، ودعم الرأي بالحجة المقنعة، والإيمان الذي لا يتزعزع بأن قوة الرأي أقوى من قوة البطش الأسبارطي، من “إلى وصولاً إلى” كل ذلك، حافظ المشهد اللبناني على قوة اضطراب نادرة، إذ انه من الصعب ان تحل بشعب نكبات، من النوع الذي حلَّ بلبنان وشعبه، ويبقى واقفاً على قدميه..

في حربها، ضد أثينا، وفي محاولة منها لانتزاع رئاسة العالم اليوناني، خاضت أسبارطة حروباً دامية ضد أثينا، مستعينة بتحالف مع بعض المدن، ومعتمدة على كتائبها البرية التي لا تقهر. دعيت حروب التعاطي بين المدن اليونانية بحروب “البلوبوينس” كثرت ضحاياها وأضعفت الشعوب اليونانية كلها..

ربما، خطر على بال أحد أو بال كثيرين السؤال: وما شأن أحداث لبنان بأحداث حقبة تاريخية تمتد إلى بلاد ما بين خمسة أو ستة قرون قبل المسيح، وإن كانت على الشواطئ الغربية لآسيا، قبالة ضفاف المتوسط، في بلاد اليونان؟!

الجواب، ببساطة، يخال إليَّ أن في لبنان يوجد مدن، وليس دولة، والمدن مسكونة بطوائف، ترتبط بمصالح “ربت الحاجة”، محكومة بعدائية متنامية، لم تستطع أهوال كورونا، أو حتى أهوال الفساد، وسوء الإدارة من الحدّ منها، فعلى شاطئ المتوسط من طرابلس إلى صيدا، مروراً ببيروت، عاصمة المدن اللبنانية، يكاد المشهد يبدو مثقلاً.. بين فئات وطبقات تجمع بين الفقر والغنى، والتقارب الاجتماعي، ووحدة الانتماء، الديني أو المذهبي، على تعداده..

وفي أعالي الجبال، من جبل لبنان إلى جبل عامل، فجبل الباروك، تسكن مجموعات بشرية، تجمع بين الإنتماء القبلي والديني، وتتعايش بالقهر، على جغرافية واحدة، ممزقة، إلى أبعد درجات التمزق، من الخلية الاجتماعية، إلى الخلية الدينية، وصولاً إلى المدرسة والمخفر، ودكاكين السمانة والمستشفى، الذي لا يقبل إلَّا أبناء الطوائف، أو المجموعات، في المساحات المتاحة، للاستشفاء.. تشهد «المدن اللبنانية» بمجموعاتها البشرية، المنقسمة بين “مجتمع القطيع” والمجتمع المدني، المفتوح على التنوع والتعدد ما يشبه “الحرب الباردة”، في وقت تشهد فيه الوقائع جملة انزياحات، ليس من الممكن رؤية نتائجها، بعيداً عن المشهد العالمي، الذي يشهد بدوره، انزياحات، على مستوى الحكم (الديمقراطية وحساباتها) والأمراض (جائحة كورونا ومتحوراتها) والاقتصاد (تباطؤ النمو وقوة الدخل القومي للدول، فضلاً عن وضعية الدولار، واشتباكاته المتوقعة مع عملات أوروبا والنمور الآسيوية، فضلاً عن الصين والاتحاد الروسي)..

تحاول الولايات المتحدة، مع وصول جو بايدن، الذي نجح في هزيمة “غوغاء الديمقراطية” الأميركية، ممثلة بدونالد ترامب، وتوحشه الحضاري، أن تعاود وتزعم العالم، عبر قوة اللقاح ضد كورونا، وقوة التكنولوجيا والعملة الخضراء، وقوة الدبلوماسية، التي فتحت الباب، لإعادة بناء ائتلاف الغرب، من الغرب الأميركي إلى الغرب الأوروبي، من دون السير بصدام مباشر مع العرق الأصفر (الصين) أو العرق القوقازي الروسي..

هنا، يبدو الشرق الأوسط، وعواصمه المضطربة على خارطة الدبلوماسية الأميركية، التي استبعدت خيارات الحروب المباشرة، وذهبت إلى بناء نمط جديد من فسيسفاء تحالفات، تعطي لدول المركز والأطراف أدواراً في عمليات التفكيك، والبحث عن حلول للأزمات، ترتبط بالمركز، الذي عليه أن يُعيد صياغة وقائع العالم، بعد جائحة كورونا، ولقاحاتها، وعالم البشر بعد الإعتلال منها..

وهنا، يبدو مفهوماً، ماذا تعني العودة الى تعويم التفاهمات مع إيران، ليس من باب الاتفاق النووي وحسب، بل من باب النووي، والصواريخ البالستية، وقوى التدخل في صراعات آسيا الأمامية وأفريقيا القريبة، وصولاً إلى بحر قزوين والبحر الأسود.. والسواحل الشرقية للمتوسط..

وهنا، يبدو مفهوماً ماذا تعني الدعوة إلى وقف حرب اليمن، التي امتدت لأعوام خلت، سبقت وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وها هي مستمرة بعده..

وهنا، يبدو مفهوماً، النجاح الأممي، في إعادة انتخاب «مجموعة سلطة» للمرحلة الانتقالية في ليبيا، تسمح بوقف الاشتباكات بين مجموعات الإخوان المسلمين المدعومة من تركيا والمجموعات القبلية والعشائرية الأخرى المدعومة من مصر والسعودية والمحور العربي- الأوروبي (الفرنسي تحديداً).

ومع عودة للبشائر الطيبة لدى الفلسطينيين العودة إلى “حلّ الدولتين” وكبح خيار “يهودية الدولة في اسرائيل”، وإسقاط خيار حق العودة، وفرض التوطين للفلسطينيين، حيث هم، تبدو أزمات الشرق الأوسط على طاولة المعالجة، في غرفة “الدبلوماسية الاميركية” الطامحة إلى إعادة قيادة العالم، والتحكم بمصائره منعاً للتفلت، وتولد جائحات، تضع مصير الجنس البشري كلّه على الطاولة.

في الانزياحات الدولية الجارية، أين موقع لبنان، في عملية، إعادة الوئام إلى مدنه ومجموعاته، المتقاتلة، ولو بأسلحة، لا شأن لها بالدمار والقتل، إلَّا ما ندر؟

ليس أمراً، بسيطاً، أن ترتفع الأصوات، في وسط بيروت، وهي تندِّد باغتيال الكاتب والباحث السياسي، الليبرالي، لقمان سليم، بالدعوة إلى الحماية الدولية.. الحماية الدولية ممن؟ ببساطة، من سلطة حزب الله، أو بطشه، أو بأسه “الأسبارطي”…

تتزامن الدعوة، مع تصريحات أميركية وفرنسية وأممية، تندّد بالجريمة، وتدعو إلى عدم الإفلات من العقاب، وتذهب الولايات المتحدة الأميركية إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما تتعهد بأن تقتص من الفاسدين والمجرمين ضد اللبنانيين، وشعب لبنان..

هنا المشهد، يطرح أسئلة ملحّة؟ إلى أيّ مدى يمكن لعملية الإستباحة الداخلية للوضع في لبنان أن تستمر، وماذا عن الإنزياحات اللبنانية؟

ليس ما قبيل الصدفة، أن يُعيد حادث الإغتيال الأخير، وقبله الاصفافات، في ما خصَّ الملفات الحكومية والتحقيقية، وما يسميه “التيار الوطني الحر” إعادة بناء الدولة، تشكيل نماذج التحالفات في قلب “المشهد المتبدِّل”: يقترب التيار الوطني من “الهروب” من تحالفه أو تفاهمه مع حزب الله، وهو يبحث عن التوقيت، بين سعي لا يتوقف عن الخروج من “شرنقة” العقوبات الأميركية، في عهد بايدن، والحرص على عدم حرق المراحل، في معركة البحث عن السلطة، في عهد ما تبقى للرئيس ميشال عون، وما بعده. أليس أمراً يدعو للدهشة أن يسعى التيار الذي يرأسه جبران باسيل، إلى انتزاع (6+1) في حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري أو غيره، من دون احتساب قوة تفاهمه مع حزب الله؟

أليس من النقاط المثيرة للجدل، أن يقف اسامة سعد، نائب صيدا، وهو يتبصر بنتائج انهيار علاقته مع حزب الله، ليس فقط على خلفية بيانه من اغتيال لقمان، أو وضع الحزب، في خضم المعركة ضد سلطة الفساد، وحمايتها.

أليس من الأمر المثير للاهتمام التبصر في بيان سعد الحريري، المكلف تأليف الحكومة، في ما خص حادث الاغتيال (وهو الأول من نوعه على الساحة الشيعية)، وربطه بين الاغتيالات السابقة، والاغتيال الحالي..!

تبحث دول العالم عن مخارج لمأزق السلطة في لبنان.. هنا المشهد، قد يتخذ أشكالاً سلسة أو دراماتيكية، ما دام على الطاولة: الحدّ من نفوذ حزب الله، ولو من باب “الدبلوماسية الهادئة”.. هنا تعود الطوائف إلى التماس وحدة العصبية المذهبية، سواء على جبهة المسلمين (سنّة، شيعة، دروز، علويون) أو على جهة المسيحيين (موارنة، أرثوذكس، كاثوليك، أرمن)..

كيف يكون المخرج؟

ضغط متجدِّد على القيادات للإتفاق على حكومة، من دون حزبيين، يمثل فيها الشيعة نبيه برّي، وسعد الحريري، هو الممثل الوحيد للسنَّة، ويحاول باسيل أن يكون الممثل الوحيد للمسيحيين، مع شراكة درزية – أرمنية، تحرره من الالتزام بحزب الله، الموضوع، على طاولة الترتيبات الجديدة، في زمن متغيرات “عالم ما بعد الجائحة”!

ليس من السهل، الجزم بمسار الموقف، سواء نجحت إجراءات الخروج المنظم، والممرحل من الإقفال أم لا، المهم، هنا والآن: أي مسار سياسي للمعالجة: عقوبات، أم تبصر  بالمجريات المقبلة، ليرعوي “المتمردون”، قبل فوات الأوان!