IMLebanon

من كامل مروّة إلى لقمان سليم… الشيعة بين اغتيالَين وزمنَين

كتب نجم الهاشم في صحيفة نداء الوطن:

في 16 أيّار 1966 اغتيل كامل مروّة مؤسّس وصاحب وناشر جريدة “الحياة”، المعارض لجمال عبد الناصر، بعدما أطلق عليه عدنان سلطاني النار في مكتبه بمسدّس كاتم للصوت. وفي 4 شباط 2021 اغتيل لقمان سليم المعارض لـ”حزب الله” بعد خطفه من نيحا قرب صور ونقله إلى العدّوسية حيث عُثِر عليه مصاباً بستّ رصاصات. بين الإغتيالين ثمّة رابط هو محسن سليم والد لقمان ووكيل الإدعاء في قضية اغتيال كامل مروّة وثمّة فارق كبير بين زمنين.

إغتيل كامل مروّة في زمن عبد الناصر. وكان الزمن زمن صعود موجة الناصرية في العالم العربي. في تلك المرحلة كان الرئيس المصري يمثّل محور الممانعة وكانت الشوارع تتحرك وراءه ويحركها الولاء له في أكثر من دولة عربية. كان كامل مروّة شيعياً مؤمناً مثل عبد الناصر بالعروبة ولكن العروبة المتنورة وبالوحدة القائمة على احترام الخصوصيات لا على القهر والصَّهر، بعكس ما كان يحاول أن يفعله عبد الناصر الذي كان دائماً يحضّر للحرب ضد إسرائيل، بينما تقاتل قواته في اليمن ويحاول إسقاط النظام الملكي في السعودية.

توقّع كامل مروّة أن ينهزم الجيش المصري في اليمن. كانت جريدة “الحياة” تشكّل في تلك المرحلة الناطق الأبرز باسم معارضي عبد الناصر وتنافس محطة صوت القاهرة وجريدة الأهرام. في 16 ايار 1966 دخل عدنان سلطاني إلى مبنى جريدة “الحياة” في وسط بيروت. كان كامل مروّة في مكتبه يكتب تعليقه اليومي عندما شهر سلطاني مسدسه وأطلق عليه النار ثم غادر المبنى محاولاً الهرب. الصدفة وحدها قادت مواطناً يدعى رفيق المير للحاق به معتقداً أنه حرامي حتى تمكّن من القاء القبض عليه وتسليمه للشرطة. لو لم يحصل ذلك لكان اختفى وبقيت القضية مقيّدة ضدّ مجهول. التحقيق الأولي معه كشف أنّه نفذ الخطة بطلب من ابراهيم قليلات الذي كان أحد رجال المخابرات المصرية في بيروت.

لم تربك عملية الإغتيال المخابرات المصرية واللبنانية بقدر ما أربكتهما عملية القبض على المنفّذ. ولذلك جرت أكثر من محاولة لحرف مسار التحقيق وتضليل العدالة، خصوصاً أن المكتب الثاني اللبناني كان ينسّق مع المخابرات المصرية وكان عليه أن يستجيب لطلب التدخّل لإبعاد التهمة عن النظام المصري وحصرها بالمنفذ عدنان سلطاني. ولذلك جرت أكثر من عملية للضغط في الشارع عبر إلقاء عبوات ناسفة كما تم تغيير هيئة المجلس العدلي لضمان الحكم المطلوب صدوره. في ظلّ تلك الأجواء لم يكن من السهل التوكّل عن جهة الإدعاء لأنه كان توكلاً ضد عبد الناصر. المحامي محسن سليم لم يتردّد في قبول المهمة كوكيل رئيسي. على رغم تهديده بشكل مباشر ووضع عبوة ناسفة قرب منزله في الغبيري بقي مصرّاً على موقفه ولم يخف. مثله لم يخف لقمان من المضي في الخطّ الذي أراده دفاعاً عمّا يعتبر أنّه حق وواجب من أجل إظهار صورة لبنان الحقيقية غير الخاضع لنظام لا يشبهه. والإبن لم يكن إلا سرّ أبيه في هذه المسألة.

كان من الجرأة أيضاً المشاركة في عملية تشييع كامل مروّة والسير في شوارع بيروتية جمهورها مؤيّد لعبد الناصر. كانت النظرة الطاغية حول اغتياله كأنّه اغتيال عميل ضد عبد الناصر وبمثابة حكم إعدام تمّ تنفيذه ويجب تهنئة القاتل على فعلته. كان السيد موسى الصدر صار أبرز رجال الدين الشيعة قبل أن يؤسّس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وكانت لديه الجرأة الكاملة لكي يقف خطيباً في حفل تشييعه. فالسيد موسى نفسه كان غير مرحب به في مصر. في المقلب الآخر من المحاكمة كان هناك محام شيعي وكيلاً عن ابراهيم قليلات هو عبدالله الغطيمي. بتسهيل من المخابرات استقبل ابراهيم قليلات على مطار بيروت على رغم وجود مذكرة توقيف بحقه، ورافقه إلى مكتب المحقق العدلي في قصر العدل أمين الحركة، الشيعي أيضاً، لينقل بعدها إلى غرفة في مستشفى بحجة طبية. على رغم تبرئة قليلات وحصر التهمة بعدنان سلطاني وإبعاد أي شبهة عن أي دور لعبه النظام المصري، بقي المحامي الغطيمي يعاني من عقدة ذنب نتيجة قبوله الوكالة وقتها على خلفية أنه عادى طائفته.

كما اغتيال كامل مروّة تبدو عملية اغتيال لقمان سليم كأنّها أيضاً تنفيذ لحكم بالإعدام. ولكن على عكس ما حصل في قضية مروّة ذهب سليم إلى مثواه الأخير كأنه غريب بين قومه. ليس لقمان من تغيّر بل القوم والبيئة التي هو منها وفيها. صورة بيت محسن سليم ومن بعده لقمان ورشا والوالدة وسائر أفراد العائلة تعكس صورة لبنان الواقعية ووطن الرسالة الذي آمن به الأب وتمسكت به العائلة. كانت الضاحية كلها تشبه بيت محسن سليم ولكن هذا البيت أيضاً صار غريباً عن محيطه. هذه الغربة لا تعني أبداً أنه الخطأ والوجه الآخر هو الصواب. ربما قد يشكّل اغتيال لقمان مناسبة لإعادة تظهير الصورة الأصلية.

السيد موسى الصدر لم يحضر تشييع لقمان سليم. ولو كان حاضراً لربّما فعل. منذ تغييبه في ليبيا في 31 آب 1978 بدأ تغيير صورة الضاحية. كما خاف الناس من السير في موكب جنازة كامل مروّة في قلب بيروت قبل 55 عاماً كان هناك خوف من المشاركة في تشييع لقمان سليم في قلب الضاحية الجنوبية التي كانت الغبيري وحارة حريك وبرج البراجنة والشياح والمريجة… ببساتينها وشوارعها وناسها وكنائسها ومساجدها وهدوئها وتنوعها.

في قضية كامل مروّة تمّ التعرف إلى الجهة المحرّضة والمخطّطة والمنفّذة ولكنّ التدخّلات في التحقيقات منعت تظهير الحقيقة الكاملة. حتى عدنان سلطاني لم يغفر لابراهيم قليلات التخلّي عنه وتركه وحيداً والنجاة بنفسه. في قضيّة لقمان سليم، أيّ حقيقة يمكن انتظارها بينما لا يوجد تحقيق كامل وشامل ولا توجد أدلّة ولا توقيفات ولا شبهات ولا وقائع ولا مشتبه بهم ولا روايات ولا شهود. تمّت العملية في الليل. والشاهد الوحيد هو الذي اكتشف وجود الجثّة داخل السيارة. صارت القضية تدور حول هاتف لقمان. هل يمكن أن يروي هذا الهاتف القصّة؟ كامل مروّة عندما اغتيل كان يتحدّث على الهاتف مع العامل على السنترال محمود أروادي، الذي أراد أن يلهيه ويسهّل دخول القاتل كونه شريكاً في العملية. تمكّن أروادي من الهرب وعاش بقية حياته في مصر ومات فيها.