IMLebanon

في وداع لقمان: السياسة تستيقظ

كتب وليد شقير في صحيفة نداء الوطن:

التشييع المهيب لجثمان لقمان سليم في ضاحية بيروت الجنوبية حمل أكثر من دلالة تكرس اغتياله كمحطة لن تُنسى. ولربما تتحول رمزية القضاء على لقمان إلى محطة تؤرخ لمرحلة جديدة، مثلما كان بعض الاغتيالات محركاً لتوالد أحداث تعقبها، بصرف النظر عن أهمية الضحية على المستوى السياسي وفي تراتبية الزعامة أو في اللعبة السياسية.

الوداع الراقي والهادئ لأحد رواد الكلمة الحرة والرأي المستقل جاء ترجمة لمنهج لقمان سليم في الحياة العامة، مختلفاً عن ضجيج الجنازات المعتادة، المليئة بالروتين وبرتابة التقاليد وأحزان رفع العتب المفتعلة. حفل التشييع بالمعاني، بدءاً من مواراة لقمان الثرى في حديقة منزله في قلب منطقة حارة حريك – الغبيري، الذي أبى مغادرته لسبب يتعلق بأمنه بعد التهديدات التي أعلن عن تلقيها في بيان نشره في العام 2019 . في مماته يتحدى لقمان من لاحقوه وراقبوه وحاولوا ترهيبه في حياته، بحيث يتعذر عليهم الاطمئنان إلى أنهم شطبوه من ناظرهم أو حوّلوه إلى أثر يُنسى مع الوقت.

مفاجأة التشييع جاءت بكلمة الأم الجريحة والشجاعة السيدة سلمى مرشاق، التي لم يغير اغتيال ابنها من قناعاتها، فكانت في قمة الرقي والموقف الحضاري حين غالبت حزنها العميق لفراق الإبن والصديق والمحاور، بقولها بثقة عالية بالنفس:”اقبلوا فكرة الحوار ومنطق العقل لخلق وطن يستحقه لقمان”، رافضة السلاح لأنه أضاع ابنها.

بالإضافة إلى تعدد رجال الدين المسلمين والمسيحيين الذين أقاموا مراسم الجنازة في شكل يرمز إلى التضامن والوحدة، اللذين كان يطمح إليهما لقمان، برز حضور جيران آل سليم من أبناء المنطقة الطيبين، الذين يعرفون الراحل وعائلته ويدركون أن ما كان يقوم به ليس مؤذياً للبلد وأبنائه. ويسألون أنفسهم والآخرين لماذا يُقتل لقمان على رغم معرفة الجميع بأن الرجل يصر على سلمية تحركه ولا تشهد دارته أي حركة غير مألوفة؟

شكل حضور السفراء الغربيين الثلاثة، الألماني والأميركية والسويسرية، التشييع وإصرارهم على التحقيق الشفاف بجريمة الاغتيال، وسط حماية رسمية من الجيش اللبناني حالت دون أي مظاهر ترهيب أو تواجد من أي مجموعات تمثل الأمر الواقع، مفارقة نادرة. فتعاطي الأجهزة الرسمية مع المناسبة، وضمان حماية احتفال التشييع وتواجد السفراء، أسقط حصرية النشاطات السياسية التي تجري في الملء، بالقوى النافذة في تلك المنطقة، أي “حزب الله” الذي يعتبرها مربعه الأمني. وهذا ربما كان دليلاً إلى أن الأجهزة الأمنية اللبنانية حين تحزم أمرها، بإمكانها أن تضمن سلامة العمل السياسي في البلاد، وأنه إذا غابت الضغوط السياسية ومحاولات حجب وظيفتها، تستطيع أن تقوم بدورها على أكمل وجه أو على الأقل وفق الوجه الذي وجدت من أجله. وهذا الاستنتاج يفترض أن ينسحب على التحقيق في الجريمة التي لا يعقل أن يبقى الذين ارتكبوها مجهولين لأجهزة الأمن.

تفاعلات اغتيال لقمان سليم، من النوع الذي شهدناه في التشييع في الأيام الماضية، ستتراكم وتواكب ما يشهده البلد من أزمات وحراك. الجريمة أثبتت صحة ما كان ذهب إليه لقمان بأن انتفاضة 17 تشرين ليست بسبب الأزمة الاقتصادية وحدها، بل أيضاً رداً على الإحباط السياسي من التركيبة الحاكمة والنافذة.

ساهم القتلة في إيقاظ السبب السياسي للانتفاض على واقع كان يجري إقناعهم بعدم جواز تسييسه. وسيكتشف قاتلوه بعد مدة، كم أخطأوا.