IMLebanon

بإنتظار هبّة الغضب الشعبي العارم

كتب محمد مغربي في “اللواء”:   

يدور حديث كثير في المجالس الرسمية وعلى ألسنة السياسيين، وفي الإعلام، حـــول الإصلاح ولا سيّما الإصلاح المالي والإصلاح القضائي. ويتركز قدر كبير من هذا الحديث على شبهة الفساد المتمثل بسرقة المال العام والرشوة بحيث قد تتكوّن، أو تكـون تكوّنت بالفعل، في لبنان والعالم قناعة غير صحيحة وظالمة مفادها ان في لبنان شعباً وحكومـــة ملؤهمـــا الفاسدون وجلّهم من اللصوص والمرتشين لا سمح الله.

وإذا نتج عن كل هذا الحديث شيء، فإنه نجح في خلق جو عام مسموم، ومزيدٍ من الاستياء الشعبي الشامل. لكنه لم يتولد عنه بعد غضب شعبي شديد. فلا يجدي نفعاً. ذلك ان الفساد المشكو منه هو جزء يسير من الفساد الحقيقي، ولأن لا نفع من للإصلاح في بناء يشارف على السقوط. بل ان الحاجة هي لإعادة البناء. ولا بدّ أولاً، وقبل طرح إعادة البناء، من الاعتراف بوجود الفساد الحقيقي، وأكثر من ذلك: البلاء الأعظم. ليس ذلك فحسب بل سماع هدير الغضب الشعبي العارم حياله والسعي الجديّ لإزالته.

وان الشرط المسبق لتشخيص ومجابهة الفساد الحقيقي هو معالجة البلاء الأعظم ومنه حالة ترك سواد الشعب اللبناني محروماً من الحصول على مقومات الحياة الكريمة ومن الحد الأدنى للدخل اللازم لها ومن عدم توافر الحاجات الأساسية لعائلاته، كبارها وصغارها. وبدلاً من إظهارهم التصميم على التصدّي لهذا البلاء الأعظم فإن ما يقلق اللبنانيين ويشغل بالهم اليوم هو الخشية المبررة من تسارع الانهيار الاقتصادي والمالي، الذي يُحكى يومياً عن إمكان أو وحتى قرب حصوله، وعواقب هذا الانهيار المتمثلة بتدهور قيمة ما تبقّى لغالبيتهم من الدخل الضئيل ومن مقوّمات العيش وحاجاته الأساسية.

ولا شك ان محور هذه الهموم الطاغية على النفوس هو متابعة تطوّر الحالة الاقتصادية والمالية. لكن هذه الحالة تعاني من أمراض خطيرة لا تتم الإضاءة عليها بما يكفي، ولا يمكن التصدي لهــا أبداً مع انه تنبغي معالجتها بكل سرعة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، في وجود البلاء الأعظم.

ومن البلاء الأعظم حالة ان الشعب والوطن يرزحان تحت الطغيان الذي يتمثل بعدد من الظواهر و/أو الحقائق الكبرى ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- ظـاهرة و/أو حقيقة ان البــــلاد ليســــت بالفعــــل جمهوريـة واحـــــدة متحدة بــــل ترزح تحت هيمنـة مجموعــة مـــن « السيادات» ومفردها «سيادة» بمعنى sovereignty. فإن صاحب السيادة sovereign سواء كان شخصاً طبيعياً أو معنوياً، هو سلطان عالٍ ومستقل بذاته ولا يخضع لأي قانون بل هو فوق كل قانون سوى قانونه الخاص الذي يعبّر عن إرادته الخاصة ويمكن تغييره بسرعة البرق حيث تدعو الحاجة. ولكل من هؤلاء السلاطين أعوانه وعسكره (المسلحون وغير المسلحين والذين يمكن تسليحهم جهاراً أو خفية بكبسة الزر) وسائر اتباعه الذين يخضعون كلياً له ولا ينتمون فعلياً الى الجمهورية ولا يخضعون لقانونها. وتتفرع عن السلاطين العُلى سلاطين أصغر فأصغر في تراتبية صريحة أو خفية. وكل منهم صاحب سيادة مستمدّة من سيادة سيده وقد يكون له أيضاً قانونه الخاص الذي يعلو على قوانين الجمهورية. وقد يكون موظفاً كبيراً أو صغيراً، معروفاً أو غير معروف. ويستمدُّ كل هؤلاء السلاطين قوتهم من خارج البلاد أو داخلها أو من المصدرين معاً.

وهي ظاهرة و/أو حقيقة مميتة وتناقض قاعدة حكم القانون وقاعدة سيادة الشعب وتتعارض مع أحكام المادة 7 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 7 من الدستور التي جاء فيها:

«كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم».

2- ظاهرة و/أو حقيقة انتشار عدم احترام القانون جهاراً لدى سواد الناس لقناعتهم بأن القانون غير موجــود طالما ان أصحاب السيادات من السلاطين وفروعهم لا يحترمونه ولا يطبّقوه، فلماذا يطبّقه سائر الناس إلا عند الضرورة القصوى وحيث لا تنفع شفاعة السلاطين؟ ويعزز هذه القناعة ان كثيراً من المسؤولين عن تطبيق القانون، سواء في الإدارة أو القضاء، يحجمون عـــــــن تطبيقه، أو يطبقون قانون سلطانهم أو قانونهم الخاص، وكل ذلك بلا حسيب أو رقيب أو رادع أو عقاب. وهذا اسوأ كلياً من الرشوة التي قد يسوغها البعض لأنفسهم ويسهل سرقة المــــــال العام عملاً بالقول المأثور: المال السايب يعلم الناس الحرام.

وفي رأيي فإن المرتشين أقلية قد تكون لا تذكر لأن أولى ينابيع البلاء الأعظم هي تجاهل القانون وعدم احترامه وعدم تطبيقه أو تطبيق عكسه. وتتجلّى هذه الحالة في كثير من الدوائر الرسمية بما فيها النظام القضائي. ولو قام كل الموظفين العموميين والقضاة والمساعدين القضائيين والمحامين بواجباتهم في احترام وتطبيق القانون لتقلّص الفساد في الإدارة والقضاء الى ما يقارب الانعدام.

3- الظاهرة و/أو حقيقة التي يعبّر عنها تناسي التقليد الذي ورثناه عن السلف الصالح من ان القضاة ثلاثة أصناف: العادل والظالم والجاهل. فجاء في الحديث الشريف: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة. فأما الذي قضى بغير الحق عن علم فهو في النار، وأما الذي قضى بغير الحق عن جهل فهو في النار، وأما الذي عدل فقضى بالحق فمصيره الجنة. لكن هذا التصنيف لا يعني ان ثلثي القضاة يدخلون النار وثلثهم يدخل الجنة، بل ان منهم من يدخل النار ومنهم من يدخل الجنة وذلك كسائر الناس. وهو ما ينطبق أيضاً على سائر الموظفين العموميين.

أما الكـلام عن «استقلال القضـاء» فهو محض هراء. فـإن الموظف العمومي والقاضي همـا ككل إنسـان يواجهـان الخيــار بين الخيــــــر والشــــر ويجب أن يتحمّل كل منهما نتائج خياراته عن طريق الحساب والثواب والعقاب. وكل قاضٍ هو مستقل فعلاً في القيام بوظيفته القضائية. وهو يقضي بما يشـاء وكما يشــاء. ولأن له هذا الاستقـلال وهــــــذه الحريــــة في مخالفة القانون فبإمكانه أن يقضي كما يشاء شخصياً أو يشاء أحد السلاطين، أو بغير الحق، سواء عن رضـى أو مكـرهاً وكذلك هم معظم الموظفين. فكيف يمكن ملاحقة جرائم الرشوة وسرقة المال العام عن طريق القضاء؟

ان جزءاً كبيراً من البلاء الأعظم الذي يسود الدوائر الرسمية كافة بمــــــا فيهــــــا النظــــــام القضــــــائي يتغذّى من قلّة المعرفة، أي الجهل. لكن اسوأ ما يمكن أن يعــــــاني منه المواطنون هي أعمال الموظف العمومي الجاهل والظالم في آن معاً والقاضي الجاهل والظالم في آن معــاً. وبإمكان كل من يتولّى الوظائف العامــــــة أن يكون جــــــاهلاً أو ظالمــــــاً أو الاثنين معــــــاً طالمــــــا انه لا يخشى الله ولا احتمــــــال أن يتعرّض للحســــــاب والثواب والعقــــــاب.

ويترجم البلاء الأعظم في الإدارات الرسمية، بما فيها القضاء، بالإنتهاك السافر والمتمادي والوقح لأحكام المادة 7 من الدستور بإسباغ حصانة من الملاحقة الجزائية على الموظفين عامة والقضاة خاصة. فلا تجوز ملاحقة الموظف الذي يرتكب جريمة إلا بعد إعطاء الإذن بذلك من رؤسائه. ومنع الاجتهاد القضائي، الذي أهدته الهيئة العامة لمحكمة التمييز الى الشعب اللبناني، ملاحقة الرؤساء والوزراء قطعياً بإعتبار انه لا تجوز محاكمتهم أمام القضاء بل أمام المجلس الأعلى الذي تنص عليه المادة 80 من الدستور. وتتطلب هذه المحاكمة التحقيق والاتهام من جانب أغلبية كبيرة من مجلس النواب التي يستحيل أن تتكوّن. لكن هذا المجلس لم يحاكم أياً منهم بعد. وأما القضاة فقد منع القانون ملاحقتهم جزائياً أو محاكمتهم أمام القضاء العادي بل حصر الصلاحية في ذلك الى محكمة التمييز بموجب فصل خاص في قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يتم تطبيقه بعد.

ويكون من الثابت ان الموظفين الرسميين بمن فيهم القضاة والوزراء والرؤساء يتمتعون بحالة فريدة من الإفلات من الملاحقة والمحاسبة والعقاب تسمّى باللغة الانكليزية impunity وذلك في إطار الغياب الكامل لحكم القانون. وهي الحالة التي تؤلف الأساس المتين لحكم السلاطين، الكبار منهم والصغار، وكل ذلك بإنتهاك القانون والدستور ولا سيّما المادة 7 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 7 من الدستور التي توجب المساواة فيما بين اللبنانيين جميعاً أمام القانون.

ولا يجوز لهذه الحالة أن تدوم لأنه يكتمل بدوامها الخراب التام للبلاد.

ومن المؤسف له ان حالة الشعب اللبناني تشبه حالة ركاب سفينة في بحر هائج انكسر شراعها ومعطّلة وتشرف على الغرق ويقودها ربابنة من الأشقياء لا يبذلون أي جهد للمحافظة على سلامة الركاب بل بالعكس يرمونهم بالبحر واحداً واحداً لتخفيف الحمولة والحفاظ على سلامتهم الشخصية. ومن المحزن ان رد الفعل الشعبي على سوء أحوال البلاد حتى الآن لا يتعدّى بعض التحركات المحدودة مع إظهار الاستياء الشديد الذي يشوبه القنوط لكنه لم يتحوّل بعد الى تفجّر الغضب العارم الذي قد تؤدي هبّته العامة الى إنهاء حكم السلاطين ويحيي الأمل بغد أفضل يسود فيه العدل وحكم القانون. فيصبح بالإمكان التصدي وطنياً بصورة فاعلة وناجعة للمسائل الاقتصادية والمالية الخطيرة التي تهدّد الشعب والوطن، فضلاً عن التهديد الناجم عن سرقة المال العام والرشوة وبالإضافة إليه، وهي على سبيل المثال لا الحصر:

1- مسألة الاختلال الجسيم والمتزايد في الميزان التجاري وبالتالي في ميزان المدفوعات:

فإن لبنان يستورد من الخارج بمعدل شهري قدره زهاء مليار ونصف المليار دولار بحسب الاحصاءات الجمركية. ولا بدّ أن يكون الرقم الحقيقي أعلى بكثير بالنظر للتهرّب من الرسوم عن طريق التلاعب بالفواتير بتخفيض قيمتها الحقيقية. لكن البلد لا يصدر إلا بمعدل مائتي مليون دولار بالشهر. أي ان قيمة الاستيراد تفوق قيمة التصدير بسبعة أضعاف. يعني انه، وفي حسابات وطنية، يخرج من مجموع جيوب اللبنانيين ومن حساباتهم المصرفية الى خارج البلاد سنوياً أكثر من خمسة عشر مليار دولار أكثر مما يدخل إليها. وكان هذا الفرق يغطى بتحويلات اللبنانيين العاملين بالخارج وبتدفق الرساميل الخاصة. لكن قيمة هذه التحويلات والرساميل آخذة بالتقلّص بسرعة فائقة ولا بدّ من خطة وطنية لتشجيع التصدير وتقليص الاستيراد توصلاً الى توازن كامل بين قيمة مجموع كل منها. وقد شهدنا النتائج السيئة لحالات عجز أقل كثيراً من هذه الحالة على اقتصاديات وعملات البلدان الأقوى والأكبر من لبنان سواء منها المجاورة أو سواها وعلى سبيل المثال اليونان وتركيا والأرجنتين.

2- مسألة الانتفاخ القياسي للإدارة الحكومية اللبنانية الى ما يقدر بربع الى ثلث مجموع القوى العاملة في البلاد:

وهو ما يمثل عشرة أضعاف ما تحتاجه أية دولة تعادل مساحتها وعدد سكانها الدولة اللبنانية وبالتالي عشرة أضعاف كلفتها. ولا يجوز لهذه الحالة أن تدوم. فيجب ألا يتعدّى مجموع عدد الموظفين في الدولة اللبنانية الأربعين الى خمسين ألف موظف. وهذا ما يتطلب خطة وطنية على المدى القصير والمتوسط والبعيد لتحقيق هذا الانكماش مع إعادة تدريب القوى الفائضة عن حاجة الإدارة الحكومية للقيام بأنشطة اقتصادية نافعة لها وللبلاد بدلاً من أن تشكّل عبئاً على سائر اللبنانيين وعلى نفسها.

3- مسألة اللبنانيين العاملين في الخارج، أي المغتربين مؤقتاً:

وهؤلاء يضمون زهرة شباب لبنان. ذلك ان الحاجة إليهم في البلدان التي يعملون فيها تتراجع بسرعة لان حكوماتها انشأت الجامعات الكبرى ومعاهد التدريب ومراكز التخصص العالي التي يتخرّج منها سنوياً عشرات آلاف من مواطنيها الساعين الى الحلول محل أقرانهم القادمين من الخارج، ولأن المنافسة تشتدّ فيما بين هؤلاء اللبنانيين وأقرانهم من الآسيويين الذين لا يقلّون عنهم كفاءة بل يرضون بأجور أقل كثيراً. فلا بدّ من خطة وطنية على المدى القصير والمتوسط والطويل لاستقبال اللبنانيين المغتربين مؤقتاً حين يعودون بلدهم الأم مع توفير فرص العمل لهم والانتفاع منهم في تنشيط الاقتصاد الوطني.

لكنه لا أمل يُرجى في قيام وتنفيذ خطط وطنية جديّة وصحيحة وصادقة لمعالجة المسائل المذكورة وسواها من المسائل الخطيرة، ومنها المسائل المتعلقة بسرقة المال العام والرشوة والإفلات من العقاب، ما دامت البلاد ترزح تحت البلاء الأعظم الذي شعاره: كيف تُحلُّ عقدة حلّالُها المُعقِدُ؟

وإن ظاهرة السلاطين العلى، التي لا يمكن إنكار انها تغذّي البلاء الأعظم، وتتغذّى منه في آن معاً، هي أشبه برواية الثعبان المتعدد الرؤوس في الأساطير اليونانية القديمة الذي كان معروفاً بإسم هيدرا ويرابط، بحسب الأسطورة، أمام أحد أبواب الجحيم، وهو الذي حاول البطل اليوناني الأسطوري هرقل قتله بقطع رؤوسه لكنه كلما قطع رأساً نبت للثعبان رأس آخر الى أن تمكن هرقل أخيراً، بحسب الأسطورة، من القضاء عليه بقطع رقبته بما فيها كل رؤوسه في آن معاً. لكن هذه الظاهرة هي حقيقية وليست من الأساطير القديمة.