IMLebanon

هكذا تتفاعل طرابلس مع مبادرة الراعي السيادية

كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:

منذ أن أطلق البطريرك بشارة الراعي مبادرته لتحرير الشرعية وتثبيت الحياد والدعوة لمؤتمر دولي من أجل لبنان، دخل لبنان عملياً معركة السيادة والاستقلال الثالث، وأصبحت مواقف البطريرك محور الحركة السياسية والوطنية، محلياً وخارجياً، واستقطبت مواقفه الاهتمام، بعد أن أصبح في الواجهة مع انطلاق المواقف الإيرانية لاستهدافه وتحطيم مبادرته ببعديها الداخلي والخارجي على حدٍ سواء.

لم تكن مبادرة البطريرك الراعي مجرّد صرخة أو نداء عابر، بل شكلت منطلقاً لإعادة إحياء الخطاب السيادي، وفي الوقت نفسه تفعيل الشراكة الإسلامية المسيحية، بما هي ركيزة الوطن وأساس الدولة. لذلك من الطبيعي أن تتفاعل مواقفه على جميع المستويات: السياسية، الإعلامية، الاجتماعية، وعلى صعيد التفاعل وتعزيز الشراكة الإسلامية المسيحية وتماسكها في ظلّ التحديات الهائلة التي تستهدف كيان لبنان وطبيعته وتنوعه ورسالته، وتهدِّدُ بقاءه واستقراره كوطن ودولة.

لهذا، من الطبيعي أن نطرح السؤال عن موقع طرابلس ودورها في تعزيز الشراكة الوطنية، وكيفية التفاعل مع المتغيرات الراهنة، باعتبار الفيحاء عمقاً متماسكاً للسيادة والحرية، وباعتبارها قلعة صمود في وجه الاحتلال السوري وفي مواجهة الهيمنة الإيرانية، وهي التي شهدت برعاية الجهتين، أكبر مجزرة في تاريخها عام 1986 انتهت باجتياح المدينة بعد تدمير معظم أحيائها.

طرابلس الثائرة الحرة

بعد استشهاد رفيق الحريري كانت طرابلس البركان الشعبي الهادر المتدفق من ساحاتها ومنازلها نحو بيروت، فرفدت حركة جمهور 14 آذار وحققت الفارق المرجح في ساحات النزال وفي ارتفاع سقف العمل السياسي، وكان للبطريرك الراحل نصرالله صفير مكانة وازنة في قلوب أبناء الفيحاء، الذين أمّوا الصرح البطريركي وفوداً، وتفاعلوا مع مواقف بكركي الوطنية بأعلى درجات الحماسة والتجاوب.

ورغم كل الانتكاسات اللاحقة، إلاّ أنّ نبض طرابلس لم يتغير، وهواها ما زال عربياً وطنياً، وإسلامياً مسيحياً، متعاوناً ومتكاتفاً، لأن التاريخ المشترك والحاضر والمستقبل، يجعلون من هذا النموذج أسلوب حياة يبعث على الافتخار.

الشراكة فعل حياة

ما نتحدث عنه، هو أبعد من الصورة النمطية التقليدية، بل هو فعل حياة يومي يتواصل مع شروق كل صباح، وغروب كلّ مساء، ليجعل من مدينتنا مرفأً للرحمة والتآخي، وشاطئاً للأمان والتضحية والتعاون، ومكاناً لتلاقي المظلومين والمقهورين، تحت سقف الحرمان والتهميش، ومع ذلك، فإنّ أهل المدينة لم يتخلّوا يوماً عن ثوابتهم الراسخة في نفوسهم والثابتة في ضمائرهم، وهي هوية تبرز خصائصها ومميزاتها في المحن، وتحديداً في المحنة الهائلة التي يعيشها لبنان اليوم.

من هنا، تبدأ الحكاية مع تفعيل الشراكة الإسلامية المسيحية في مواجهة مخاطر الانهيار المقبل على مدينة انهار بنيانها تحت ضربات الإهمال والحرمان الرسمي، لنتلمّس الخطوات: من أين نبدأ وكيف نحدِّد اتجاه البوصلة، وما هي السبل لإنشاء مظلة حماية لطرابلس، في ظروف الاستيلاء على الدولة من قبل أصحاب المشاريع الامبراطورية المنفلتة في المنطقة.

قيادات طرابلس الدينية: هامات تقية

العنوان الأساس، هو كيف نترجم الشراكة الإسلامية المسيحية إلى تعاون يمتدّ ليشمل مجمل جوانب الحياة، وما هو دور القيادات الدينية في حمل هموم الناس، وهم في ضائقتهم يغرقون، ومن آلامهم يصرخون؟

من حسن طالع المدينة وجود قادة دينيين يتمتعون بكفاءة ونزاهة وريادة، تجعلهم قادرين على التعاون لجعل طرابلس مدينة سلام وتقوى، ومدينة رعاية وكفاية لأهلها، من خلال مبادرات نوعية ترتقي إلى مستوى المسؤولية. أعني بهؤلاء القادة: مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام، راعي أبرشية طرابلس المارونية وتوابعها المطران يوسف سويف، مطران طرابلس لطائفة الروم الكاثوليك آدوار ضاهر، ومطران الروم الأرثوذكس افرام كرياكوس.

يتمتع القادة الدينيون لطرابلس بسِيَرٍ ذاتية زاخرة بالعطاء، ولكلٍ منهم حضوره المميز، وقدراته على الحوار والتعاون، ونحن في خضم هذا «الجهنم» الهائل الذي يضرب عميقاً في الجذور والقواعد.

كما أطلق البطريرك الراعي مبادرته الإنقاذية، ننتظر من المطران يوسف سويف أن يكون امتداداً لهذه المبادرة، خاصة أنّه انضمّ مؤخراً إلى عضوية «مجمع خدمة التنمية البشرية الشاملة» التابع للفاتيكان، والذي يترأسه الكاردينال بيتر توركسون، وتكمن رسالته في الحقول التالية: خدمة المحبة، عدالة وسلام، خدمة الصحة، المهجرون والمهاجرون، الوقوف الى جانب المتروكين والمهمشين والمرضى والمعوزين وضحايا النزاعات والحروب والكوارث الطبيعية، وكل أنواع العبودية والإتجار بالبشر. ويخدم فيه كرادلة وأساقفة وكهنة مع العلمانيين».

ولعلّ في هذه العضوية مدخلاً لنشاط فاعل في مجال التنمية البشرية المفقودة، وهي رسالة يحملها طبعاً المطرانان آدوار ضاهر وأفرام كرياكوس، ويعمل عليها المفتي الشيخ محمد إمام، من خلال الأوقاف الإسلامية وما تتيحه من فرص للتعويض عن غياب الدولة، رغم محدودية الإمكانات.

نحو تعاون فاعل في وجه الأزمات

إنّ للقيادات الدينية دوراً في التنمية والتوعية والإرشاد، لا يمكن شطبه ولا إلغاؤه، وهو المدخل نقل الشراكة الإسلامية المسيحية إلى مرحلة التعاون الفاعل في مواجهة الأزمات، مستذكرين الكبار من المفتين والبطاركة ورجال الدين الذين نذروا أنفسهم لخدمة أهلهم، وقدّموا المساعدة للناس، من دون تمييز ولا انحياز ولا شروط، وهذه سيرهم تتحدث عنهم في أزمنة المجاعة والحروب: أنهم رهنوا صليبهم لإطعام الرعية، وسخّروا أوقافهم لإنقاذ المؤمنين.