IMLebanon

إيجارات المدن تطرد سكانها

كتب رضا صوايا في “الاخبار”:

حتى عام 2019، كانت التقديرات تُشير إلى أن نحو 87% من المُقيمين في لبنان يقطنون في مناطق حضرية، غالبيتهم تسكن في المدن الكبرى. الأزمة الاقتصادية الراهنة ستغيّر، على الأرجح، هذه التقديرات بفعل تزايد «النزوح» إلى الأرياف. وهي عودة لا تخلو من «عواقب اجتماعية وخيمة» لما قد تساهم فيه من زيادة الانغلاق والتقوقع ونموّ العصبيات المناطقية والعشائرية، فضلاً عن أن الحياة «هناك» أسهل من «هنا» بسبب غياب الإنماء ومركزية العاصمة في حياة اللبنانيين

مع دخول الانهيار عامه الثالث، تُشارف غالبية عقود الإيجار السكنية في مختلف المناطق عموماً، والمدن خصوصاً، على الانتهاء، فيما ترتفع حدّة «المُفاوضات» بين المالك والمُستأجر على خلفية البدل الشهري للمأجور لتنتهي غالباً بالفشل.

مُقارنةً مع بقية السلع والخدمات التي ارتفعت أسعار بعضها في السنتين الماضيتين بنسبة تجاوزت الـ 400%، زادت التكاليف المرتبطة بالمسكن (القيمة التأجيرية، الماء، الكهرباء، والمحروقات..) بين خريف 2019 وخريف 2020 بنسبة تقل عن 14%، وفق مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت. هذه الزيادة «المقبولة» سبقت تفاقم الانهيار ورفع الدعم عن المحروقات واشتداد أزمتَي الكهرباء والمياه، ما يشير الى «التحاق» كلفة السكن، قريباً، بـ«موكب» أسعار بقية السلع والخدمات.

ومع انتهاء عقود الإيجارات التي نُظّمت قبل الأزمة وتجاوز قيمة الإيجارات «الجديدة» أضعاف الحد الأدنى للأجور، وفي ظلّ اشتداد الانهيار، غدا قرار العودة الى الريف خياراً وحيداً لكثيرين ممن يملكون «ترف» الاستقرار في القرى و«استثمار» مداخيلهم لتأمين غذائهم وحاجياتهم.

تقول ليلى، وهي ربة منزل انتقلت وعائلتها من بيروت إلى «الضيعة»، إن زوجها «عاطل من العمل منذ أشهر، والأولاد لا يزالون في المدرسة، فيما ارتفعت كلفة المعيشة ولا أقارب لنا في الاغتراب لمدّنا بالدولارات»، لذلك «رجعنا عالضيعة وسجلت الأولاد في المدرسة الرسمية هناك»، علماً بأن الخيار لم يكن سهلاً، إذ «مضت عقود على سكننا في بيروت، ولدينا هنا ذكريات وأصدقاء، وأولادنا كبروا في أحيائها».

حال ليلى من حال كثيرين من اللبنانيين الذين هجروا مسقط رأسهم سعياً وراء الدراسة والعمل في المناطق الحضرية التي كانت، حتى عام 2019، «تؤوي» نحو 87% من المُقيمين في لبنان، وفق برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN HABITAT)، ونحو 64% من هؤلاء يعيشون في المدن الكبرى: بيروت، طرابلس، زحلة، صيدا وصور.

يُجمع عدد من الخبراء المدينيين على أن الأزمة الحالية من شأنها أن تغيّر معادلات السكن وتعيد توزيع السكان على المناطق بسبب موجات العودة الى الأرياف. إلا أن لهذه العودة التي يُجبر عليها هؤلاء تداعيات و«عواقب اجتماعية وخيمة وآثاراً نفسية»، بحسب الباحثة المدينية في «استوديو أشغال» نادين بكداش. إذ إن «المسكن ليس حجراً فقط، بل ذكريات وصداقات وعلاقات ونشاطات. ومن غير السهل سلخ إنسان عن محيط اعتاد العيش فيه. كما أن كثيرين من يعودون إلى القرى كانوا قد انقطعوا عن قراهم لفترات طويلة، ولا علاقات اجتماعية وحميمية لهم فيها كتلك التي تربطهم في المدن التي قضوا فيها معظم حياتهم». وفق بكداش، «المطلوب التعامل مع هذا الأمر بواقعية وعدم الانجرار إلى الرومانسية، لأن الدفع نحو خيارات غير طوعية، بل مفروضة بحكم الأمر الواقع، قد ينتج منها مزيد من الانغلاق والتقوقع ونمو العصبيات المناطقية والعائلية والعشائرية»، لافتةً إلى أن المدينة «فضاء يسهّل الدمج والاختلاط والتواصل مع شرائح المجتمع كافةً». أضف إلى ذلك، ما هو «ضمان» أن تكون «مقوّمات الصمود» في القرية في الظروف الحالية أفضل؟ و«إذا افترضنا أن نقلة كهذه تؤمّن حلاً لمشكلة السكن وتوفّر كلفة الإيجارات، فماذا عن بقية المصاريف؟».

مديرة برنامج العدالة الاجتماعية والمدينية في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية، منى فواز، تلفت إلى أن «الحديث عن تراجع دور المدينة وتفضيل حياة الريف والعمل أونلاين ليس جديداً، ويعود الى حوالى عقدين من الزمن» مع فورة الاتصالات العالمية. لكن «هذه التوقعات لم تتحقق حول العالم، أقلّه بالحد الذي كان متوقعاً». ورغم تضافر عوامل عدة تدفع كثيرين إلى التفكير بالانتقال للعيش في القرية، تُشير إلى «كثير من الأمور العالقة التي قد تصعّب اعتماد خيار كهذا على نطاق واسع في المدى القريب، منها غياب الإنماء في الأطراف والأرياف، وعدم توافر نقل عام حديث ولائق، وارتفاع كلفة البنزين وغيرها…».