IMLebanon

عميد كلية الطب في اليسوعية: نحن أبناء الرجاء والرجاء محرك المقاومة

وسط عتمة تحيط بكل ما حولنا، يطول ويطول طابور اليائسين والمنتظرين على أبواب السفارات والمطارات. تُطرح جدليّة المرونة والصمود لدى لبنانيين كثيرين، وتخضع لتشريح سياسي واجتماعي ونفسي وتاريخي لا يصل الى نتيجة حاسمة. التفكير بهذه الجدليّة وتجدّد مقاربتها، يتماهيان بقوة في كلمة البروفسور رولان طنب، عميد كلية الطب في جامعة القديس يوسف، والتي ألقاها في حفل تخريج الطلاب، قال فيها:

“حضرة رئيس الجامعة، الزملاء والأصدقاء الأعزاء،

الطالبات والطلاب الأعزاء،

إنه يومٌ عظيم لكم، وهو أيضًا يومٌ مفعم بالمشاعر بالنسبة إلي. ففي مثل هذا اليوم، قبل عشر سنوات، عُيِّنتُ عميدًا لكلية الطب. أرغب في أن أتشارك معكم الكثير من الذكريات ومشاعر الأسى والفرح والتحدّيات والمشاريع، ولكن الوقت غير مناسب. اليوم نحن موجودون هنا من أجلكم، وأنا أرغب في أن أتكلّم عنكم، وعن مسيرتكم المهنية وطموحاتكم ومستقبلكم. سوف أكون صريحًا كما عهدتموني دائمًا، لكنني سأخاطبكم بكلامٍ يخرج عن إطار الخطاب السائد راهنًا.

الطالبات والطلاب الأعزاء، خرّيجو دورة 2021، لقد أردتم هذا الحفل وكان لكم ذلك. كنّا جميعنا نتمنّى أن يكون ذووكم موجودين هنا حضوريًا ليتشاركوا معكم فرحتكم، ولكن للأسف، لم يصبح الوباء بعد مجرد ذكرى من الماضي!

أمس، استقبلتُ العديد منكم، وقد استوقفني لقائي مع طالبَين على وجه الخصوص: الطالبة التي التقيتها عند الظهر، والطالب الذي التقيته مساءً. ففي معرض حديثهما عن لبنان، قالا باشمئزاز استعلائي “هالبلد”. وقد توجّهت إليه/ـها بالسؤال: “لو كنتَ/ـتِ تتحدث/ـين عن أهلكَ/ـكِ، هل تقول/ـين هالأهل؟” التزم كلاهما الصمت، فتابعت قائلًا: “هذا البلد هو بلدي، وبلدك. لن تقول/ـي أبدًا عن أمك هالأم، أو عن أبيك هالبيّ”. أدرك، أسوةً بجميع المواطنين، حجم الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية والصحية التي نعيشها. وقد كنّا نحن الأطباء في الصفوف الأمامية في استقبال الأشخاص الذين أصيبوا في المواجهات مع قوى الأمن خلال الثورة، والناجين من انفجار المرفأ الأبوكاليبتي، وفي العناية بالمصابين بفيروس كورونا. وأمام كل هذه الجهود التي بُذِلت وتُبذَل، نشعر أحيانًا باليأس والإحباط. يدّعي كثرٌ بيننا أنهم مسيحيون، ولكن ما قيمة أن يكون المرء مسيحيًا من دون أن يكون لديه رجاء؟ “نحن أبناء الرجاء”، هذا ما نردّده على الأقل في الليتورجيا المسيحية الجميلة. والرجاء لا يعني أن نتخذ موقفًا صاغرًا قانعًا بانتظار أن تمرّ العاصفة، الرجاء هو محرّك المقاومة، والله أعلم كم نحن بحاجة إلى المقاومة والتصدّي. قبل كل شي، مقاومة أنفسنا، ومقاومة الخنوع والاستسلام وعدوى الرحيل والهَجر.

كثرٌ منّا تعاملوا مع لبنان وكأنه كازينو، حيث يمكنهم أن يربحوا كيفما كان، وحيث يمكنهم أن يجمعوا ثروات، حتى من دون أن يلعبوا، وحتى وهم غارقون في سبات عميق. وفي نهاية المطاف، أصيب هذا الكازينو بالإفلاس والانهيار؛ فبدأ كثرٌ يبحثون عن كازينو آخر تحت سماوات أخرى.

ماذا لو نُغيّر نظرتنا إلى الأمور؟ ماذا لو ننظر إلى وطننا كما ننظر إلى فردٍ من العائلة أو قريبٍ يمرّ في محنة أو أنهكه المرض، هل نتخلّى عنه؟ هل نتخلّى بسهولة عمّن نحب وعمّا نحب؟

قال كينيدي: “لا تسأل ماذا فعل بلدك لك، بل اسأل ماذا فعلت أنت لبلدك”. ماذا فعلنا لبلدنا؟ لقد قمنا باستغلاله وكأنه كازينو. انتخبنا مافيويين فاسدين، وجدّدنا انتخابهم. تنازلنا عن سيادتنا، وعن قرارنا الوطني، وعن حس العدالة والتضامن، وانبطحنا أمام المستبدّين والطغاة الذين شوّهوا وجه بلادنا وقاموا بالسطو على أموالنا وتسببوا بالإحباط لشبابنا. وبعد كل هذه الممارسات الجبانة، ها نحن نصل إلى قمة الجُبن، ونسلك طريق الهروب. الهروب من “هالبلد” كما يقول البعض، الهروب من هذه الأوضاع ومن هؤلاء الحكّام. ولكن لبنان ليس ملكًا لحكّامه. لبنان ليس ملكًا لرئيس الجمهورية ولا لرئيس مجلس النواب ولا لرئيس مجلس الوزراء، ولا للوزراء والنواب ورؤساء الأحزاب. وهو ليس ملكًا بالتأكيد لقوى إقليمية تُصرّ على وضعنا تحت وصايتها. لبنان هو لنا، ولكم. فهل نترك لهم ما لم يتمكّنوا حتى الآن من انتزاعه منا، أي أرضنا وقرانا ومنازلنا وذكرياتنا وجامعاتنا ومستشفياتنا؟

أحيانًا نصوّر الجُبن بأنه مرونة، ولكن المرونة سيفٌ ذو حدّين: فهي تتيح لنا الاستمرار والصمود، ولكنها تدفعنا إلى تحمُّل ما يتعذّر تحمّله في بعض الأحيان. كفانا انبطاحًا. كفانا دوسًا على كرامتنا، ولنَقبض على مصيرنا بأيدينا من جديد.

الطالبات والطلاب الأعزاء، بعد بضع لحظات، سوف تصبحون زملاءنا الأعزاء. لا تدعوا الشكوك تُحبطكم وتقضي عليكم. لا تسمحوا لمروّجي اليأس والإحباط أن يلوّثوا عقولكم. إنها عبءٌ ثقيلة الوطأة أن نرمي وراءنا كل ما يصنع هويتنا وأن ننفض أيدينا ونتخلّى عن الوطن. خلال الحرب، سئل أخوت شناي إذا راودته فكرة الرحيل، فأجاب: “أكيد فكرت بس ما قدرت لأنه لبنان ما ساع بالشنطة وأكيد الشنطة ما بتساع أهلنا وأصحابنا وبيوتنا وضيعنا”.

الطالبات والطلاب الأعزاء في دورة 2021، تجتمعون هنا لتسلُّم شهاداتكم، وكي تنطلقوا، كلّ واحد منكم على طريقته، في مرحلة جديدة من حياتكم. سوف تُطلقون العنان لطاقتكم، وسوف تنمو شخصيتكم، وبعضكم سوف يلمعون في وطنهم، وفي الخارج أيضًا. أيًا تكن خياراتكم، أتمنّى لكم التوفيق، ضميرنا مرتاح لأننا بذلنا كل ما بوسعنا لنقدّم لكم أفضل تعليم ممكن.

ومعكم، نحجنا في تحقيق إنجازات كثيرة سأكتفي بتعداد بعضٍ منها. فعلى الرغم من الوباء وما أثاره من خوف مشروع، لم نعمد في أي وقتٍ من الأوقات إلى خفض المعايير التي نعتمدها. ولعلّنا الكلية الوحيدة في لبنان التي نجحت في إجراء جميع الامتحانات حضوريًا. هل تعلمون لماذا فعلنا ذلك؟ كي لا يُقال أبدًا إننا ضحّينا بمستوى الشهادة التي نمنحها للطلاب. فنحن لم نتقاعس يومًا، لا في فترة الحرب سابقًا، ولا خلال الجائحة الحالية، عن التمسّك بحرصنا الشديد على الحفاظ على المستوى التعليمي، وواظبنا دائمًا على التطلع إلى التفوّق والتميّز. مثالٌ آخر على ذلك نشاطنا البحثي الذي لم يتراجع خلال الجائحة أو بسببها. فعددُ منشوراتنا السنوية في المجلات الدولية تضاعفَ أكثر من مرتَين، ما وضع كلية الطب في المرتبة الأولى في هذا المجال بين كليات جامعة القديس يوسف، وحتى بين كليات الطب في لبنان. هذا المساء، بعد تسليم شهادات الطب إلى 90 طالبًا، سوف نسلّم شهادة الماجستير في البحوث إلى نحو ثلاثين طالبًا. حضورهم اليوم يكتسي رمزيةً كبيرة لأنه شاهدٌ على أننا كلية الطب الوحيدة في لبنان التي تُقدّم منهاجًا دراسيًا مزدوجًا يتيح الحصول على شهادة في الطب ودكتوراه في الأبحاث الطبية. وأعداد الطلاب الذين يتابعون تحصيلهم العلمي لنيل شهادة ماجستير في الأبحاث، بالتوازي مع دراسة الطب، في ازدياد مستمر من سنة إلى أخرى. هذا الشغف بالأبحاث الذي زرعناه لدى طلابنا هو بمثابة الضمانة لاستمرارية كليتنا وجامعتنا. نحن نعلم أن الجامعة هي المكان حيث تُنقَل المعرفة، ويجب أيضًا أن تكون المكان حيث تُصنَع المعرفة.

ترون ورائي ثلاثة مبانٍ جديدة. المبنى الأول هو مركز المحاكاة الذي هو بلا شك المركز الأكبر والأجمل في منطقتنا، والذي بدأ باستقبال الطلاب والأطباء. وفي الجهة المقابلة، هناك مبنيان متّصلان بواسطة جسر ومفتوحان بالكامل على الحديقة سوف يُشكلّان المقر الجديد لكلية الطب. وهذا كله كي نثبت لكم بالفعل، لا بالقول فقط، أننا لا نستسلم أبدًا. فكلية الطب، ومستشفى أوتيل ديو دو فرانس، وجامعة القديس يوسف لا تناضل فقط من أجل بقائها واستمراريتها، بل هي تتطور بصورة متواصلة خدمةً لمجتمعنا وبلادنا.

لقد استشهد الرئيس الفرنسي خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان بأغنية “بحبك يا لبنان” للسيدة فيروز. كنا نتمنى سماع هذه الكلمات على لسان حكّامنا! كم نتمنّى لو أنهم يحبّون لبنان بقدر ما نحبّه! تُعبّر هذه الأغنية عن حبٍّ غير مشروط، وهي تعود إلى عام 1976، ولكن وقعها قد يكون أقوى اليوم. لا أعرف إذا كنتم قد حفظتم جميع كلماتها. يقول مقطع الأغنية:

عندك بدي ابقى

ويغيبوا الغيّاب

اتعذب واشقى

ويامحلى العذاب

وإذا إنت بتتركني

يا أغلى الأحباب

الدنيا بترجع كذبة

وتلج الأرض تراب

كيف ما كنت بحبك

بجنونك بحبك

بفقرك بحبك

وبعزك بحبك

وبحبك يا لبنان

يا وطني

عاش خرّيجو 2021، عاشت كلية الطب، عاشت جامعة القديس يوسف وعاش لبنان!”.