IMLebanon

هل تنجح “العودة العربية” في خلق توازن مع النفوذ الإيراني؟

كتبت رلى موفق في “اللواء”: 

يأتي اعتذار الرئيس سعد الحريري عن تشكيل الحكومة تعبيراً عن دخول البلاد فصلاً جديداً من فصول المأزق السياسي. فما بعد الاعتذار لن يكون كما قبله. بقاء الحريري رئيساً مكلّفاً كان يوفّر لـ«حزب الله» تمرير الوقت الذي يحتاجه لحين تبلور الاتجاهات النهائية للمفاوضات الإيرانية – الأميركية والتي عُلّقت إلى ما بعد تسلّم الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي مقاليد الحكم في إيران منتصف آب والعودة المرتقبة إلى طاولة فيينا في أيلول المقبل.

لكن الثمن أضحى باهظاً على البلاد والعباد وعلى سيرة الرجل ومستقبله السياسي والموقع الذي تمثله الطائفة السنية في تركيبة النظام، خصوصاً بعدما أخذ الاشتباك الدائر بين الحريري وبين رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره لبوساً مارونياً – سنياً، ولم تتوقف محاولات تقويض وتهميش الرئاسة الثالثة، من خلال الالتفاف على الدستور وخلق أعراف من خارجه، تساهل الحريري نفسه حيالها يوم كان جزءاً من التسوية السياسية التي جاءت بمرشح «حزب الله» إلى سدة الرئاسة الأولى، في مغامرة سياسية دفع ثمنها من رصيده وعلاقاته العربية والدولية ولكن أيضاً دفع معه لبنان ثمناً أكبر نتيجة جنوحه عن عمقه العربي.

لم يُقدم الرئيس المكلف على خطوته من دون التشاور مع الدوائر العربية والدولية التي تولي الوضع اللبناني اهتماماً خاصاً، والتي ضاعفت من تحرّكها الدبلوماسي في الأسابيع الماضية علها تستطيع أن تُفرمل سرعة الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي ومن الارتطام الكبير. بدا واضحاً من التحرّك الفاتيكاني والاجتماع الأميركي – الفرنسي – السعودي في إيطاليا وقمة شرم الشيخ واتفاق الاتحاد الأوروبي على وضع إطار قانوني للعقوبات على مسؤولين لبنانيين، أن ثمة سعياً جدياً بعدم ترك لبنان يلاقي مصيره المحتوم. ذهب الحريري إلى القاهرة للتشاور مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قبل إعلان قراره، انطلاقاً من الموقع الذي تشكله القاهرة راهناً في التعامل مع الملف اللبناني. فمصر كانت تتابع عن كثب الوضع اللبناني منذ انفجار الرابع من آب، ومطلعة على كل تفصيل يتعلق بمساعي تأليف الحكومة، وعلى ماهية العراقيل والجهات القائمة بها والأهداف الكامنة وراءها ومحاولات تجاوز الدستور وضرب «اتفاق الطائف» وهو ما حذّر منه بوضوح وزير الخارجية سامح شكري في زيارته الأخيرة للبنان.

تقود مصر مدعومة من الرياض العودة العربية إلى المشهد اللبناني على وقع تفاهمات عربية – أوروبية لا تبدو واشنطن بعيدة عنها. هذا على الأقل هو انطباع كثير من المتابعين السياسيين. لا تتعلق العودة العربية بشق الدعم المالي – الاقتصادي، فهذا مرتبط بخارطة طريق وإصلاحات لا أمل بتحقيقها راهناً قبل وجود سلطة سياسية عازمة على البدء بهذه المهمة. الاتجاه الدولي واضح لجهة تقديم مساعدات إنسانية ودعم الجيش اللبناني غذائياً ولوجستياً ليتمكن من القيام بمهمة ضبط التفلت الأمني المتوقع حصوله نتيجة الفوضى الاجتماعية. هذا الدعم الإنساني يُفترض أن يستمر إلى موعد استحقاق الانتخابات النيابية الذي تعوّل عليه دوائر الدول المعنية بلبنان أن يُشكّل فرصة لتعديل ميزان القوى السياسي في البلاد من خلال صندوقة الاقتراع وبالطرق السلمية. ومن شأن العودة العربية من البوابة المصرية خلق نوع من التوازن في المشهد السياسي بعد الخلل الذي أحدثه النفوذ الإيراني بواسطة «حزب الله».

على أن حالاً من الترقب سوف تحكم الواقع الداخلي الهش، ذلك أنه من الصعب التكهن بحجم التداعيات التي ستلي مرحلة ما بعد اعتذار الحريري الذي اتخذ قراراً بألا يسمي بديلاً عنه في استشارت التكليف وألا يغطي تلك العملية. فمن أراد دفع الأمور إلى الهاوية عليه أن يتحمّل المسؤولية السياسية. وليس «حزب الله» بعيداً عن تلك المسؤولية، ذلك أنه في مسار المشروع الاستراتيجي الذي يتبناه لا يرى أن الوقت مؤات لتقديم التسهيلات لتشكيل حكومة، وإن سعى منظرو «الحزب» إلى الإيحاء بأنه كان يُعاني مأزق عدم القدرة على ضبط توازن الصراع بين عون والحريري، وإدارة اللعبة كما كان يفعل سابقاً.

ستدخل البلاد في منزلقات أكبر مع قرار رفع الدعم الاضطراري عن كثير من المواد الأساسية من مواد غذائية ومحروقات استنزفت الاحتياطي لوظيفة تعويم النظام السوري وجشع التجار، وحتى عن جزء كبير من الدواء حيث أظهرت أرقام مصرف لبنان المعلنة يوم الأربعاء أن فاتورة الدواء والمستلزمات الطبية للنصف الأول من السنة الحالية البالغة مليار ونصف المليار تتعدى كامل فاتورة سنة 2020 والتي وصلت الى نحو مليار ومئة وثلاثة وسبعين ألف دولار. سيفاقم انهيار سعر صرف الليرة الأوضاع خطورة، مع ذوبان القدرة الشرائية للناس، في وقت سيبرز عجز التحالف الحاكم عن إدارة المرحلة الفاصلة عن الاستحقاق الانتخابي حتى ولو جرى تفعيل حكومة تصريف الأعمال وإعادة نفخ الروح فيها. وعلى مسافة أقل من ثلاثة أسابيع، ستكون البلاد أمام يوم مصيري وحساس مع الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب، وسط ترقب صدور القرار الظني في جريمة المرفأ وما قد يحدثه من تداعيات سياسية وشعبية.

سيكون من الصعب التساؤل عمّا ينتظر لبنان من منزلقات بعد الاعتذار. فرغم كل الانهيار الذي كان يكتنف مرحلة التشكيل، فإن تكليف الحريري كان يشكل نوعاً من ربط نزاع سياسي. أغلب الظن أن لبنان سيتحول الى صندوق بريد بعدما بدأت معالم المواجهة تظهر بين نفوذ عربي يحاول استعادة دوره ونفوذ إيراني أمعن في غرز مخالبه في مناطق سيطرة أذرعه من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان.