IMLebanon

لماذا ينجح ميقاتي حيث أخفق الحريري؟!

الانطباع الذي تولد وترسخ خلال الأشهر الـ 9 التي أمضاها الرئيس سعد الحريري في مهمة تشكيل الحكومة هو أن الحكومة لن تتشكل والحريري سيصل إلى الاعتذار عاجلا أم آجلا، ولن يكون رئيسا للحكومة فيما تبقى من عهد الرئيس ميشال عون.. ولا مجال هنا للخوض أو التذكير بالأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة وتوزعت بين ظروف وعوامل غير مساعدة داخليا وخارجيا وأخطاء في التقدير ارتكبها الحريري.

الانطباع الذي تولد منذ اللحظة الأولى لتكليف الرئيس نجيب ميقاتي أن الحكومة ستولد عاجلا لا آجلا، وأن ميقاتي سيكون رئيس آخر حكومات العهد وسينجح في مهمة التشكيل حيث أخفق الحريري، ويبقى أن نجاحه في «مهمة الإنقاذ» ليس مضمونا ولا يتوقف عليه وحده.. وإذا كان السؤال الذي يطرح بقوة مع فتح صفحة التأليف هو: هل يعطي عون لـ «ميقاتي» ما لم يعطه لـ «الحريري؟ فإن السؤال الآخر الذي ينافسه بقوة هو: لماذا ينجح ميقاتي حيث أخفق الحريري؟ ماذا تغير في الوضع والمعطيات؟ وما «عناصر النجاح» التي يرتكز إليها ويستقوي بها؟

في أول خروج له من قصر بعبدا بعد تكليفه، وأول مخاطبة للشعب اللبناني، حرص على أن يكون واقعيا، فلا إغداق للوعود ولا إفراط في التوقعات. وحرص أيضا على إضفاء مسحة من التفاؤل المستند الى معطيات وضمانات مسبقة، قائلا: «أعلم أن الخطوة صعبة لكنني مطمئن، ومنذ فترة وأنا أدرس الموضوع ولو لم تكن لدي الضمانات الخارجية المطلوبة وقناعة بأنه حان الوقت لما كنت أقدمت على ذلك». هذا الكلام يعني أن ميقاتي يعرف ماذا يريد وخطط كيف يصل وفي أي توقيت، ويعني أيضا أنه يستند بالدرجة الأولى الى دعم وتشجيع المجتمع الدولي، الذي من دونه لا إمكانية لنجاح أي حكومة وللخروج من نفق الانهيار.

إذن العنصر الأول في العناصر المكونة لنجاح ميقاتي يكمن في موقف المجتمع الدولي الذي صارت الأولوية لديه في لبنان هو «وجود حكومة» لاحتواء الأزمة ووقف الانهيار المتسارع في ظل حكومة تصريف الأعمال المتقاعسة. ولم يعد المجتمع الدولي، الذي تعبر باريس عن توجهاته بخصوص لبنان، مهتما منذ فترة بمسألة رئاسة الحريري للحكومة، خصوصا بعدما تأكد أن الحريري ليس قادرا على تشكيل الحكومة نتيجة الخلاف المستحكم بينه وبين عون وإحجام حزب الله عن فعل شيء للدفع في اتجاه التشكيل. ولكن يبقى أن الدعم الدولي ليس «شيكا على بياض»، وإنما مشروط بحكومة تلتزم الإصلاحات وقادرة على اتخاذ قرارات صعبة.

بات واضحا أن ميقاتي هو مرشح الفرنسيين بالدرجة الأولى، وأنه ملتزم روحية المبادرة الفرنسية التي يزاوجها مع مبادرة بري، وأنه آت ليس فقط كي ينجح في تشكيل الحكومة من حيث انتهى الحريري، وإنما أيضا كي ينجح في تسويق المبادرة الفرنسية ومن حيث لم يبدأ مصطفى أديب. وبات واضحا أن الفرنسيين هم الذين سوقوا لترشيح ميقاتي لدى الأميركيين ولضرورة قيام حكومة توقف الانهيار الاقتصادي وتمنع الانفجار الأمني. هذا الغطاء الغربي يكمله غطاء عربي كان واضحا من جهة مصر التي دعمت بقوة سعد الحريري لرئاسة الحكومة ولكنها عادت و«دعمت» أو تفهمت «اعتذاره» عندما صار تحييد الحريري في هذه المرحلة وإخراجه من «محرقة» الحكومة سبيلا لبقائه وحفظ زعامته وعودته أقوى من باب الانتخابات. أما من جهة السعودية، فلم يكن ثمة من غطاء ودعم مسبق، وإنما كان هناك تقبل وتفهم وعدم ممانعة لرئاسة ميقاتي. أما الدعم فيظل مشروطا بنوعية الحكومة الجديدة وسياستها الإقليمية.

إذا كان العامل الخارجي مساعدا للرئيس المكلف الجديد الذي جاء في «توقيت ملائم»، فإن العوامل الداخلية المساعدة تبقى هي الأهم. وإذا وضعنا جانبا التغطية «السنية» الكثيفة التي حاز عليها ميقاتي وكان الحريري في أساسها، والحماية السياسية التي يؤمنها الرئيس نبيه بري مهندس الخطة الحكومية من ألف التكليف الى ياء الاعتذار والبديل، فإننا نتحدث عن عاملين أساسيين وتغييرين يدفعان إلى إنجاح مهمة ميقاتي والتعجيل بولادة الحكومة هما:

* العامل الأول: يتعلق بموقف الرئيس ميشال عون الذي كان متشددا وسلبيا مع الحريري وأصبح متساهلا وإيجابيا مع ميقاتي، وهذا التحول في الموقف وطريقة التعاطي مع الرئيس المكلف حدث لعدة أسباب أبرزها:

– الجانب «الشخصي» الانتقامي الذي حكم معركة التأليف مع الحريري الذي كان حليفا وصار خصما، ليس موجودا مع ميقاتي الذي هو خصم منذ البداية ولم يشارك في انتخاب عون وقرر الآن أن يكون شريكا له في الحكم، وأنه قادر على ذلك. بالمقابل، يرى عون أن التعاطي أسهل وأجدى مع ميقاتي «الذي يجيد تدوير الزوايا ويعرف كيف يأخذ ويعطي».

– الأزمة المتدحرجة التي تجاوزت الخط الأحمر وخرجت عن سيطرة حكومة تصريف الأعمال التي يشكو عون من تقاعسها، والتي صارت في حاجة ماسة إلى حكومة جديدة أيا كان رئيسها، خصوصا ان ضغوط الأزمة في الداخل تتلازم مع ضغط دولي مكثف ضاغط في اتجاه حكومة جديدة، ومرفق بتهديد اللجوء إلى عقوبات. وإزاء كل هذا الوضع، صار تركيز رئيس الجمهورية منصبا على إنقاذ عهده والوصول إلى نهايته بقدر ما يتوخى إنقاذ الوضع والبلد، وهو يعلم أن حكومة دياب باتت عبئا، وأن حكومة ميقاتي هي الفرصة الأخيرة، وأن كل الضغوط في حال سقوط هذه الفرصة ستكون وجهتها قصر بعبدا، وبهدف تقصير الولاية وإجبار الرئيس على التنحي، في ظل وضع لا يطاق ولا يحتمل.

– السبب الثالث للتبدل الحاصل عند عون يرتبط بالتغيير الملموس في موقف حزب الله الذي كان اختلف مع رئيس الجمهورية في تكليف الحريري لكنه راعاه وامتنع عن التسمية ثم دعمه في معركة التأليف ووفر له هامش مناورة واسعا. ومع ميقاتي تباينت وجهات النظر بين الحزب والرئيس أيضا، لكن عون كان أكثر مرونة في موقفه، والحزب كان أكثر وضوحا، حتى انه تقصد تسمية ميقاتي في التكليف ولم يأخذ بتحفظات باسيل ولم يترك له هامش مناورة. وبالتالي يصبح السؤال عن الأسباب التي دفعت بالحزب الى التزام هذا الموقف المؤيد لتكليف ميقاتي والدافع إلى تشكيل الحكومة في أسرع وقت.

٭ العامل الثاني: التبدل الحاصل في موقف حزب الله، والذي يعزى إلى 3 أسباب وعوامل دافعة هي:

– الموقف من «شخص ميقاتي» استنادا إلى تجربتين ناجحتين معه جاءتا في أدق المراحل الانتقالية وأصعبها:

الأولى عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والخروج السوري من لبنان.. والثانية نهاية العام 2010 بعد أحداث 7 مايو واتفاق الدوحة وعشية دخول سورية إلى الأزمة والحرب. وقد نجح ميقاتي في تقطيع هاتين المرحلتين، رغم ما اعترى التجربة الثانية له في الحكم من مشادات وتجاذبات مع حزب الله عكرت صفو العلاقة بينهما من دون أن تنسفها. يضاف إلى ذلك أن ميقاتي هو المرشح الأنسب وربما الأوحد بعد الحريري، والحزب متفق مع الرئيس نبيه بري على السير بمن يسميه الحريري وتتأمن له التغطية السنية، وعلى تفادي أن تكون الحكومة أو رئاستها سببا لمشكلة وتوترات بين الشيعة والسنة.

– وصول حزب الله بعد دراسة معمقة للأزمة وتداعياتها ولنتائجها أن الوضع لم يعد يحتمل فراغا حكوميا، ولم تعد حكومة دياب صالحة للاستخدام، ولم يعد ممكنا اللجوء مرة أخرى إلى حكومة اللون الواحد والفاقع، وأن لبنان يسلك طريق الانهيار السريع مثل حافلة من دون كوابح ومن دون سائق سقطت في المنحدر بانتظار أن تبلغ القعر وما يسمى نقطة الارتطام الكبير. لا بل وصل الحزب إلى قناعة بأن الوضع بات يتطلب مقاربة مختلفة للملفات وطريقة في التعاطي أكثر حزما وجدية مع الخصوم والحلفاء على حد سواء، لأن ما هو حاصل يأكل من رصيد حزب الله ومن شعبيته داخل بيئته ومجتمعه الذي برهنت الأزمة أنه لا يتمتع بمقومات ومزايا صمود أكثر مما لدى المجتمعات والطوائف الأخرى. وبالتالي، فإن الأزمة الداخلية صارت تلحق ضررا مباشرا على حزب الله ومشروعه ودوره الإقليمي في إطار المشروع الإيراني وكـ «مقاومة».

الخلاصة أن حزب الله توصل إلى أنه لم يعد بالإمكان الاستمرار على هذا النحو، والمحافظة على «إنجازات ومكتسبات» صارت في دائرة الخطر، وإلى أن الدفاع عن «العهد» صار مكلفا، وأن «الحليف المسيحي» لم يعد كافيا وصار لزاما الالتفات أكثر إلى «الشريك السني» والتفاهم معه. وهكذا، فإن تكليف ميقاتي جاء في الواقع حصيلة تفاهم سني – شيعي من خارج الكتل المسيحية «القوية» وبمعزل عنها. وهذا نموذج يمكن أن يتكرر في الانتخابات الرئاسية، وربما هنا مبعث القلق الأساسي عند عون وباسيل من أن تكون حكومة ميقاتي من مقدمات صفقة رئاسية وتندرج في إطار تهيئة المسرح الرئاسي لـ «سليمان فرنجية» أو من يشبهه.

– التوقيت الإقليمي الذي صار ملائما لإطلاق حكومة جديدة في لبنان تتناسب مع التطورات والمتغيرات الخارجية وتعد من إفرازاتها ونتائجها، بدءا من مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي بين أميركا وإيران، مرورا بالحوار السعودي – الإيراني المتأرجح والمتنقل بين بغداد ومسقط، وصولا الى خلط الأوراق الأميركية في العراق. وليس مصادفة أن يحصل «الإفراج» عن حكومة لبنان بالتزامن مع اقتراب الإعلان عن الاتفاق الأميركي – الإيراني في فيينا بعد 4 أغسطس موعد تسلم الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي مهامه رسميا، وبعد أيام من الإعلان من واشنطن، وخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الاستثنائية الى البيت الأبيض، عن اتفاق الانسحاب الأميركي العسكري من العراق وإنهاء «الوجود المقاتل» والإبقاء على الوجود الاستشاري.