IMLebanon

الذكرى الأولى لانفجار المرفأ… قداس وغضب ومواجهات

كتب أيمن شروف في “الحرة”: 

نزل اللبنانيون في الذكرى الأولى على انفجار المرفأ إلى محيط موقع الجريمة وداخلها. بعضهم كان هادئاً، وبعضهم الآخر تملكه الغضب. يُجمعون على أن مرور عام على “الجريمة” لن يمرّ هكذا، لكنه في المحصلة انتهى بالرغم من كل المواجهات ومحاولات اقتحام مقار يعتبرها المحتجون “وكر الفساد” لا سيما مجلس النواب الذي يرفض أعضاؤه إلى الآن رفع الحصانات عن الأمنيين والسياسيين المتورطين بشكل وبآخر بالتسبب بحصول الانفجار.

مرّ عام على الجريمة ولا شيء تغيّر، الحقيقة لا تزال غائبة والناس لا تزال غاضبة، والسلطة باقية على حالها. اليوم كان موعد كثيرين مع التعبير عن الأسى والألم الذي تملكهم. اللافت فيه أن مطالب التغيير اختفت أو خفتت عمّا كانت عليه قبل عامين إبان الاحتجاجات ويعود سبب ذلك إلى قناعة لدى اللبنانيين أن أي تغيير لن يحصل طالما السلطة ومن هم في السلطة لم يتغيروا. حتى مطالب الانتخابات النيابية المبكرة تراجعت على ما ظهر من الشعارات التي رُفعت اليوم.

منذ ساعات الظهر بدأت المسيرات من أكثر من منطقة من بيروت بالانطلاق باتجاه المرفأ ومحيطه. على الطرقات، انتشرت عناصر قوى الأمن المتنوعة، من داخلي إلى عام إلى خاص. والجيش أيضاً حضر. قطعوا بعض الطرقات أمام المحتجين خاصة تلك المحاذية لمبان ومراكز أمنية. على المتحف استنفر عناصر الأمن العام لأن مجموعة من الشباب كتبوا على جدران مبنى المديرية “فلتسقط الحصانات” وألصقوا صور لعباس إبراهيم، المدير المطلوب للتحقيق والرافض الحضور، مثله مثل كل المحصنين أمام الحقيقة.

تظاهرة أخرى انطلقت من أمام قصر العدل بعد أن وقف المحتجون مع بعض أهالي ضحايا 4 أغسطس مطالبين بالعدالة. كان هناك من حاول أن يمنعهم من عبر الطريق باتجاه وسط بيروت ليشاركوا بالمظاهرة أو الوقفة. من الفوروم أيضاً مسيرة أخرى تتقد إلى المرفأ. كُثر أتوا مباشرة إلى ساحة الشهداء. يقول محمود الآتي من الجنوب: “لماذا تضييع الوقت في احتفاليات لا تُقدم ولا تؤخر. نريد الثأر منهم ولا شيء يرد لنا حقنا سوى الثأر. لهذا لن أشارك في ما يحصل في المرفأ، بل أبدي اعتراضي وغضبي في مكان آخر. أمام معقل الفاسدين والمجرمين، أي مجلس النواب”.

أمام تمثال المغترب المواجه لمسرح الجريمة كان التجمع. الناس تتوافد مع أعلامها. شابان على الطرق من كهرباء لبنان باتجاه المرفأ رفعوا يافطة كتبوا عليها “حصاناتكم” وعلقوا فيها حذاء. امرأة تقف إلى جانب الطريق وهي تتحدث مع نفسها وتقول: “قتلونا ولا زالوا مستمرين”، تبدو كأنها تُخبر من حولها بما تشعر به ولكن في الحقيقة لا أحد كان قريباً ليسمع. كانت تقول ما تُفكر به كحال كُثر على الطريق. يتحدثون بصوت عالٍ مع أنفسهم. يقولون عبارات حول الانتقام والغضب والكراهية، وهم يمشون باتجاهات مختلفة.

فجأة وسط جموع المحتجين، يطل موكب فوج إطفاء بيروت الذي انطلق من الثكنة في الكرنتينا. آلية زينها زملاء ضحايا الفوج بصور من مات وهو يُحاول أن يُطفئ حريق العنبر رقم 12 قبل أن ينفجر. دموع وألم، لا شيء أكثر من ذلك. شقيق “الشهيد”، جو نون، يمسك بيد شقيقته ووالدته ويمشي أمام الآلية مردداً: “فاسدون ومجرمون. ستسقطون وسننتقم” يلتفت إلى أعلى الجسر، يرفع يديه ويبدأ بالتصفيق. مئات من الذين احتشدوا فوق الجسر وهم يراقبون الناس العابرة إلى الذكرى الأليمة، يُصفقون تكريماً “للشهداء ولأهالي الضحايا”.

يعبر الموكب إلى مدخل المرفأ. هناك انفضت الناس. أعداد كبيرة من عناصر الجيش تُقفل المدخل. يسمحون فقط لأهالي الضحايا بالدخول للمشاركة بالقداس الرمزي. من لم يدخل، توجه مباشرة إلى ساحة الشهداء، ومن ثم إلى محيط مجلس النواب، وبدأ التعبير عن غضبه. في تلك الأثناء، قلّة اهتموا بمتابعة ما يحدث داخل المرفأ وما يتردد من كلمات. أبرز ما حصل كان ترداد أسماء ضحايا الانفجار. وإلى الآن لا إحصاء رسمياً حول عدد الضحايا النهائي.

ومن المرفأ قال البطريرك بشارة الراعي بعد أن وقف المشاركون دقيقة صمت: “البعض أراد ليوم الرابع من آب (أغسطس) يوم غضب وتظاهرات لكن الكلام الإلهي الذي سمعناه هو الأفعل والأضمن والمعزّي للقلوب الجريحة”، مؤكداً أن “كل الحصانات تسقط أمام دماء الضحايا والشهداء ومن يخاف العدالة يدين نفسه بنفسه ونحن هنا لنعلن الوفاء لبيروت”.

وأضاف: “مطلبنا الحقيقة والعدالة وستبقى الأرض تضطرب في هذه البقعة إلى أن نعرف حقيقة ما جرى في مرفأ بيروت. جئنا نصلّي لبيروت عروس المتوسط ومدينة تلاقي الأديان خاشعين بين الدمار والأطلال نضيء شعلة الرجاء والمستقبل، متوجهاً إلى المسؤولين بالقول: “هبوا فوراً وألفوا حكومة ولكن للأسف لا حياة لمن تنادي ولا كأنّ الشعب يجوع ولا مرفأ انفجر ولا بلد ينهار”.

في الطريق باتجاه القداس، كانت عائلة أيمن نور الدين، النقيب في الجيش اللبناني الذي أيضاً ذهب ضحية الانفجار، تتقدم ببطء، بثقل الألم المتراكم منذ أن فقدوا أيمن. أمّه تبكي وتدعو الله للانتقام “من الذي كان السبب بخسارة ابنها”. شقيقته، طوت بدلته العسكرية ووضعتها في علبة مع صورته وحملتها إلى المرفأ. مُتعبة من كُل ما عانته في سنة مرّت على فقدانها شقيقها. تقول: “منذ سنة والوجع لا يزال هو هو، بل يزيد. ولن نرتاح قبل أن نعرف الحقيقة. هو يحب الحياة لماذا سيذهب هكذا بسبب فسادهم”.

وبين هذا وذاك، وقع اشتباك عنيف بين مجموعة تابعة للحزب الشيوعي ومجموعة لحزب القوات اللبناني أمام مقر الأخير في الجميزة. هرج مرج بسبب شعار ردده شاب من الشيوعي استهدف فيه جعجع، فكان الرد من القواتيين. معارك استُخدمت فيها “المولوتوف” وانتهت بإصابة ما لا يقل عن 15 شخصاً من الطرفين من بينهم شاب حالته حرجة يُدعى مازن أبو زيد. على الطريق باتجاه مركز القوات يمر شُبان مسرعين. يقولون إنهم “ذاهبون إلى المركز لأن الشيوعيين اقتحموه”. لاحقاً في ساعات الليل الأولى، الجيش كان على مدخل المركز، وإلى جانبه شُبان يلبسون الأسود ويحملون العصي في يدهم. يحرسون!

شعارات كثيرة رفعها المتظاهرون. “فسادكم لن يمرّ”، “ولدي خط أحمر، حصاناتكم لا”. امرأة تلبس الأسود وتمشي مع مجموعة صغيرة رفعت يافطة كتبت عليها بخط اليد “فخامتكم، معاليكم، سعادتكم، سيادتكم، المشنقة نهايتكم”، وبالحديث عن المشانق، رفع بعض الشبان مجسم لمشنقة في جانب من زوايا ساحة الشهداء، ووقفوا أمامها وهم يرددون شعارات منددة بالقادة السياسيين، مركزين على الصف الأول من قيادة حزب الله وأمينه العام حسن نصرالله مروراً برئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري، والحصة الأبرز كانت لرئيس الجمهورية ميشال عون وصهره الوزير السابق جبران باسيل.

وفي الوقت الذي كان فيه الراعي يقول كلمته، وصلت أصداؤها إلى ساحة الشهداء خاصة الجزء الذي انتقد فيه الغضب. الرد أتى بأشكال عدة. تقول رنا الآتية من البقاع: “فليصلي هو لراحة نفس الشهداء ويتركنا نحن نُعبر عن غضبنا. نحن لسنا ضد الصلاة وإن كنا لا نعتبر أنها تؤدي إلى نتيجة ولكن فليبق هو وغيره بعيدين عما نريده نحن. هم أصلاً لا يشعرون بما نعانيه. فليصلوا ويتركونا نصلّي على طريقتنا، وتُشير بيدها إلى الحجارة التي كان ينقلها رفاقها إلى محيط المجلس لرشق الأمن بها في محاولة لاقتحام الساحة”.

أمام المدخل الجنوبي لمجلس النواب، بدأت المعارك مُبكراً. مجموعات بأكملها وصلت مباشرة إلى هناك وبدأت مواجهتها مع الأمن. يقولون إن “هؤلاء يحمون الفاسدين وهم أساساً رواتبهم لا تكفيهم 5 أيام”. يصرخون على بعضهم البعض من أجل أن يتجمعوا بعد رميهم بالقنابل المسيلة للدموع من قبل مكافحة الشغب. ينبري أحدهم ليبدأ الهتاف “ثورة، ثورة” فيحتشد حوله العشرات ويعودون للهجوم مجدداً وتلقي الغاز مرة بعد مرة، ومع تقدم المواجهات، يستشرس الأمن في الدفاع عن المدخل البعيد عن مبنى المجلس. يستقدم الجيش حملة البواريد التي يطلقونا من خلالها الرصاص المطاطي.

استمر الوضع على هذا الحال أكثر من 4 ساعات متواصلة، إلى أن قرر الأمن أن يحوّل محيط مبنى جريدة النهار، أي جنوب ساحة الشهداء، إلى ساحة معركة حقيقية. عشرات القنابل أطلقت دفعة واحدة، تلاها عشرات أخرى، مع تقدم وحدات مكافحة الشغب والجيش باتجاه الساحة والمحتجين ومراقبة حثيثة من حرس المجلس الذين كانوا يزودون الأمن بأماكن تواجد المحتجين، من خلال رجال المخابرات التابعين لهم والمنتشرين في الساحة.

رجُل مُسن يقف وسط الساحة. يقول: “لماذا يقف الآخرون هنا؟ يجب أن يأتوا معنا لمواجهة عناصر الأمن. تعبنا”. مُنهك من الغاز الذي تنشقه ولكنه يأبى أن يذهب، خسر كُل شيء وهو في سن يُقارب السبعين عاماً. لا يقوى إلا على الصراخ: “ارحلوا، لا نريدكم”. مثلُه كُثر.

إلى جانب النهار، تقف ميساء، التي كانت تهرب من الغاز المسيل للدموع. هي تؤمن بأن “لا شيء سيتغير” ولكن على الرغم من ذلك شاركت في هذا النهار. تقول: “أشارك اليوم من أجل الضحايا. من أجل أهلهم الذين عانوا الأمرين ومن أجل العدالة. أما التغيير فهو شيء مُستحيل لا أنتظره، وأدرك تماماً أنه لن يحصل. هذا البلد بتركيبته الطائفية وبنظامه الزبائني لا شيء سيُغيره. المهم أنني اليوم أقف مع ضميري. لا أكثر”.

مئات القنابل أطلقت. المحتجون وهم يحاولون الهرب منها صرخ أحدهم بطريقة فيها الكثير من الغضب: “لديهم المال ليطلقوا علينا الغاز المسيل ولكن ليس لديهم المال لتأمين الحد الأدنى من متطلبات حياتنا”. السؤال نفسه وجهه عيد، وهو صاحب مقهى في الجميزة، خرج منه مع مجموعة من أصدقائه حين رأوا قوات مكافحة الشغب وهي عائدة “من معاركها مع المتظاهرين”. خرجوا وهم يصفقون لهم من قبيل السخرية. يقول عيد بصوت جهوري متهكم: “برافو، قمتم بواجبكم على أكمل وجه. أبطال أنتم”!

انتهى اليوم الطويل بإصابات تجاوزت الخمسين. طوي يوم الذكرى وغداً يوم آخر لأهالي الضحايا في معركتهم لتحقيق العدالة، لكن السؤال: هل سيبقى المحتجون معهم أم انتهى اليوم ومعه انتهت المهمة؟