IMLebanon

مشهدان مختلفان و”الطابور الخامس” دخل على الخط

كتبت نوال نصر في نداء الوطن:

وجع. دموع لم تنشف. مدينة ثكلى نُحرت من “بيت أبيها”. وأكفّ تُمسك أكفاً وأمٌّ منهارة على “خسارة الروح” تتكئ على أمٍّ أخرى منهارة. أخوة، أخوات، آباء، زوجات، أزواج، أولاد وشعب كامل ومدينة لا تزال بعد 365 يوماً على غروب يوم “اغتيال العاصمة” تتشح بسوادٍ هائل. ووراء كل هذا المشهد مذنبون، قتلى، ومتخاذلون “يتفرجون”، محصنين في بيوتٍ بلا حياة!

وحدها العصافير، التي تحوم حول الإهراءات، بدّت حرّة من كل المشاعر. هو صباحٌ بلا حياة. بيروت لاقت الفجر شبه فارغة. البيارتة ما زالوا بعد عام على التفجير خارج بيروت. وأحد “العونيين” مرّ ليلاً و”خرطش” على الجدران: “التدقيق الجنائي راجع” وغادر. فما عدا ذلك لا يهم، ليس أولوية، إنما ثانوي. نركن السيارة على الأوتوستراد المطل على الإهراءات. ننظر الى البحر. ننظر نحو السماء. ننظر الى تمثال المغتربين والى مجسمات كثيرة زُرعت في التفاصيل. ثمة أعلام لبنانية غُرست للتوّ. والبحر بدا ساكناً جداً. عناصر من الشرطة العسكرية تأمرنا بالإخلاء. دراج يطلب منا أيضاً الإبتعاد. الأمن مستتب؟ ما نفع كل الأمن حين يكون القتل مباحاً.

تتقدم الساعة فتزداد الكثافة. تشتدّ شمس آب ومعها يعوم الغضب الكبير. العيون تحكي أكثر من الشفاه. والجباه التي تتصبب عرقاً عالية. سنة مرّت، كأنها البارحة، كأنها اليوم. كأن الناس، كل الناس، في انتظار “تفجير” ما آخر. الساعة تدنو من غروب الرابع من آب. اللبنانيون يتقاطرون على الرغم من كل العراقيل التي تعيق، عن قصد، مسارهم. هناك من لا يزال يراهن على إستسلام هؤلاء. هي مرة جديدة تسيء فيها “السلطة” الى أصحاب الحق. يا ويلها منهم.

أهالي الشهداء يتقاطرون نحو المرفأ. حواجز أمنية في المرصاد. إنها أوامر عليا. “يا عيب الشوم”. نبكي على الضحايا أم على أهلهم أم على حالنا؟ جروح لا تندمل وهناك من يصرّ، حتى اللحظة، على رمي الملح عليها. يافطات حمراء عُلقت على المباني المحيطة باللغات الثلاث: العربية والفرنسية والإنكليزية ليفهم كل العالم ما عاشه ويعيشه لبنان واللبنانيون. هناك منزل علّق: 3peoples died here. وجوه جو ونجيب وسحر وألكسندرا والياس وإسحق وشربل ورالف ومحمود ورامي وإيلي ومحمد ومثال وماري وعماد… وكل كل الشهداء تبدو مبتسمة… هؤلاء يبتسمون حيث أصبحوا. في جنات الخلود. ماذا عنكم أنتم أيهـــا القابعون “المحصنون” في البيوت الفخمة والقصور؟

نشدّ على عيوننا مرات كمن يحاول أن يحبس الدموع. ننظر في عيون الأهالي ونعود ونشدّ جفوننا. نفشل. فتنهدات هؤلاء تجعل حتى الأصم يسمع والأعمى يرى. فمن أي طينة هم من ظنوا أنهم سيمسكون برقابنا طوال العمر ويوصدون آذانهم عن كل هذا الوجع؟ أي طينة هم من يقتلون بأيادٍ باردة ولا يبالون بدموع أمهات وآباء لا تنضب؟

ورود بيضاء وحمراء وزعت طوال النهار على ضرائح رمزية لضحايا “راحوا شقفاً”.

إنها الرابعة والثلث. عدد المشاركين زاد كثيراً وعدد من يريدون المشاركة بعد، وينتظرون على قارعة الطرق، أكثر. لبنانيون وصلوا على “حمير” عملاً بنصيحة وزير الطاقة. لبنانيون يعيشون من قلة الموت ما عاد لديهم ما يخسرونه سوى ثالوث الكرامة والحرية ومطلب العدالة. ولن يفرطوا بثلاثتِها إلا “على دمهم”. اللفلفة باتت صعبة جداً على من اعتاد على القتل، أو تسهيل القتل، أو غض النظر عن قاتل. و”المحصنون” أكثر من باتوا يعرفون ذلك.

لبنانيون من كل الطوائف وصلوا. الضحايا من كل لبنان. و”السلطة” في كلِ مرة تجتمع فيها الطوائف تخاف. كهنة وشيوخ جنباً الى جنب. وعيونٌ تائهة كثيرة تنظر في كل الإتجاهات. والدة ملتاعة تكاد تسقط أرضاً فيُمسك بها شاب. تنظر في عينيه وتقول له: “شكرا يا ابني”. والدٌ يعصر صورة ولده ويشد وهو يذرف الدمع الغزير، يتعثر، يكاد يقع، فلا يبالي إلا بصورة ولده، ويطالب من هبّ لمساعدته: “انتبهوا للصورة… انتبهوا لابني… أوعا الغالي”. والدة الضحية أحمد قعدان صرخت كثيراً: “صرماية أحمد بتسويكم كلكم. هيدا وحيدي. هيدا وحيد إمو. هيدا نفسي. ربيتو بدموع عيوني يا ولاد الحرام”.

الساعة تقترب من السادسة. تحليق قوي للطوافات. هل هو حريق؟ هل تنقل الطوافات البطريرك بشارة الراعي الى المرفأ؟ أسئلة تناقلها المشاركون قبل أن يعرفوا أن الجيش اللبناني يوجه تحيّة من “طوافاته”. أصوات صفارات الإنذار تلعلع أيضاً قوية. عناصر فوج الإطفاء يوجهون بدورهم تحية.

هي الساعة السادسة وسبع دقائق من الرابع من آب عام 2021. عامٌ مضى. صمتٌ مطبق في مكان إقامة الصلوات والقداس. وهديرٌ شديد في محيط مجلس النواب. مشهدان مختلفان تماماً. مشهدٌ فيه غضب شديد لكن مع صلوات كثيرة. ومشهدٌ فيه أيضاً غضب كثير لكنه متوج بفوضى عارمة. مشهدٌ يجمع أهالي الضحايا وسلاحه “الأبانا والسلام” وشهادة “لا إله إلا الله”، ومشهد يجمع “شباباً” أدواتهم من مقص حديد وأحجار و”نقيفة”. هناك من سأل، لماذا لم يحترم هؤلاء الشباب لحظة الحزن والصلاة وأجلوا غضبهم، “المؤجل” منذ أشهر كثيرة، ساعة بعد؟ وهناك من سأل: من هم وراء إشكال آخر حصل قبل أقل من نصف ساعة من “ساعة الموت والصلاة” بين عناصر قيل أنها تنتمي الى “القوات اللبنانية” وعناصر قيل أنها تنتمي الى “الحزب الشيوعي”؟ من ارسل من يهتف في الأشرفية، عرين القوات: “… إمك يا جعجع”، كان يعلم أن “القواتيين” لن يسكتوا ففعل. هل هو الطابور الخامس لا يزال يعبث ويُحرك ويُدير ويُثير الفتن؟ هل أراد “المصطادون في المياه العكرة” قلب المشهد الجامع المطالب بالعدالة وهم من أكثر العارفين أن العــدالة هــي الوسيلــة الأبــرز التي يُقطع بها الظلم “ورأس الظالم” من الجذور؟

لا تحزنوا. إقتلاع “الفساد” ليس سهلاً أبداً. والعدالة لا تتحقق إلا في دولة. ألا يقال: أعطني قضاء أعطيك دولة؟

أراد أهالي ضحايا، 4 آب، يوم صلاة. وبعد الصلاة لكل حادث حديث. المشاركون الذين انتشروا في المحيط صلوا هم أيضاً كثيراً، وبخشوع، ليس لضحايا ومنكوبين وجرحى فقط بل لأنفسِهم أيضاً. سنابل القمح قُدمت، في المراسم الدينية، جنب إهراءات القمح المشلعة، دلالة الى الخبز الذي يهبه الله للإنسان مصدر قوّة له.

“للمسيح يسوع التسبيح والبركات”. رتّل الجميع. في نفس الوقت الذي كانت فيه الدماء قبل عام كامل، بالتمام والكمال، شلالاً. هنا صلوات وخشوع. وهناك، في محيط المجلس النيابي، قنابل دخانية. هنا رجاء من جوارح الصلوات. وهناك رجاء باقتحام البرلمان. هواءٌ بدأ يتسرب ومع لفحاته رائحة دم لا تزال تُخيّم.

يا ويلُ المجرمين من «غضب الأمهات» ومن «غضب مَن ليس لديهم ما يخسرونه». فعلام يراهنون بعد؟ صوت البطريرك الراعي يعلو: «نريد ان نعرف من أتى بالنيترات؟ من قام بإنزالها؟ من عمل على تخزينها؟ من سحب منها كميات؟ الى أين أرسلها؟ من عرف بها وتغاضى؟ من فجرها؟ الشعب لا يريد عرائض، يريد قضاء يرفع رأسه أمام الضحايا والشهداء، فليمثل كل من يُستدعى بلا حجج. كل الحصانات تسقط أمام دماء الضحايا. لا حصانة ضدّ العدالة. تلطوا وراء الحصانة في حين نخاف العدالة». صفق الأهالي كثيراً. وأخت الشاب «الحلو»، الذي راح ضحية، بكت بقلبٍ مكسور. ووالدة الضحية، «يلي عيونو خضر»، نظرت الى السماء. وأبواب السماء في هكذا اوقات تكون مفتوحة.

«أبانا الذي في السماوات ليتقدس إسمك لتكن مشيئتك»… أداها المشاركون بخشوع. تناولوا جسد الربّ. والليل بدأ يتسلل. ساعات قليلة وتنطلق سنة ثانية من المطالبة الملحة بالعدالة. وها نحن قد أصبحنا في اليوم الأول من السنة الثانية على تفجير مرفأ بيروت. تُرى كم سينتظر هؤلاء (ونحن) بعد؟

هو صباح جديد. الغضب كبير هائل. فكيف سيُترجم ويتطور؟ يُقال أننا دخلنا في الفترة الحاسمة بعدما ما عادت الناس قادرة حتى على الصراخ: آخ! والغد لناظرِهِ قريب.