IMLebanon

ماذا عن تورّط الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية؟

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

بروليتاريا وأوليغارشية وإيديولوجيا وإمبريالية ورأسمالية وبورجوازية وإشتراكية ومطرقة ومنجل وجيش أحمر وماركس وإنغلز ولينين وستالين وتروتسكي وتشي غيفارا… ونظريات نظريات… وكثير من الفذلكات والإستعارات ليقول من يرددها كما الببغاء: إنه “شيوعي مثقف”! لكن، هل كل شيوعي مثقف؟ وهل الشيوعية في لبنان تتناغم مع ما يُسمى الفكر الشيوعي أم أنها تعيش في زواريب وأزقة الصراع اللبناني فتنتشي في أفعالٍ ليست في قاموس كارل ماركس؟

خالد حداده (الأمين العام السابق للحزب الشيوعي) مشغول هذه الأيام، ايام البؤس والعوز والقلق والذلّ، بنعوتٍ يغدقها على رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع قائلا من جملة ما قاله: “اعتقلوه”… وخلفه الأمين العام الحالي للحزب حنا غريب… غريب… بالتفافِهِ على “قصصٍ” وتعويم قصص وغضّ النظر عن قصص. فهل هذه هي الشيوعية؟ وماذا يعني أن يتقدم “الشيوعي الأوّل” (في التنظيم) صفوف المصفقين لحزب ديني شيعي عقائدي شمولي ويهتف ضدّ حزب مسيحي: صهيوني “صهيوني” وماذا عن أحوال الحزب الشيوعي بعد مئة عام إلا ثلاثة على تأسيسه في لبنان؟ وماذا يعني مزايدة من فيه على “الثورة” باعتبار الشيوعي “أب الثورة”؟ وهل “كلّن يعني كلّن” تستثني حقا الشيوعي؟ وهل أفكار هذا الحزب العتيق لا تزال تتلاءم مع واقعه؟
على قاعدة “وشهد شاهد من أهله” طرقنا باب ثلاثة شيوعيين: الأوّل كان شيوعياً وانسحب من الحزب هو الأستاذ في علم الإجتماع والتنمية الدكتور بشير عصمت، والثاني كان شيوعياً فاعلاً دينامياً في صفوف الحزب الشيوعي وانسحب بعد أربعين عاماً منه وهو نائب الأمين العام السابق للحزب الشيوعي سعدالله مزرعاني، وثالث ما زال صامداً في الحزب وهو القيادي فيه موريس نهرا. فلنصغِ إليهم يقرأون المشهد كلّ من موقعه.

شعبٌ سعيد!

إبن بلدة حصرايل بشير عصمت، ولد في بيت شيوعي، من أم وأب شيوعيين، وخال والدته هو أمين عام الحزب فرج الله الحلو الذي قُتل تذويباً بالأسيد في سوريا. عائلة شيوعية بامتياز لكن ها هو بشير عصمت اليوم خارج هذا الحزب “ليس حرداً أو زعلاً بل لأننا أناس مبدئيون وعلاقتنا بالشيوعية إنسانية فكرية”.

يُحدد عصمت الأحزاب اللبنانية ضمن ثلاث فئات: أحزاب قومية لبنانية، أحزاب قومية سورية، وأحزاب قومية عربية. ويشرح: “الشيوعي ليس قومياً لبنانياً بل كيانياً، ويُقصد به الكيان اللبناني، وشعاره: “وطن حر سيد مستقل” وخطة عمله “وطن حرّ وشعب سعيد”.

 

جميل ما تسمعه لكن، ما الذي دفع بشير عصمت ابن البيت الشيوعي الى مغادرة هذا الحزب؟ يجيب “أجريتُ مراجعة عميقة وطرحتُ جملة أسئلة بينها: ماذا عن تورط الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية؟ ولأيّ غرض؟ وطرحتُ أسئلة حول أحادية الفكر العلمي الماركسي ومحاولة الحركة الشيوعية تلقيحه بأفكار أخرى تحت تسمية الشيوعية الأوروبية…. وأتى أولادي ليطرحوا عليّ أسئلة من نوع: أنت أستاذ جامعي فما علاقتك بالبروليتاريا؟ وأدركتُ لاحقاً أن ما يحركني هو أفكاري الإنسانية وتعاطفي مع الفقراء وربما لو كبرت في أجواءٍ مسيحية لكنتُ أصبحت راهباً. وحينها، قررتُ إستبدال نشاطي الفكري والسياسي بنشاط تنموي، وسرعان ما أصابتني خيبة أيضا في هذا المجال حين أدركت أن التنمية قرار سياسي حين تكون بين أيدي الفاسدين. طرحتُ أسئلة أخرى كثيرة وجودية وفلسفية. ولاحقاً، بعد ان أصبح حنا غريب امين عام الحزب اتصل بي وطلب مني ان نجتمع. إلتقينا بعد اشتراطي ألّا يحصل ذلك تحت سقف مكتب الحزب الشيوعي. ويومها طلب مني العودة الى صفوف الحزب متبعاً ذلك بشرط ان لا أستلم أي منصب بل أن أبقى مجرد عضوٍ. أدركتُ في تلك اللحظة أن كل ما يريده هو أن يقول أمام الملأ: بشير عاد الى الحزب الشيوعي. وبدلاً من أن أسمح له بالإشتراط في موضوع لا أريده أصلا طرحتُ عليه بدوري 14 شرطا تضمنت: إزالة ديكتاتورية البروليتاريا التي ما عادت تتلاءم مع القرن الواحد والعشرين. وطلبتُ منه إجراء مراجعة حول فكرة الشيوعية الدولية “الكومنترن” حيث كنا حزباً لبنانياً نحب الشعوب الأخرى فأصبحنا نأخذ أوامرنا منها.

أسئلة أخرى كثيرة طرحها بشير عصمت على حنا غريب بينها: لماذا أول أمين عام للحزب فؤاد الشمالي مات جائعاً؟ لماذا تركه الحزب؟ لماذا طُرد كل من طُردوا من الحزب؟ ولماذا لم يقف السوفيات مع فرج الله الحلو يوم تعرض الى الخطر الصهيوني؟ من قتل فرج الله الحلو؟ ومن قتل الشيوعي في سوريا والعراق؟ وسألته أيضا: لماذا علينا أن ندخل كشيوعيين بحلف مع الفلسطيني ضد اللبناني؟ وهل تحرير فلسطين مهمة من مهمات الحزب الشيوعي؟ ولماذا من نعتبرهم حلفاء ذبحوا الشيوعي بينهم 120 شخصاً ذبحهم ياسر عرفات في الميناء؟ هل هكذا تتحقق الإشتراكية في المنطق المؤلم؟

الحزب المعارض دائماً

ماذا عن نائب أمين عام الحزب الشيوعي سابقا سعدالله مزرعاني؟ ماذا عن كل الكلام حول اختراق حزب الله صفوف الشيوعيين وتربعه فيه؟ لا يرغب مزرعاني في تقويم نشاط الحزب الحالي ويكتفي بالإشارة الى شقين: أولهما، أن الحزب نشأ كقوة معارضة وهو سعى الى أن يتكتل مع مجموعة من القوى التي تشبهه وعلى تحالف إجتماعي معه. وثانيهما، أن البلد يقع ضمن منطقة هو شديد التأثر والإرتباط بها لذا لا يمكن لأحد حالياً تجاهل العامل الخارجي لكن العامل المحلي أيضا موجود. ثمة من يعتبر لبنان صدى للصراع الخارجي فقط وهذه صورة ناقصة لأن في لبنان بشراً وسلطة ومعارضة وأغنياء وفقراء ومستفيدين ومتضررين. المشهد الداخلي حاضر والمشهد الخارجي حاضر والسياسات لا تتكون استناداً الى عامل واحد”.

ممتاز، ماذا عن الحزب الشيوعي إزاء هذين العاملين خصوصا في هذه الفترة العصيبة التي يمر فيها لبنان؟ يجيب مزرعاني “حاول الحزب البقاء على مسافة وسطية بين الجهات التي تعتبر ان كل المشكلة هي في سلاح “حزب الله” وبين الجهات التي لا تعتبر ذلك وهو رفع شعار كلن يعني كلن. هل هذا يعطيه الحق ان يستثني نفسه من “كلن” ويتصرف وكأنه أبو الثورة على الجميع؟ “هذا الحزب لم يكن في يوم جزءاً من السلطة. هو معارض دائم. العماد ميشال عون من جهته مثلا كان معارضا ثم اصبح في السلطة. والحزب الشيوعي أحيانا يتوفق في التعبير وأحيانا لا. والأمور عموماً معقدة لذا يمارس الحزب سياسة معقدة لأن الوضع معقد فيُتهم بالتبعية. المشهد اللبناني ليس سهلاً ابدا وليس فيه إلا يا أبيض يا أسود. يا مع هذا الطرف يا ضده. في حين ان هناك في المشهد لاعبين كثراً. وما يلفتنا هو ان “حزب الله “يقدم الوضع الخارجي على الداخل. اما لجهة الخلاف مع القوات فهو يجري على قاعدة تحسين المواقع وليس تغيير السياسات الداخلية. ثمة ذاكرة عند الجميع تُستحضر من حين الى آخر ولا أحدٌ بريء منها. العيش في الماضي موجود عند الجميع لذا تُحرك الإنفعالات الجميع. والشيوعيون يستحضرون ايضا صراعهم مع “حزب الله” والإغتيالات التي حصلت، وهي موجودة في يومياتهم”.

 

الصيغة السوفياتية

ماذا عن أسباب ابتعاده هو عن الحزب الشيوعي؟ يجيب “أنا لم أشارك في مؤتمر الحزب الأخير ولم أعد ناشطا فيه لأنني دعوت بعد انتهاء الإتحاد السوفياتي إلى ضرورة إعادة تأسيس الحزب على أسس جديدة، فالقديم كان صيغة سوفياتية لا يمكن المتابعة بها. وحتى الإسم ما عاد يمكن المتابعة به وما عاد ملائما. كنت بين الداعين الى إعادة تأسيس حزب تغييري بمعطيات لبنانية لا قديمة. يفترض بالحزب إذا أراد البقاء ان يعيش أكثر واقعه بمعطيات الواقع الراهن، فإما يتأقلم ويتجدد ويتوطن في بيئته وإما يكون موجوداً بفعالية قليلة جداً. ومثله كل الأحزاب المشابهة فحزب البعث لا يزال بصيغته القديمة. هو يستمر خارج السلطة فاشلاً في البلدان التي نشأ فيها. المشكلة قائمة أيضا عند القوميين الذين يعيشون مرحلة التأسيس في الثلاثينات. ويستطرد: نزلت الناس في السابع عشر من حزيران للمطالبة بالتغيير لكنها لا تملك العدة لذلك ولا مقومات التنظيم لإحداث التغيير”.

الحزب الشيوعي إذا يستمر موجوداً لكن بحدود بسيطة غير مؤثرة وهو ليكون مؤثراً يحتاج ان يكون جزءاً من تيار أوسع يشاركه نفس الأهداف. والشيوعيون ليسوا في جبهة مع “حزب الله” وأشك ان يكونوا الأقرب الى “حزب الله”. هناك بعض من يلتقون معه لكن ليس كل الشيوعيين لأن لكل واحد تجربته. وعلى الصعيد العام هناك أفكار في ذهن الناس ان الشيوعية اصبحت شيئاً من الماضي. وبقدر ما يشبه الواحد الماضي يصبح أصعب عليه أن يتقدم وان يقدم نفسه كقوة راهنة”.

تجربة مزرعاني الحزبية عمرها 40 عاماً أما اليوم فيقول “تركت الحزب فعلياً ولم اعد عضواً فيه. والدي كان من مؤسسي الحزب في الجنوب ثم التقيت طلاباً شيوعيين في الجامعة فانتسبت الى الحزب. كنت، انطلاقاً من بيئتي، مهيئاً لذلك. وشاركت في تمثيل الحزب في الحركة الوطنية ولعبتُ ادواراً فاعلة في غير مرحلة”. ويتابع: “هناك اشخاص حققوا نجاحات في احزابهم وطوروا لكن الاحزاب في شكل عام شابت. الأحزاب لم تنشأ كاملة الأوصاف في مواجهة قضية الديموقراطية داخلها. الأحزاب الشيوعية عانت من قيادات فردية. الأحزاب بحاجة ان تكون مؤسسات تحكمها المبادئ الفكرية والتنظيمية”.

مزرعاني وعصمت لم يجدا نفسيهما في حزب شيوعي جامد فماذا عن موريس نهرا الذي يستمر عضواً فيه؟ يجيب: “كان الحزب الشيوعي مبنياً على ثلاثة محاور اساسية مترابطة: المحور الوطني، المحور الطبقي، والحق بالتغيير دفاعاً عن الحقوق. وفي الفكر العام لا تزال منهجيته ماركسية لكن في التعاطي السياسي هو مرتبط بمقتضيات المرحلة وظروفها. هذا ليس معناه اننا نقلنا الفكر الماركسي ميكانيكياً بل الفكر الذي يقوم على معرفة قانون حركة المجتمع”.

تقاطع مع “حزب الله”

يختلف كلام نهرا عن كلام مزرعاني. ترى ماذا عن تبعية الحزب الشيوعي التي يراها القاصي والداني الى “حزب الله”؟ يجيب: “نحن من أسسنا عام 1969 اول حرس شعبي دفاعاً عن القرى الأمامية قبل ان يولد “حزب الله” واول تراجع لإسرائيل في بيروت والجبل جرى تحت وقع حراكنا. أما التبعية فهو فهم مغلوط او تلفيق تهمة. نحن نتقاطع مع “حزب الله” لجهة الضغط ضد اسرائيل أما “غير هيك” فنختلف معه. ونحن من خلال عملنا مهّدنا لعمل تراكمي شعبي تجلى في مناخ 17 تشرين ورفعنا شعار كلن يعني كلن”. لكن انتم ايضا لكم أخطاؤكم و”منن”؟ يجيب “نحن قصدنا من مروا في السلطة منذ العام 1990 الى اليوم. نحن استبعدنا. لكن، انتم غضيتم النظر عن “أفعال” من تحالفتم معهم؟ أنتم كنتم مقربين ممن قتل مهدي عامل وحسين مروة وسهيل طويلة وميشال واكد وخليل نعوس وغيرهم؟ يجيب: “نحن لو كنا تابعين لما واجهنا كل الإغتيالات التي تعرضنا لها. فلماذا انتزعوا منا سلاح المقاومة؟ لاننا لا نأتمر بأوامر أحد”.

لا يختلف إثنان أنكم بعيدون كل البعد عن البيئة المسيحية؟ يجيب: “نحن نعتبر الجمهور المسيحي جزءاً ممن تضرروا من النظام الإقتصادي والمالي. أما مواجهتنا مع القوات فأتت بعد أحداث الجميزة وبرأينا أن التنظيمات الطائفية لا تقوى إلا بنعرات طائفية”.

الحزب الشيوعي لا يعيش إلا بمصطلحات قديمة تتكرر كما الببغاء؟ “نحن نستخدم عبارة الأوليغارشية كتعبير اقتصادي ضد الطغمة المالية التي تتحالف مع زعماء الطوائف وارباب العمل”. لكن تتحدثون بمنطوق يجافي تطلعات الشباب حتى في الدول الشيوعية. فها هم شباب كوبا على سبيل المثال لا الحصر يتوقون الى فيزا للولايات المتحدة؟ يجيب نهرا “لهذا سببان الاعلان الدعائي وإغواء الشباب بالجينز والشيكلتس والخلل الذي حملوه لتصنيف الإشتراكية وحرية النقد. ونحن عالمون ان النقد يُصحح حتى ولو كان اتهامياً. نحن موقنون ان اول رغيف يخرج “مشلوط” محروق اما الأرغفة اللاحقة فتتحسن. في مفهومنا وجوب ان لا تنتقل التجارب ميكانيكياً”.

سؤالٌ آخر يطرح: كم نسبة من لا يزالون يؤمنون بمبادئ الحزب الشيوعي اليوم؟ يجيب مزرعاني: “هناك الألوف”. هل هناك رقم محدد عن المنتسبين؟ يجيب “لا أرقام”.

نعود الى بشير عصمت لنسأله نفس السؤال: ماذا عن عدد الشيوعيين اليوم؟ يجيب “الشيوعية مثل “دمغة دائمة” قد يخرج منها من يخرج لكنه يظل يعتبر شيوعياً. يضيف: الحزب الشيوعي اليوم لا يُشكل خطراً على أحد. وأعتقد أن صمود أي حزب يفترض أن يكون لديه قامة وقدرة على الإنفتاح على كل الناس لا أن يهتف: صهيوني صهيوني لأحد. ما يحصل اليوم مع شيوعيين هو اختراع جديد. الحزب الشيوعي يفترض أن يكون قد ورث قضية ونضالاً ولا يحق له البتة إلقاء تهم تعبوية تعيد الناس الى زمن الحرب. هذا فكر سيئ ومضرّ ليس فقط للحزب بل للبلد ككل. هذه لحظة يفترض أن يتصالح فيها الجميع. وفقدان القضية يخلق راجح فاليوم ليس وقت “خناق” والناس تموت من الجوع. فما حصل في 4 آب حدث في الجميزة وليس في الوتوات”.

ما رأي أحد المارة في المكان وهو ينتمي الى منطقة كانت ذات يوم شيوعية؟

ينتمي الصحافي عماد قميحة جذوراً الى بلدة كفرصير في قضاء النبطيه، التي كانت تُلقب لكثرة الشيوعيين فيها “كفرموسكو”. ويوم 4 آب كان في قلب بيروت ورأى بالصدفة مع زملاء وأصدقاء كانوا معه مجموعة من الشباب ملتحفين بالكوفيات، يقومون بأعمال إستفزازية، قطع عنهم. وبعد حصول حادث الجميزة أيقن أنهم “دفشوا” من أجل تحوير الذكرى. في تلك اللحظات فكّر بما آل إليه الحزب الذي قاوم ذات يوم وأصبح تابعاً اليوم. الشيوعي ذراع من أذرع “حزب الله”. لذا، على ما قال، انتهى الحزب الشيوعي في كفرصير.

الحزب الشيوعي انتهى في كفرصير. وشيوعيون كانوا أعمدة خرجوا من عباءة التنظيم. ومن بقي فيه مشحون بأفكار مرّ عليها الزمن. وما حصل في الجميزة نذير أنه من خارج سياق ما يراه الشيوعيون الأوائل أولوية.