IMLebanon

السلطة التشريعيّة بين إهمال صلاحياتها والتعدّي على صلاحيات زميلتها

كتب المحامي يوسف لحود في نداء الوطن:

فيما يستأنف المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار تحقيقاته وفيما تلكأ مجلس النواب عن القيام بواجب البت بموضوع رفع الصلاحية تجاوباً مع طلب القاضي بيطار واتجه نحو طريق مسدود للبت في مسألة المحاكمة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة النواب والوزراء من دون معرفة المسار الذي سيسلكه بعد تعطيل الجلسة التي كانت مخصصة لهذا الأمر، يقدم ممثل نقابة المحامين واهالي الضحايا في مكتب الإدعاء أمام المحقق العدلي المحامي يوسف لحود هذه الدراسة حول دور المجلس النيابي المفترض في مثل هذه القضايا وعن سبب تهربه من المسؤولية ومحاولة تمييع التحقيق.

أبرزت جريمة العصر (تفجير مرفأ بيروت) مفارقات مدهشة في مقاربة الامور المتعلقة بحسن سير العدالة لناحية إكتشاف الحقيقة الكاملة وإجراء المحاسبة الشاملة.

فتبيّن ما يلي:

1 – فور وقوع الجريمة غير المسبوقة لم يحرّك مجلس النواب ساكناً، وذلك بما يتناسب مع هذه النكبة الوطنية التي طالت الحجر والبشر والاقتصاد والامن الاجتماعي… (حاضراً ومستقبلاً)، فلم يتم تشكيل أي لجنة برلمانية للبحث في أي مسؤوليات على الصعيد الوطني – السياسي – الاداري.

2 – بعد تحرّك المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوّان، وإرسال كتاب للمجلس النيابي يتناول هذا الشق تحديداً (مسؤولية الرؤساء والوزراء)، جوبه بما يتناول المسألة سطحيّاً وبوضع أمور شكلية غير أساسية بمثابة عائق أمام جوهر المضمون المتمثّل في وجوب الغوص لبحث أسباب جريمة العصر بدقة.

3 – وبدلاً من إندفاع المجلس النيابي لوضع يده على جريمة العصر في ما يتعلق بأسبابها السياسية (كسلطة تراقب أعمال السلطة التنفيذية) وصولاً لتحديد هذه الاسباب، ووضع الامور في نصاب المحاسبة الشاملة (أفقياً وعمودياً) بما يتعلق بالجزء السياسي – الاداري، تمّ التقدم بطلب نقل الدعوى من تحت يد المحقق العدلي القاضي فادي صوّان، فصدر حكم محكمة التمييز الجزائية بذلك وتمّ تعيين محقق عدلي جديد هو القاضي طارق بيطار، وعاد المجلس النيابي الى إستكانته الباردة غير المتوازنة مع لهيب الفاجعة.

4 – كما سلفه، وجد المحقق العدلي طارق بيطار، أنّ ثمة مسؤوليات جرمية تطال بعض المسؤولين من رؤساء ووزراء وموظفين كبار… فتابع التحقيق، طالباً الاذونات وإسقاط الحصانات…

5 – كان المجلس النيابي قد إستراح إثر إنقضاء عاصفة المحقق العدلي السابق بنقل الدعوى من تحت يده، ولم يقدم على أي مبادرة تتناسب مع ما أثير في التحقيقات أكان من قبل المحقق العدلي السابق أم من قبل المحقق العدلي الحالي، الى أن طلب الاخير رفع الحصانات وإعطاء الاذونات، فقامت القيامة، وإعتبر بعضهم أن الاختصاص يعود للمجلس النيابي؟

6 – في ضوء ما عرضناه أعلاه بصورة موجزة، يتبيّن أن ممارسة المجلس النيابي لم تكن بصفة أفعال مدروسة على صعيد وطني عال ومسؤول (وهي السلطة التي تمثل الشعب بصورة مباشرة)، بل أتت بصفة ردّ فعل في كل مرّة شعر المجلس بأن أحد النواب مطلوب أمام السلطة الثالثة أي السلطة القضائية لاستكمال التحقيق، بعد أن وجد المحققان العدليان (السابق والحالي) أن ثمة قرائن وأدلة تطال بعض النواب حين كانوا وزراء في فترات معيّنة أو تطال سواهم من المسؤولين حين كانوا في سدة المسؤولية الوزارية أو الامنية…

في حين أن دور السلطة التشريعية، وهي المتقدمة بين السلطات المتساوية، لأنها تنبع من الشعب مباشرة، كان يجب أن يتّصف بالتخطيط والعمق وأخذ المبادرة بمسؤولية وشفافية لا تهاب محاسبة الاخوة أو الابناء… فمحاسبة الذات هي أرقى أنواع المحاسبات وتتقدّم على محاسبة الغير بالتأكيد.

بالاستناد الى هذه المقدّمة، يمكننا تناول البحث كما يلي:

1 – طبيعة المجلس النيابي

أ – التشريع:

ولسنا هنا في معرض بحث إنتاجية المجلس النوعيّة لهذه الناحية، ومدى مواكبته لحاجات الشعب الحالية والمستقبليّة، وأموره الحياتية من إسكانية ومالية ونقدية وإقتصادية وما يتعلق بتهريب الاموال الى الخارج والتدقيق الجنائي وسواها الكثير الكثير.

ب – إقرار الموازنة:

حسب المادة 32 دستور، ولسنا بحاجة للعودة الى سنة 1992 لمعرفة مدى نجاح المجلس في واجبه هذا، وضمن المهل المحددّة، وأما الاسباب فحتى لو كانت بجزء منها ملقاة على السلطة الاجرائية، فصلاحية مراقبتها ومحاسبتها منوطة بمجلس النواب.

ج – مراقبة ومحاسبة السلطة الاجرائية:

– بالنسبة لرئيس الجمهورية:

المادة 60 دستور تعطي مجلس النواب صلاحية الادعاء والاتهام والإحالة الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ليس فقط بما يختص خرق الدستور والخيانة العظمى، بل أيضاً بما يختص الجرائم العادية أياً كانت. وبالطبع فمجلس النواب لم يمارس هذه الصلاحية إطلاقاً، بما يعني ضمن السياق المنطقي المعروض:

إمّا أن أي رئيس جمهورية منذ سنة 1992 لم يرتكب أي خرق للدستور أو أي جرم عادي من أي نوع كان، وإمّا أن المجلس النيابي مستنكف عن أداء واجبه لهذه الناحية (أياً تكن الاسباب أو الذرائع)، رغم الصراخ المتعالي من كل حدب وصوب بخرق الدستور يوميّاً، وتبادل هذه الاتهامات بين الفرقاء جميعاً تجاه بعضهم البعض، فإن كان موجهو الاتهام جميعاً صادقين فهم جميعاً قد خرقوا الدستور، وهذه مصيبة… وإن لم يخرق الدستور أحد منهم، فيكون الجميع متكاذبين، وهذه فاجعة…

وأما النتيجة فإن أي دور بديهي لمجلس النواب في تناول خروقات الدستور، لم يبرز الى العيان في أي مناسبة إطلاقاً!

– بالنسبة لمجلس الوزراء، وسنداً للمواد 37 – 66 – 70 دستور، وسواها… يعود للمجلس النيابي مراقبة ومحاسبة رؤساء الوزراء والوزراء بما يتعلق بواجباتهم الوظيفية، ليس فقط بحجب الثقة، وانما أيضاً بالادعاء والاتهام والإحالة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

وهذه الصلاحية المعطاة لمجلس النواب هي على غاية من الاهميّة، ولكن بنظرة خاطفة من سنة 1992 وحتى اليوم، وباستثناء حالات نادرة، خضعت لمبررات شخصية أكثر منها موضوعية، مثل الوزيرين شاهيه برصوميان وعلي عبد اللـه أو سواهما، فإننا لا نجد سلوكاً جدياً وموضوعياً في ترسيخ مبدأ المراقبة والمحاسبة، إلا إذا إعتبرنا أن الامور في الدولة على أتمّ ما يرام ولا تشوبها شائبة مما لا يستدعي أي تدخل لمجلس النواب لمحاسبة السلطة الاجرائية والتي هي بدورها تكون قد وجهت سبّابتها باتجاهه متسائلة: ومن يحاسب السادة النواب والسلطة التشريعية، طالما أن الفساد من كل النواحي يقبض على وعي الناس ويزجّه في زنازين الجهل المتسربل بالعصبيات والمذهبيات والفئويّات…

وفي المحصّلة الواضحة، رغم الظروف المأسويّة والانحدارية يوماً بعد يوم، فلا محاسبة بل تواطؤ بين السلطتين التشريعية والاجرائية على تبادل الصمت والاستكانة باستثناء القنابل الدخانية العقيمة والتي لا جدوى منها وهي تبرز من حين لآخر لتقنع سذاجة اللبنانيين بوجود سلطات مسؤولة وتمارس صلاحياتها بضمير وموضوعية…

وبالنتيجة، يتبيّن لنا أن وظيفة المجلس النيابي، وحسب طبيعته الدستورية، هي التشريع ومراقبة ومحاسبة السلطة الاجرائية، وأما المحاسبة للسلطة الاجرائية فتكمن في كل ما يتعلق بالسلوك السياسي لمجلس الوزراء (رئيساً ووزراء)، حتى أنه عندما وقعت جريمة العصر، فإن أي لجنة برلمانية لم تتألف أقلّه لدرس مسؤولية رؤساء الوزراء والوزراء المتعاقبين من الذين لهم علاقة بمرفأ بيروت وإدارته والاجهزة التي تقوم بمهمات فيه… وذلك منذ إدخال السفينة Rhosus الى المياه الاقليمية في تشرين الثاني 2013 وحتى 4/8/2020 ومن ثمّ لترتيب المسؤوليات السياسية لناحية أي تقصير أو إهمال وصولاً للادعاء فالاتهام… وهذا أمر لم يحدث للأسف.

2 – السلطة القضائية:

وهي سلطة مستقلة حسب المادة 20 دستور، ووظيفتها الاساسيّة هي تطبيق القوانين على المرتكبين وإصدار الاحكام بإسم الشعب اللبناني، وإن المادة 7 دستور قد جعلت اللبنانيين سواء لدى القانون ويتمتعون بالحقوق والواجبات من دون فرق بينهم، وكذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان (في مواده 7 الى 11)، إضافة للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا سيما في المادة 14 منه (وقد إنضمّ اليه لبنان سنة 1972)، وسواها من المعاهدات الدولية التي إنضمّ اليها لبنان، وكلها تجعل وظيفة السلطة القضائية الاساسية وظيفة الفصل في الدعاوى بين الناس شرط أن تتمتع بالاستقلالية والنزاهة.

3 – الخلاصـة:

من الثابت والواضح أن وظيفة المجلس النيابي الاساسية هي التشريع وإقرار الموازنة ومراقبة تطبيق البيان الوزاري للسلطة الاجرائية، وهي وظيفة تكاد تكون ذاتها في الانظمة البرلمانية.

وأما الوظيفة القضائية للمجلس النيابي، فهي وظيفة إستثنائية محصورة بالسلوك الوظيفي السياسي للسلطة الاجرائية ولا يجوز أن يُفسر الاستثناء بصورة واسعة وإلا كانت النتيجة التعدّي على صلاحية سلطة أخرى هي السلطة القضائية.

وبالتالي، فإذا كانت المادة 60 دستور واضحة لناحية ايلاء المجلس النيابي (بصورة حصرية) صلاحية النظر بكل أفعال رئيس الجمهورية، (رغم ضمور هذه الصلاحية الى حد الاضمحلال لأسباب شتّى)، فإن المادة 70 ليست كذلك، مما يوجب التفريق بين صلاحية المجلس النيابي في مراقبة أعمال رؤساء الوزراء والوزراء السياسية أبان توليهم المسؤولية، وبين صلاحية السلطة القضائية في تناول الجرائم العادية حين تكون خاضعة للقوانين العامة. وإلا لو سلمنا بعكس ذلك، لأصبح المجلس النيابي محكمة دائمة الانعقاد للنظر بالافعال الجرمية اليومية لمئات الوزراء المتعاقبين على المناصب الوزارية، ولأصبحت المادة 70 دستور مماثلة تماماً للمادة 60 منه وهذا يتنافى مع وضوح نص المادتين.

4 – في النتيجة العملية

من الواضح دون عبء تنكّب الوقائع والأدلة ما يلي:

أ – الوظيفة الاساسية للمجلس النيابي منذ سنة 1992 لم ينتج عنها أي محاسبة جديّة للسلطة الاجرائية، أو أي إدعاء واضح وإتّهام ثابت لرؤساء أو وزراء.

ب – في جريمة العصر إرتبط تحرك المجلس النيابي بمدى تحرك المحقق العدلي وليس بمدى عمق الجريمة ومفاعيلها المدمرة!

إذ كلما إقترب المحقق العدلي، ومن خلال صلاحيته القضائية المعقودة له حصراً، من أي رئيس أو وزير بصفة مشتبه به أو مدعى عليه، إنطلق المجلس النيابي في طرح نظريات قانونية لا ينطبق عليها سوى قول الإمام الاكبر: “كلام حق يراد به باطل”.

ج – إن طرح تعديل الدستور والقانون لناحية نزع الحصانات وإلغاء الاذونات بما يتعلق بجريمة تفجير مرفأ بيروت، انما هو نظرية تقابلها:

– حسب المادة 77 دستور، يحق لمجلس النواب في خلال عقد عادي، وبناء على إقتراح 10 من أعضائه على الاقل إقتراح تعديل الدستور، بينما نحن الآن في عقد إستثنائي وهو يبقى كذلك ولو حلّ أول ثلثاء بعد 15 تشرين الأول طالما أن الحكومة مستقيلة ولم تُشكل حكومة أخرى نالت الثقة.

– حسب المادة 76 دستور يمكن تعديل الدستور بناء على إقتراح رئيس الجمهورية، فتقدّم الحكومة مشروع التعديل الى مجلس النواب، ولكن في ظل حكومة مستقيلة، ويصرّ رئيسها على أنه في حدود تصريف الاعمال بصورة ضيّقة، لا يقبل دعوة مجلس الوزراء للانعقاد، والبند 12 من المادة 53 دستور لا يتيح لرئيس الجمهورية منفرداً دعوة مجلس الوزراء للانعقاد…

فيصبح تعديل الدستور بشأن الحصانات الدستورية أو حتى بشأن تحديد المرجعية القضائية الوحيدة للتحقيق في جريمة تفجير المرفأ مع جميع المواطنين رؤساء ووزراء ومدراء وسواهم، من قبيل الاستحالة الفعليّة (هذا في ما لو لم نتناول بعد نصاب الثلثين الذي من الصعب جدّاً تأمينه في ظل هذه الظروف السياسية المعقدة – حسب المادة 79 دستور).

د – إن إمتحان النوايا قائم حالياً وفعلياً وليس بحاجة لأسئلة طالما الاجوبة موجودة!

فصلاحية مجلس النواب حسب المادة 70 دستور متمثلّة حالياً في الفوضى العارمة لدى السلطة الاجرائية في معالجة الازمات المتوالدة والمتتالية، كما أن بعض الوزراء لا يحضرون الى وزاراتهم، وتصريف الاعمال لا يعني الاستنكاف عن المسؤولية…

وكلها أمور تدخل في صميم إطار المادة 70 دستور، فأين هو المجلس النيابي منها؟

وهل يكفي أن يكون مجلس الوزراء مستقيلاً حتى يُعفى المجلس النيابي من دوره في المحاسبة؟ فأين سلطة الادعاء لديه؟ وسلطة الاتهام؟ وجزء من سلطة المحاكمة (في المجلس الأعلى)؟ ولماذا لا يتمّ إستعمال هذه الصلاحية الواضحة وغير المحتاجة لأي تفسير أو خاضعة لأي منافسة؟ في ظل ضياع وإهمال وفساد مستشرٍ في السلطة الاجرائية…

وهل أن إستنكاف مجلس النواب عن صلاحيته الواضحة هذه يبرر له التعدّي أو “التنافس” مع صلاحية زميلته، أي السلطة القضائية في الملاحقة والمحاسبة بالجرائم من قتل وإرهاب وسوى ذلك؟ (وبالطبع فالوصف الجرمي للافعال المتلازمة في جريمة العصر هي من إختصاص السلطة القضائية وليس السلطة التشريعية، وإن أي ملاحظات بشأنها يمكن للمدعى عليه مقاربتها مباشرة مع قاضي التحقيق العدلي بموجب مذكرة دفوع أو دفاع بدلاً من المنابر العلنية ووضع مجلس مفترض به أنّه يمثل الامة جمعاء بين من يحكمون بإسم الشعب اللبناني وبين من أثيرت الشبهات حولهم – حتى ولو كانت غير ثابتة على سبيل الجدل -).

هـ – إن التلازم في الافعال الجرمية، يأخذ بكامل الجريمة الى المرجع الاساسي والمبدئي للنظر بشمولية الجريمة، كما لو كان ثمة تلازم بين جناية وجنحة فتذهب الدعوى برمتها أمام محكمة الجنايات التي هي المحكمة الاشمل في المحاكمة إزاء محكمة الاستئناف أو القاضي المنفرد الجزائي.

وبالتالي، لو سلمنا أنه ثمة تلازم بين أفعال قام بها الوزير أو إمتنع عن القيام بها، وأدت الى إنبثاق أفعال أخرى منها (جرمية) إشترك بها آخرون، فإننا نكون أمام: أفعال جرمية من صلاحية السلطة القضائية من دون سواها حتى ولو إرتكبها الوزير أو ساهم في إرتكابها، وأفعال مستقلة بالوزير تتناول سلوكه الاداري والسياسي…

فإن تمّ تطبيق مبدأ التلازم فتكون جميع الافعال من صلاحية السلطة القضائية التي هي السلطة الاساسية في مداعاة ومحاكمة الناس سواسية أمامها (حسب المادة 7 دستور وسواها).

وإن سلمنا جدلاً بجواز التفريق، فتكون ثمة محاسبتان للوزير:

– واحدة إدارية سياسية أمام المجلس النيابي، الذي لا يمكنه وضع يده على كامل الدعوى بأشخاصها إذ صلاحيته محصورة بأشخاص محددين،

– واحدة قضائية بحت أمام السلطة القضائية وهي تشمل بوظيفتها وصلاحيتها كامل أشخاص الدعوى، بل كامـل الشعب اللبناني بمن فيهم رؤساء الوزراء والوزراء، (باستثناء رئيس الجمهورية)، كما يحدث في التدابير المسلكية أو الادارية حين يرتكب أي موظف أو محام أو سواهما جريمة فيحاسب أمام مرجعيته تأديبيّاً ومسلكيّاً إلا أن هذه المحاسبة لا تحجب المحاسبة الاساسية والمبدئية أمام السلطة القضائية. فيمكن عندها للمجلس النيابي محاسبة الوزراء – النواب في هذا الاطار، وترك السلطة الاساسية تقوم بعملها وفق وظيفتها الدستورية في ملاحقة الجرائم ومحاسبة المجرمين…

و – نتساءل بقوّة إزاء تصرف بعض السلطة التشريعيّة:

فثمة أصوات تعلو لتقول ان الهدف من طرح التعديلات الدستورية والقانونية هو أخذ الجميع بمن فيهم رئيس الجمهورية، أمام مرجع قضائي واحد هو قاضي التحقيق العدلي، وهذا الطرح يُفهم منه بدون أي إلتباس أن الثقة مطلقة بالمحقق العدلي وبالسلطة القضائية، فتأسيساً على هذه الثقة، لماذا لا يستجاب للمحقق العدلي طلبه برفع الحصانة النيابيّة عمن طلب رفع الحصانة عنهم؟

وإذا كان ثمة ثقة عارمة به، فلماذا رسم خارطة طريق له بوجوب أن يستدعي الجميع وفي أي وقت وحسبما يريدون هم لا هو؟

أفلا يأخذ الواثق بعين الاعتبار أُسلوب قاضي التحقيق العدلي، وقد أعلن ثقته به، في كيفيّة إدارة ملفّه الضخم، وإن قاضي التحقيق العدلي الواضع يده على كل الملف من أقوال وأدلة وتقارير وقرائن ووقائع مختلفة، يمكنه أكثر من سواه بالتأكيد تحديد كيفية السير بتحقيقه؟

وماذا تعني الثقة بشخص القاضي والتشكيك في أسلوب عمله؟

فإما ثقة بالشخص وضميره، فدعوه يعمل، ومن ثمّ تقديم المذكرات أمامه بأي آراء قانونية مختلفة لن يقاربها إلا بضميره الذي تثقون به، وإما أن المسألة هي مسألة سياسية فحسب، مع ما هو معروف عن السياسة من عبارات:

– يدخل مع أم العريس ويخرج مع أم العروس

– يغطّي السماوات بالقبوات

– أحكي الجارة لتسمع الكنّة

وصولاً الى الكيد والنكاية في حدودها القصوى: “كالطاعن نفسه ليقتل ردفه”

وإذا كانت المادة 60 دستور واضحة، ولدى ممثلي الشعب رغبة جامحة لإحقاق الحق وإرساء العدالة الشاملة، وهم يرون أن دوراً ما إرتكبه رئيس الجمهورية في جريمة العصر،

فدعوا المحقق العدلي يقوم بواجباته الدستورية والقانونية تجاه رؤساء الوزراء والوزراء وليقم المجلس النيابي بدوره سنداً للمادة 60 دستور تجاه رئيس الجمهورية وهذا أمر مهم جدّاً لأنه سوف يبرز المقارنة الحاسمة في مجال الشفافية لتطبيق مبدأ المحاسبة، بين ما تقوم به السلطة القضائية وبين ما تقوم به السلطة التشريعية.

وأما إذا كان ثمة إستحالة في تطبيق المادة 60 أمام مجلس النواب، فعن أي تعديل دستوري يتحدثون لأخذ الجميع بمن فيهم رئيس الجمهورية أمام المحقق العدلي؟!

إلا إذا كان الاقتراح هو لإخفاء عجز مجلس النواب عن محاسبة الرؤساء وبالتالي التلويح بتعديل الدستور لأخذهم أمام القضاء، مع إقرار ضمني من المجلس بعجزه أيضاً عن التعديل وليس المحاسبة فقط.

5 – البدائل:

أ – تسهيل الامور وتبسيطها لأنها حينها تصبّ في مصلحة العدالة، وسوى ذلك من تعقيدات وطروحات نظرية أثبت التاريخ إستحالتها… انما هي من قبيل الوسائل في الالتفاف على الدستور والقوانين للافلات من المحاسبة القضائية، بعد أن تمّ الافلات من المحاسبة الذاتية التي لا يأتيها إلا كل ديموقراطي راقٍ،

وبعد أن تمّت المراهنة للافلات من المحاسبة الشعبية الآتية، على فقر الناس وحاجاتهم وتغذية الغرائز على حساب الوعي… وعسى هذه المراهنة تخسر هذه المرّة.

ب – لسنا بحاجة لتعديلات دستورية وقانونية في هذا الظرف العسير، وانما لتطبيق ما هو موجود ويفي بالغرض.

ج – المبادرة فوراً لرفع الحصانات الدستورية عن كل صاحب حصانة تقدّم بإسمه المحقق العدلي أو سوف يتقدم بأي أسماء لاحقاً حسبما يراه مناسباً في ضوء ملفه القابض عليه بكل ضمير وجرأة، باعتبار أن صلاحية النظر بجريمة العصر محصورة بالسلطة القضائية تجاه أي كان، باستثناء رئيس الجمهورية الذي يبقى من صلاحية مجلس النواب دون سواه.

د – الادعاء على أي مرجع إداري سنداً للمادة 70 دستور وإتهامه فيما بعد حين يحجب الإذن المطلوب بشأن أي موظف خاضع لادارته تسلسلاً، أو حتى حين لا يوفّر أي مرجع إداري أياً كان القوة التنفيذية للمرجعية القضائية لإنفاذ قراراتها بالقوة حين لا تنفذ طوعاً.

هـ – إستعجال المجلس النيابي في وضع يده حسب المادة 70 دستور على كل المخالفات الادارية – السياسية (بما فيها الإهمال في مقاربة شؤون الناس الحياتيّة الملحّة) والتي تزخر بالامثلة عليها في الوقت الحاضر، وبصورة متمادية، والادعاء على هؤلاء الرؤساء والوزراء وإتهامهم وإحالتهم أمام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وبمفعول رجعي لكل هؤلاء حتى ملامسة حدود مرور الزمن، بشأن أفعالهم اليوميّة المتصفة باللامبالاة والاهمال والفساد… في إدارة الدولة عبر الوزارات كافة وعبر أعمال المؤسسات التي تخضع لها إدارياً ويتوجب على كل وزير السهر على أدائها ومراقبتها بصورة مستمرة وتوجيهها… (في حين أن الوضع الحالي والمتراكم منذ سنوات يدل بصورة دامغة على أن أي سهر أو رقابة أو إهتمام أو شفافية أو نزاهة… من غالبية المسؤولين في السلطة الاجرائية لم يكن متوفّراً، فأين الدور الاساسي للمجلس النيابي؟!).

و – وجوب أن تتحرك النيابات العامة لا سيما رأسها أي حضرة النائب العام لدى محكمة التمييز في كل مرّة تؤدي أفعال رؤساء الوزراء والوزراء المشار اليها في البند “هـ” أعلاه، الى جرائم جنائية خطيرة وعدم الاكتفاء بالادعاء على الجناة في جرائم التهريب أو القتل على محطات الوقود أو الاحتكار أو التحايل في مسائل الدعم والاستفادة من الاموال المخصّصة لذلك وسواها من أفعال تحدث يومياً، وكارثة التليل العكارية مثال صارخ على دور أكثر من وزير ومسؤول في ايصال الجريمة الى حيز التنفيذ بفعل اللامبالاة والفساد… بما يوجب وسنداً للمادة 189 عقوبات تحديداً الادعاء علـى هؤلاء الرؤساء والوزراء بالتلازم مع الفاعلين على أنهم مشتركون في الجرائم أو أقله متدخلون فيها وإحالتهم أمام القضاء المختصّ لأن صلاحيته الشاملة تتناول هؤلاء أيضاً حسبما هو مطبّق تحديداً في جريمة العصر، إذ إن أي مسؤول (وزير أو سواه) وبصورة منطقية واضحة، قد توقّع حصول جرائم جراء عدم تنظيم أمور: الامن + المحروقات + السلع المدعومة + الاقتصاد + المال، وسواها…وأنه باستنكافه عن ايجاد الحلول، بل عن إستنكاف بعضهم من الحضور اليومي الى وزاراتهم، يكون قد قبل بالمخاطرة.

وأنه في حال وقوع جرائم خطيرة تمسّ الاستقرار والامن وسلامة الدولة ووحدتها… من مثل ما ذكرناه أعلاه، لا سيما في زمن يتعلق بالسلم الاهلي وبركائز الدولة وهيبتها (الفوضى وصولاً للانحلال والذوبان…)، فإن صلاحية السلطة القضائية تشمل ملاحقة ومحاسبة الرؤساء والوزراء (باستثناء رئيس الجمهورية)، حتى ولو وضع المجلس النيابي يده إذ لا يمكنه حجب صلاحية السلطة القضائية باستعمال صلاحيته السياسية.

فكم بالحري في ظل غياب تام للمجلس النيابي في القيام بأي دور له من هذا القبيل وهو من صلاحيته، وأفعال الرؤساء والوزراء في تعميم الفلتان والفوضى والانهيار على الصعد كافة، لا تزال “طازجة” ومستمرة ومتمادية في حين أن المجلس النيابي يسارع الى إقتطاع صلاحية المحقق العدلي الحصرية بما لا يمكن له الحلول محلّه وإرساء المحاسبة الفعليّة حسبما تناولناه أعلاه.

6 – في الختام:

لن يستقيم الانتظام العام في الدولة إلا باستعادة هيبتها ولو تدريجيّاً، وهذا لا يتم إلا بمحاسبة الكبار، لأن هذه المحاسبة سوف تكون الدرس المفيد للجميع وبالتالي وضع دولة القانون على سكّة الوجود الفعلي.

بينما محاسبة الصغار لن تشكل أي درس للقائمين بأمور المسؤولية بل سوف تحضّهم أكثر فأكثر علـى الايغال في الفساد والإهمال…

الظرف مؤات أمام المحقق العدلي، ولنا في ضميره وجرأته خير ضمانة، فأوقفوا أي تصرفات تؤدي الى إطاحة هذه الفرصة الذهبية، فإن حُرمتم من لقب رجال دولة في بداياتكم وإستمرأتم لقب دهاقنة السياسة، فلا تحرموا سيرتكم في نهاياتكم من لقب راق يترحّمون به عليكم،

وإلا فالتاريخ لن يبخسكم صفاتكم التي تستحقون، بعد أن يكون الشعب قد مزّق صوركم بأشعّة فجر الوعي وهو آتٍ لا محالة.