IMLebanon

كانتونات النفط وكهوف الطوائف… الحرب أصبحت جاهزة

كتب منير الربيع في “المدن”: 

تُظهر الانهيارات المتتالية فداحة الكارثة الاجتماعية والسياسية اللبنانية. شعب يُدفع دفعاً إلى الفوضى والتوحش، لينهش أهله بعضهم بعضاً، بعد رميهم في المهانة والذل، حتى فقدانهم البصر والبصيرة.

شعب السوق السوداء

وتتنوع المشاهد في فداحتها: هناك من يؤدي الصلاة في محطة محروقات، فيما يحوّل البعض الأزمة إلى مرتع للرقص. كمن يرقص على جثته، أو مبللاً بعرقه ودمه. كأنما اللبنانيون شعب مخمور يساق إلى حتفه ضاحكاً خانعاً، هزيلاً وذليلاً.

والأزمات اليومية تؤسس لما هو أفظع. شعب بكامله تحوّل إلى التجارة بالدولار أو بالمحروقات. يقضي كثيرون أيامهم وليالهم على المحطات، منتظرين الحصول على كمية من المحروقات ليبيعوها في السوق السوداء. ويمضي المنتظرون انتظاراتهم يستمعون إلى أغاني العنفوان والإباء والأمجاد.

ولم تعد الأزمة في الحكومة والحقائب، ولا في الصراع على الوجهة السياسية للبنان. وليس على قاعدة الانقسام الطبقي، أو بين يمين ويسار، أو بين وطني وخائن، ولا بين التعريب والتغريب. إنها معركة احتقار الشعب اللبناني ذاته.

فكيف لشعب أن يصبر على هذا الذلّ المتجلي في عمائم تركع على المحطات، وفرق دبكة ترقص على جمر الأزمات، وجماعات تتقاتل على أحقية الوجهة السياسية؟ وما يجري قابل لأن يتحول برميل بارود قد ينفجر في أي لحظة. والانفجار لن يكون انتفاضة لكرامة، بل نتيجة سعار الصراع المذهبي والطائفي المقولب. وهو بدأ يتخذ بعداً أخطر من الانقسام السياسي والمناطقي على محطات المحروقات.

بونات التمييز والذل

والجديد هو تشريع ثقافة التمييز والتعبئة بـ”البونات”: إبن هذه المنطقة يحق له التزود بالوقود، و”الغريب” عنها لا يحق له ذلك. وتكمن الغرابة هنا في مدى انفصال اللبناني واغترابه عن ذاته، وفي افتضاح هشاشة الهوية التي يحاول إظهار نفسه عليها. وهو صاحب المثل: “لاقيني ولا تطعميني”، وكل نظريات السياحة الخنفشارية.

وصار يحق لـ”الغريب” أن يأتي إلى منطقة ما سائحاً، فلا ينظر إليه إلا كخزنة مالية لتوزع في تلك المنطقة، من دون أن يحق له التزود بالوقود منها. وماذا عن السائح غير اللبناني؟ هل يحق له التزود بالوقود ومن أي مركز بلدية يمكنه الحصول على “بون بنزين” منها؟

كانتونات أهل الكهوف

ليس النظام اللبناني بقطاعاته كلها، المصرفية والاقتصادية والطبية والتعليمية والمالية والسياسية والمؤسساتية، هو الذي ينهار، بل منظومة مديدة من التكاذب الثقافي والاجتماعي هي التي تنهار على رؤوس صانعيها، فيما تتوهم الجماعات أنها تخوض معارك وجودها وبقائها.

فهذا الزعيم ومواليه يدعون حماية المسيحيين من التهجير. وذاك مع جماعته يقاومون المؤامرات التي تحاصرهم لإخضاعم. وهناك من يدّعي مظلومية تنتج إحباطاً قابل للانفجار. وهذا كله يقود إلى التقوقع والانعزال. كأنما اللبنانيون جميعاً عادوا إلى عادات أهل الكهوف.

وأصبح لبنان مشرعاً على كانتونات وفيدراليات وتقسيمات لا تعد ولا تحصى، بحكم الأمر الواقع. كل طائفة أو جماعة أو بلدة أو حي في حال بحث عن حماية بالإكتفاء والأمن الذاتيين. وشرعت كل جماعة بالحصول على مسلتزمات حياتها على نحو مستقل عن الدولة وعن الآخرين.

كهرباء الانتقام

وها هو حزب الله يتوج مشروعه باستقدام النفط الإيراني من سوريا. والفيدرالية الكهربائية مكرسة بتوزيع غير عادل بين المناطق. ومشهد بيروت ليلاً غارقة في الظلام يشبه كهفاً ضخماً، تحوطه مناطق مضاءة. وهذا ليس أمراً بسيطاً أو تفصيلياً. بل هو فعل انتقامي من العاصمة بمفعول رجعي.

وعلى مشارف دخول نفط حزب الله إلى لبنان، تعمل الأجهزة الأمنية على تطويق منزل إبراهيم الصقر، لتفريغ مخزونه من المحروقات. إنه اختلال في موازين القوى، وشروع في الاستقواء والاستفراد، وفي اجتماع مصالح وأطراف متعددة ومتناقضة للانتقام من جهة واحدة.

فبهذه العملية، وبتصوير الصقر وكأنه المحتكر الأوحد للمحروقات، يعمل الآخرون على تبرئة أنفسهم. ويحولون الرجل ومن يقف خلفه سياسياً إلى قميص عثمان. ويتبرأ حزب الله من أمنه الذاتي، عسكرياً واجتماعياً واقتصادياً. ويتشفى التيار العوني من خصمه اللدود والأبرز على الساحة المسيحية، لحسابات سياسية وشعبية وانتخابية، ولمصالح سورية في البقاع وتحديداً في زحلة. وينتقم تيار المستقبل من القوات اللبنانية أيضاً.

عراضة الصقر العسكرية

ليس دفاعاً عن إبراهيم الصقر، ولا عن احتكاره. ولكن تخزين المحروقات في بيئات أخرى لم يعامل بمثل هذه الفجاجة. ولو افترضنا أن التهم التي وجهت إلى القوات اللبنانية، والقائلة إن مخزون الصقر يعود إليها تحسباً للأسوأ في لبنان ولتوفير مقومات الصمود في حال إرساء التقسيم، فماذا عن حزب الله صاحب الخطوط الاستراتيجية المفتوحة من إيران إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا؟! وماذا عن خطوط البحر المفتوحة في مناطق ولدى تنظيمات عدة، وألقي القبض على محتكرين فيها وصودرت مخزوناتهم ووزعّت؟!

ولماذا وحده الصقر اعتُمدت ضده عراضة عسكرية تؤسس لما هو أخطر؟!

إنه شقاق الطوائف وتقدّم مخاطر انفجارها من داخلها، وصولاً إلى لحظة الصدام الكبير. صدام يطيح ما تبقى من استقرار. كأنما مقومات الحرب وملامحها أصبحت جاهزة.