IMLebanon

هدف الإستحقاق الإنتخابي وأهميّته

كتب د. ميشال الشماعي في “نداء الوطن”:

لا يختلِف اثنان حول أهميّة الانتقال السلمي للسلطة بالطريقة الدّيموقراطيّة. لذلك، تُعتَبَرُ الانتخابات النيابيّة الطريق الوحيد لهذا الانتقال. ولا بديل سواها. ولكن تعلو أصوات المنتقدين في هذه الفترة. أولئك المستسلمون ومنهزمو النّفوس الذين يطرحون نظريّة القدرة الانتخابيّة لهذه السلطة في المحافظة على رصيدها السياسي. ويبثّون نظريّة استسلاميّة انهزاميّة جديدة في المجتمع اللبناني قائمة على تسخيف العمليّة الدّيموقراطيّة، والاستسلام أمام الواقع السياسي الذي نجحت هذه المنظومة بفرضه بتغطية وحماية من المنظّمة المسلّحة.

لكن لا يسأل هؤلاء عن البديل عن الانتخابات النيابيّة. فلبنان بلد لم يقُم يوماً كجواره على القواعد الإنقلابيّة للعسكر، بغضّ النّظر عن فشل بعض مَن حاول اعتماد هذه المسألة للتغيير السياسي وفشل. ومردّ هذا الفشل يعود إلى أنّ اللبنانيّين على تعدّدهم الطوائفي والمناطقي لم يقدروا يوماً أن يشكّلوا حالة سياسيّة جامعة. باستثناء الحقبات التي انقسم فيها الشعب اللبناني عموديّاً إلى فئتين كزمن الكتلويين والدّستوريّين في مرحلة الاستقلال وما بعدها، وزمن الحلف والنّهج، وزمن الجبهة اللبنانيّة والحركة الوطنيّة، وليس أخيراً زمن 14 و 8 آذار.

لذلك، البديل الإنقلابي غير موجود حتّى لو قادته ثورة عارمة وجارفة للأخضر واليابس. تبقى الإنتخابات النيابيّة السبيل الوحيد لأيّ تغيير في لبنان. وهذه ليست قناعة سياسيّة على قدر ما هي واقع سياسيّ ناجم عن التركيبة السوسيو – بوليتيكيّة اللبنانيّة الفريدة من نوعها. والبديل الوحيد الذي يخلف الحالة الانتخابيّة هو إمّا الفوضى وإمّا الحرب، لأنّ التوازنات السياسيّة هي التي تحكم هذا الواقع اللبناني. لذلك، لجأ بعض الساسة إلى نظريّة التسويات السياسيّة وحكومات الوحدة الوطنيّة وتغييب المعارضة، وهذا ما شكّل حالة من العقم السياسي امتدّت معظم هذه العقود الثلاثة. حتّى هذه الحالة التسوويّة ابتدعت هذه السلطة نظريّة الديموقراطيّة التعطيليّة التي اصطلحتُ شخصيّاً على تسميتها في كتاباتي سابقاً، لتستطيع فرض التسوية التي تناسب المحور الذي أسرت نفسها فيه.

فعلى الساخرين من مطلب الانتخابات وبالديناميّة السياسيّة التي فرضتها هذه الحالة أن يتقدّموا بحلّ بديل لا يقوم على هاتين القاعدتين اللتين أشرت إليهما أيّ التسوية أو الديموقراطيّة التعطيليّة، ولنلتزم به جميعنا، وعندها يصبح لبنان أرضاً للخلافة السياسيّة الزعماتيّة، ويخرج من العالم الديموقراطي الحرّ شكلاً ومضموناً، وليس فقط بالشكل كما هو واقع اليوم. ولتتحمّل هذه المنظومة عندها نتائج أفعالها القائمة على استبدال السيادة اللبنانيّة بجنّة السلطة والحكم، لتعيث فساداً وخراباً ودماراً في المنظومة المؤسّساتيّة بالكامل.

لكن أن تحاول هذه المنظومة موجَّهَةً عن بعد من قبل المنظّمة المسلّحة باستصدار مسبق لنتائج العمليّة الانتخابيّة، فهذا من أضغاث أحلامها. حقيقة سياسيّة لا يمكن القفز فوقها هي أنّ القانون الانتخابي المعتمد يقوم على التحالفات التي قد تنسجها الأحزاب في لوائحها لاستحصالها على أكثريّة سياسيّة. وهذا ما نجح به “حزب الله” وحليفه ترهيباً أو ترغيباً ليسطوا على الأكثريّة النيابيّة. وقد نجحوا بذلك، انطلاقاً من ثقافة الحقد الموجودة عند بعض الفرقاء السياديّين أوّلاً، وانطلاقاً من جهل بعضهم بنوايا تحالف المنظومة والمنظّمة حيث ظلّوا يراهنون على لبننة ما، فشلوا بتحقيقها. لأنّ أولويّة المنظّمة هي امتدادها العقائدي وليس انتماءها الوطني.

المطلوب اليوم عدم السماح والتهاون أمام فظاعة وقذارة هذا التحالف الشيطاني بين المنظّمة والمنظومة. إضافة إلى عدم الرّضوخ لأيّ تسوية أو تحالف مصلحي آني، بل المطلوب التكتّل ضمن الجبهة السياديّة وتوحيد الأهداف الإنتخابيّة حتّى تحقيق القدرة الإنتخابيّة التي يفقدها الشارع المواجِه للمنظّمة والمنظومة. سواء أكان هذا الشارع من الأحزاب أو من خارجها. لكن يجب التنبّه إلى أنّ مصلحة هذا التحالف تكمن بضرورة تعدّد اللوائح لبعثرة الأصوات حتّى درجة تصفيرها وإبطال مفاعيلها الإنتخابيّة.

من هنا، على الباحثين لأنفسهم عن مكان سياسيّ ما، تحت عناوين مختلفة، أن يدركوا أنّ الوقت ليس للتحايل على النّسبيّة بغية اقتناص مقعد نيابي فارغ المضمون السياسي، بل الوقت وقت إنشاء أكبر وأوسع تكتّل سياديّ يضمّ تحت جناحيه العناوين السياسيّة كافّة التي تبدأ بالإصلاح ولا تنتهي بتطبيق الدّستور بالكامل، وصولاً إلى تطويره وتحديث النظام السياسي ليتلاءم مع عالم اليوم الذي سبقنا بسنين ضوئيّة.

ولعلّ الخطوة التي أقدم عليها حزب الوطنيّين الأحرار قد تشكّل مقدّمة للإنطلاق منها، وذلك للحفاظ على هذا الإستحقاق الديموقراطي أوّلاً، وصولاً إلى تطبيقه بكلّ شفافيّة ثانياً. وتجنّباً لأزمة القيادة، لم يطرح أيّ قائد أو رئيس لهذه الحالة الديموقراطيّة الجبهويّة. على أمل أن تثمر اللجان التي أقرّت للمتابعة، ليس تحالفات إنتخابيّة فقط بل خطّاً سياديّاً يرسم خريطة الطريق لاستعادة السيادة المسطوِّ عليها.

مهما تعدّدت الأهداف المرجوّة من الإستحقاق الإنتخابي، لا خلاف حول أهميّة هذا الاستحقاق بالنسبة إلى الأفرقاء السياسيّين كلّهم، حتّى اللاعبين الجدد منهم. لكن العتب كلّ العتب على مَن كانت سيادة لبنان أولويّتهم السياسيّة فتخلّوا عنها بحثاً عن تموضع جديد منهم بعيداً من الكلاسيكيّة السياسيّة، أو سوء إدارة منهم بتعاطيهم الكلاسيكي مع الخطر الوجودي الذي يتّخذ من الانتخابات وسيلة لتحقيق مآربه. عسى أن يتّعظ هؤلاء كلّهم لأنّ لبنان السيادة اليوم أمام فرصة وحيدة، إن ضاعت فهذا يعني حتماً عودة إلى ما قد لا تحمد عُقباه. وبالطبع هذا ما لا يريده أحد. لكن إن فُرِضَ فرضاً فنحن للمواجهة، كيفما كانت، جاهزون.