IMLebanon

فقدان القدرة الشرائية وتبخر الرواتب يدفعان اللبنانيين إلى الهجرة

كتبت جويل رياشي في صحيفة الأنباء:

لم تأت مطالبة رئيس الاتحاد العمالي العام في لبنان د.بشارة الأسمر برفع بدل الحد الأدنى للأجور 10 مرات وصولا إلى 7.5 ملايين ليرة من عبث، ذلك ان انهيار قيمة العملة الوطنية أمام الدولار الأميركي كان أشبه بالسقوط العمودي، وفقدت معه الليرة اللبنانية قدرتها الشرائية، خصوصا لدى أصحاب الرواتب المتدنية، وحتى تلك التي كانت تعتبر «جيدة» قبل الانهيار المالي.

صحيح ان مطلب الأسمر دونه صعوبات تجعله أقرب إلى المستحيل، الا ان الصحيح ايضا ان اللبناني يواجه صعوبات في يومياته، في طليعتها تأمين الفواتير الخاصة بالطاقة والمحروقات، من تسديد اشتراك مولد الكهرباء وتعبئة الوقود.

في هذا السياق، برزت خطوات عدد من أصحاب المولدات الذين تحدثوا عن خفض ساعات التغذية بالتيار الكهربائي عمدا، لتخفيف الفاتورة على المشتركين. وقد عبرت عن ذلك شركة بيبلوس للتعهدات الكهربائية، وهي تابعة لشركة كهرباء جبيل المالكة امتياز تزويد القضاء بالكهرباء من خمسينيات القرن الماضي، ببيان رسمي أشارت فيه إلى ان 70% من المشتركين غير قادرين على تسديد فواتيرهم الشهرية في حال توفير التغذية كاملة، على رغم اعتماد الشركة أسعار تعرفة غير ربحية، إلا انها تحدثت عن عدم قدرتها «على الاستغناء عن تحصيل الجباية»، وهذا ما يدفعها إلى المضي في إجراءات التقنين، بالتلازم مع الطلب إلى المشتركين خفض الاستهلاك.

سميرة موظفة في شركة كبرى، لكنها تتقاضى راتبها بالعملة الوطنية، شكت من عدم قدرتها على تعبئة خزان سيارتها بالوقود «اذ يستهلك ثلث راتبها الاساسي على مدار الشهر (تحتاج سيارتها إلى 600 ألف ليرة في كل مرة لتعبئتها)».

الراغبون في السفر كثر، بينهم من يتلقون عروضا للعمل في أوروبا ودول الخليج في التمريض والتدريس والترجمة والتوثيق. وكثرت في الفترة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، نشر أخبار عن توديع شركات وجامعات ومستشفيات لأفراد من العاملات والعاملين لديها، بداعي سفرهم إلى الخارج. وهنا برزت تضحية أحد الشريكين بوظيفته المحلية بعد تلقي الآخر عرضا للعمل في الخارج. هكذا الحال مع سيدة شابة اختارت الرحيل مع زوجها وطفلتيهما إلى أوروبا. ومثلها مع أخرى التحقت بجامعة أجنبية فتحت فرعا لها في إحدى دول الخليج.

أسر تحسم أمرها في تدبير شؤونها في الخارج شرط حصول أحد أفرادها على فرصة للعمل. وهذا ما حصل بالمقلوب مع مهندس اتصالات خسر وظيفته في الامارات، لكنه اصر على الصمود هناك بحثا عن أخرى ولو براتب أقل، وعدل من خطته بإعادة ولديه إلى مدرستهما الأم في لبنان، معتبرا ان الفرصة لابد ان تسنح له ولزوجته هذه المرة في الحصول على عمل، وبقاء شمل الأسرة مجتمعا ولو بكلفة حياة تتخطى بكثير تلك المقدرة لها في بيروت.

باختصار، باتت الوظيفة الحقيقية للبناني، تلك التي تدخل إلى جيبه عملة أجنبية، وهذا غير متاح الا للذين يعملون مع مؤسسات أجنبية، في مقابل قلة بينها صحف ومدارس تدفع جزءا بسيطا بالدولار الأميركي من الراتب للعاملين لديها، وهي قيمة تتفاوت بين موظف و«محظي»، ولا تحل مشكلة في هذا الزمن الصعب.

وفي مقابل الهجرة المحلية إلى الخارج بحثا عن فرص عمل، تعرف البلاد هجرة معاكسة، ولو بنسبة قليلة، من المقيمين في الخارج الحاصلين على جوازات سفر أجنبية، رأوا ان تقاعدهم في لبنان يوفر لهم حياة كريمة ورفاهية لا يستطيعون الحصول عليها في الولايات المتحدة الأميركية او كندا أو أوستراليا مثلا. هكذا الحال مع زميلة اختارت الاستقرار في لبنان مع زوجها والأسرة بعد بلوغ الزوج سن التقاعد وإفادته من راتب شهري دفع في سبيله الكثير من الضرائب. وتشير الزميلة «إلى أني وكثيرين غيري نملك منازل وشققا وعقارات في لبنان. وليس سرا ان الحياة هنا (في لبنان) باتت متاحة براتب شهري لا يتخطى الألف دولار، وستكون بهكذا مبلغ أفضل مرات عدة من تلك في أميركا (…)».

بين هجرة سعيا لحياة كريمة وأخرى معكوسة بحثا عن رفاهية في خريف العمر، يمضي الشعب اللبناني في مواجهة الزمن الأصعب في تاريخه الحديث، متسلحا بأمل يريد عبره مقاومة الإحباط والمستحيل!