IMLebanon

سحب السفراء وسقطات ميقاتي وماكرون

كتب علي شندب في “اللواء”:

رغم دويها الهائل وتداعياتها المتناسلة سحباً للسفراء من غالبية دول التعاون الخليجي، لم تكن خطوة سحب السفراء التي قرّرتها السعودية ضد لبنان مفاجئة أبداً.

كما إنها لم تأتِ منسلخة عن أي سياقات. بل إنها جاءت ضمن السياق الطبيعي للتطورات والأحداث التي شهدها لبنان أقله منذ رضوخ سعد الحريري لمطلب حزب الله بتمثيل نواب «سُنّة حزب الله» في حكومته التي أطاحت بها 17 تشرين 2019.

كما إن الآلية التي رُكبت فيها حكومة حسّان دياب والتي وصفت بحكومة حزب الله الصافية، سيّما وأن تسمية دياب نفسه شكلت استفزازاً وتحدياً للطائفة السنية التي بات كرسيها «ألعوبة مضحكة» بأيدي الحزب وحليفه جبران باسيل، حتى أطاح بها انفجار مرفأ بيروت الهيروشيمي الذي أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من فوق أنقاضه عن اطلاق «المبادرة الفرنسية» لانقاذ لبنان التي رضخ فيها ماكرون لشروط الثنائي الشيعي والتسليم بتخصيصه بوزارة المالية وكرّت السبحة التنازلات لتفخّخ حكومة الاختصاصيين المستقلين وتجوّف من مضمونها ما دفع مصطفى أديب المكلّف بتشكيلها للإعتذار.

ثم أعلن سعد الحريري نفسه مرشحاً طبيعياً لتنفيذ المبادرة الفرنسية، لكنه بعد طول مماطلة وتسويف وشروط تعجيزية أفضت الى اعتذاره بعد إقصائه، ليتقدم الصفوف نجيب ميقاتي الذي ظنّ نفسه حلاً محصناً بضمانات خارجية لإخراج لبنان من محنته الكأداء، ومن هنا بدأت مشكلة حكومة ميقاتي التي لم تراع التوازنات الإقليمية والدولية التي شكلت صمّام أمان الوضع اللبناني تاريخياً، حيث كان ميقاتي وقتذاك متفرغاً لأعماله التجارية في لبنان وخارجه.

يوم تكليف الميقاتي قال كاتب هذه السطور إنها «حكومة الماكريسية» وليست حكومة «المبادرة الماكرونية» التي عجز صاحبها عن تسويقها بسبب الفيتو الإيراني الحزبلّاهي زمن حسين روحاني، وتمكّن من ذلك مع ابراهيم رئيسي. وبداية القصة كانت في قمة بغداد التي تغوّل فيها وزير خارجية ايران الجديد حسين أميرعبداللهيان بروتوكولياً على رؤساء الدول المشاركين في القمة التي التقاه فيها ماكرون مرتين.

بعد سلسلة إخفاقات في ليبيا وشرقي المتوسط، ودول الساحل والصحراء الافريقية، ومن ثمّ بصفعة الغوّاصات الاسترالية، ابتهج ماكرون بالحكومة الماكريسية، وبلغ تفاخره بتشكيلها حد وصفه لها، بأنها حكومته فوضعها في خانة النجاح الشخصي له، وذلك كاستثمار يُمنّي ماكرون النفس بأن يحصد عوائده في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. ولتثبيت هذا النجاح الشخصي استعجل ماكرون حضور الميقاتي الى قصر الإليزيه قبل أن تعقد حكومته جلستها الاولى، ليعود ميقاتي بسلة من الوعود المعلّقة على خشبة تنفيذ الإصلاحات المستحيلة وإجراء الانتخابات.

القطبة المخفية، بل الخنجر المسموم، في تشكيل الحكومة الماكريسية وليس الميقاتية، أنها تمّت من وراء ظهر السعودية وبمعزل عنها بوصفها الشقيق العربي الأكثر إهتماماً بلبنان، والأقدر على مساعدته، والأهم بوصفها راعية اتفاق الطائف ومحتضنة إنعقاده على أرضها.

السقطة الأولى، ارتكبها ماكرون اللاهث وراء استثمارات نفطية كتلك الصفقة الضخمة التي سهّلت ايران إبرامها لشركة توتال الفرنسية مع العراق. وسريعاً ترجم ماكرون الصفقة بتعزيز موقع إيران اللبناني على حساب دور السعودية التاريخي، مستولِداً مع نظيره الإيراني رئيسي، حكومة الميقاتي.

السقطة الثانية، ارتكبها ميقاتي الذي عندما تحدّث عن ضمانات خارجية فكان يقصد حصراً الضمانات الفرنسية الذي جعلته يتوّهم أنها تمتلك مفاتيح السعودية، تماماً كما توّهم ذلك سلفه سعد الحريري. ودون أن يتعلم من درس الحريري أكمل ميقاتي طريقه. ودون أن يتعلّم أيضاً من درس زيارة السفيرتين الأميركية والفرنسية الى الرياض وفشلهما في حضّها على إعادة النظر بموقفها من لبنان وتقديم مساعدات إنسانية الى اللبنانيين عامة والجيش اللبناني الذي سبق للملك سلمان أن ألغى «هبة الثلاثة مليارات» التي قرّرها سلفه الملك عبدالله لدعمه، وهنا الإشارة السعودية البليغة الرافضة لتموضع لبنان الرسمي تحت العباءة الايرانية وانخراطه في مواقف سياسية ودبلوماسية معادية لها.

كيف لميقاتي الذي وصفه رعد حزب الله بـ «مالك الحزين» لأنّه عبّر عن حزنه أمام صهاريج المازوت الإيرانية وهي تخترق السيادة اللبنانية أن يتعلّم، وهو الذي دلف الى رئاسة الحكومة للمرة الأولى، بتزكية من جاك شيراك الذي توسّط نظيره الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لاقناع بشار الأسد به، «لم يكن قبلها يعلم الوضع الجيوسياسي في المنطقة، ولا ماهيّة الفرق بين حركة حماس وحركة فتح» ما دفعه للاستعانة بصديق يعلمه أبجدية الصراع في المنطقة، كما أنّ ميقاتي لم يتعلّم من درس توسّله ذات يوم العمرة الدينية، للولوج الى عمرة سياسية في الديوان الملكي دون جدوى.

القصة باختصار ليست قصة تصريح سابق للمسكين جورج قرداحي، فتصريحه كان النقطة التي أفاضت الكأس بالنسبة للسعودية. إنّها قصة التذاكي والتشاطر التي يبرع بها اللبناني المؤمن إيماناً راسخاً بنظرية أن «اللبنانية مهنة لا جنسية»، وأكثر من يتقن هذه «اللبنانية» بين الساسة هو «مالك الحزين» الذي تقصّد الإعلان من منبر البطريركية المارونية (وليس من منبر دار الفتوى) بما لها من مكانة لدى قيادة المملكة أن «السعودية قبلته السياسية والدينية».

تذاك فاقد للصلاحية ذاك الذي يصرّ ميقاتي على اعتماده في التعويل مجدداً على ايمانويل ماكرون كي يفتح له أبواب السعودية الموصدة بإحكام بعدما رصدت باهتمام «رباعيات اللهيان» التي أعلنها وزير خارجية ايران في بيروت حول «الحكومة والشعب والجيش والمقاومة»، ويومها جعل عبداللهيان «الحكومة الماكريسية» في مقدمة ثلاثيّة حسن نصرالله الذهبية «الشعب والجيش والمقاومة» دون إبداء ميقاتي أي موقف، واكتفى بتجهم وجهه الذي رصدته الكاميرات، تعبيراً عن ما بعد بعد الحزن.

سقطة ميقاتي الفاقعة، اعتقاده أن ماكرون لا بد أن تؤمن له موطىء قدم في بلاد الحرمين ليتمكن بقدراته المبهرة على تدوير الزوايا والتشاطر من إقناعها بإعادة النظر في قرارها سحب السفراء الذي يبدو وكأنه ليس إلّا رأس جبل الجليد في الإجراءات الخليجية والعربية المرتقبة.

خطوة سحب السفراء، هي نصف سحب للشرعية العربية عن النظام اللبناني لصاحبه حزب الله الذي ثمّن عالياً موقف وزير الإعلام واضعاً فيتو على إقالته أو استقالته، ما يعني عملياً أن لبنان دخل في أزمة خطيرة، تضاعف من أزماته الاقتصادية والمالية والاجتماعية.

خطوة سحب السفراء تزامنت مع عقوبات أميركية مفاجئة على متعهدي أشغال الجمهورية جهاد العرب وداني خوري، ذراعي سعد الحريري وجبران باسيل في محاصصة الفساد والصفقات. وأيضاً على النائب جميل السيد الذي أرجع «العقوبات التي أُعدت على عجل» لملف دعوى يزمع رفعها ضد السفير الاميركي السابق جيفري فيلتمان على خلفية دوره في استمرار سجنه والضباط الأربعة وضد الامم المتحدة طلباً للاعتذار والتعويض.

لكن وجهة نظرنا تقول أن العقوبات على اللواء جميل السيد لم تكن بهدف قطع طريقه الى خلافة نبيه بري في رئاسة مجلس النواب فحسب، بل بوصفه السجّان السابق لسمير جعجع، فهدف العقوبات خاصة توجيه رسالة دعم اميركية لمناصري جعجع الذين استعادوا من خلال استدعاء رئيسهم للتحقيق لدى مخابرات الجيش في اليرزة، تجربة سجنه في ذات مكان التحقيق، فكانت الرسالة الأميركية الواضحة «لا تخافوا».

خطوة سحب السفراء أيضاً، تنسف كل ما بنته ثنائية ماكرون- رئيسي الإقليمية الجديدة، وتخرّب الملعب الإقليمي حيث يسيل لعاب ماكرون لمحاولة ملء فراغ الانسحاب الاميركي من المنطقة، كما وتضع إصلاحات لبنان المستحيلة وانتخاباته الموعودة فضلاً عن مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي في مهب الرياح.

انها الرياح التي يجد لبنان نفسه في قلب أعاصيرها نتيجة تموضعه الخشن بين مطرقة التغوّل الإيراني وسندان الإنكفاء السعودي والخليجي. إنّه الإنفكاء الذي سيكون له تداعيات خطيرة لا تشكل العقوبات الأميركية نقطة في بحر تأثيرها. أمّا عقوبات التهويل بسحب تأشيرات شنغن الفرنسية والاوروبية فلم تعدو كونها مزحة كرتونية.

ما تقدّم، يشي أن لبنان ماض نتيجة سحب السفراء وتداعياتها التي لم تبدأ بعد الى عزلة غير مسبوقة، لن تبدّدها استقالة القرداحي ولا حتى استقالة «مالك الحزين» وحكومته، ولا أيضاً استقالة ميشال عون الذي لا يعرف قاموسه الإستقالة إلّا تحت هدير الطائرات.

عزلة لن يفك شيفرتها إلا تغيير جوهري وبنيوي في نسق توازن القوى المهيمن على لبنان، وبدونه عبثاً يحاول المتوهمون. فواهم من يعتقد أن تغيير توازن القوى يكون عبر تغيير نتائج الإنتخابات النيابية وتأمين أكثرية نيابية جديدة، فقد كانت هذه الأكثرية موجودة وجرى ترضيخها وإخضاعها بالأمس بالسلاح الأصفر والقمصان السود، ويجري تهديدها وترهيبها استباقياً اليوم بالصهاريج المعزّزة بـ 100 ألف مقاتل..