IMLebanon

إدارة الظهر للمملكة خطيئة ميقاتي

كتبت رلى موفق في “اللواء”:

أدار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الظهر للمملكة العربية السعودية وشكّل الحكومة من دون غطائها السياسي، معولاً على كل من واشنطن وباريس في عملية اخضاع الرياض لمد يد العون للدولة اللبنانية التي يمسك «حزب الله» بقرارها في كل صغيرة وكبيرة، والذي دأب الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في الظهور الاعلامي في صورة «مرشد الجمهورية» لإعطاء توجيهاته وتعليماته وأوامره في كل ملف داخلي، فضلاً عن المهمة الموكل بها كناطق رسمي باسم «محور إيران» ومنسق شؤونه.

ميقاتي سبق أن فعل ذلك في العام 2011، وتولى الحكومة من موقع المنقلب على سعد الحريري الذي أطاح بحكومته تحالف حزب الله- ميشال عون فيما كان الرجل مجتمعاً بالرئيس الأميركي باراك أوباما في «البيت الأبيض». لتلك الواقعة سرديتها، ولكنه منذ ذلك الزمن المعطوف على مفاعيل «غزوة بيروت والجبل في 7 أيار 2008 وما تلاها في «اتفاق الدوحة» ولبنان يرزح تحت وطأة الاختلال في التوازنات السياسية في البلاد، حتى الرهانات بأن التسوية الرئاسية عام 2016 ستعيد قدراً من التوازن مع إخراج رئيس الجمهورية من الحضن الإيراني إلى حيز الوسط، سرعان ما باءت بالفشل وظهر كم كانت رهانات خاطئة آلت إلى مزيد من الاختلال السياسي وفتحت الباب أمام توغل الحزب في مفاصل الدولة وإطباقاً أكبر على قرارها من بوابة قانون انتخابات على أساس النسبية جرى تفصيله لتحقيق هذا الهدف.

صحيح أن ميقاتي في حكومته الثالثة حظي بمباركة المرجعية السنية الدينية والسياسية اللبنانية خلاف حكومته الثانية، إلا انه أتى على أنقاض حال من التشظي والشرذمة والتهميش والتطاول الذي أصاب موقع الرئاسة الثالثة ولاسيما في العهد الحالي، وفي ظل الاتيان بحسان دياب رئيساً للحكومة. بدا أن هاجس مرجعية دار الفتوى وحتى رؤساء الحكومات السابقين أولاً إخراج الموقع السني الأول في البلاد من دائرة الاضعاف الممنهج مع انسداد أفق العلاقة بين رئيس الجمهورية وصهره وبين الحريري. نُظر إلى ميقاتي على أنه أفضل الممكن وهو الذي كان من وراء الستارة يحيك خيوط علاقاته الإقليمية والدولية ولاسيما الأردنية والفرنسية تحضيراً لارتداء ثوب رئيس حكومة لمرة ثالثة.

يسر أحد المستشارين السابقين لميقاتي أن العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني طرح اسم ميقاتي خلال لقائه الرئيس الأميركي جو بايدن وأن ميقاتي كان على تواصل دائم مع قصر الإليزيه، وكان تكليف السفير مصطفى أديب من خياطته كمن يحجز مقعده لاحقاً. يدرك رئيس الحكومة أن زيارة وزير الخارجية الفرنسية إلى الرياض باءت بالفشل في فتح أبواب السعودية أمامه بعد تكليفه، وأن حكومته تشكلت في لحظة تقاطع فرنسي- أميركي- إيراني، وأنه اتكأ على إيمانويل ماكرون في إخراجها إلى حيز النور من دون الأخذ بالاعتبار تداعيات تجاهل الرياض التي يُعول عليها في أي دور انقاذي للبنان المنهار مالياً واقتصادياً سواء من بوابة صندوق النقد الدولي أو مؤتمر «سيدر» وغيرها من المؤتمرات التي جهد الرئيس الفرنسي لعقدها.

من هنا، لا يعود البحث عن أسباب المأزق الحالي لميقاتي وحكومته يحتاج إلى كثير عناء. فالأزمة مع المملكة كانت على الدوام حاضرة وإن بصمت، والعلاقات اللبنانية – السعودية هي في القاع منذ حين. فقد دُق جرس الإنذار أكثر من مرة، وارتفع منسوب التدهور مع «حرب المخدرات» التي شنت على المملكة من لبنان والتي يتم اتهام الحزب بالوقوف وراءها، في وقت تتقاعس أجهزة الدولة عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها في المراقبة الجدية لحركة التصدير عبر المرافق اللبنانية براً وبحراً وجواً.

وليست كلمة تقاعس سوى كلمة ملطفة بديلة لكلمة تواطؤ، ذلك أن ثمة اقتناعاً لدى العديد من المتابعين أن لبنان الدولة أصبح جزءاً من «لبنان الدويلة» ويعمل لصالحها أو على إيقاعها وانفاذاً لأجندتها، وأن شاغلي المناصب الوزارية لا يفقهون متطلبات هذه المواقع والمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن قماشة المسؤولين في ادارات الرسمية ليست قماشة رجالات دولة ولاسيما بعدما بات منطق الاستئثار الحزبي والمحاصصة الفاقعة هي السائدة دون مراعاة الكفاءة واعداد الكوادر الادارية ومفهوم الانتماء للدولة. ومع التحالف القائم بين المليشيا والطبقة السياسية الحاكمة وغياب معايير الدستور والقانون، يصبح طبيعياً ان تتراكم الأزمات الناشئة عن الفساد والفلتان وعن فائض قوة السلاح وعن الترهيب والقتل والهيمنة على الدولة في مجمل قراراتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية.

في لحظة الحقيقة التي تقول إن الرياض نفد صبرها، يقف رئيس الحكومة عاجزاً، وهو أمر متوقع. كلام وزير الاعلام لم يكن سوى النقطة التي فاضت عن الكأس. ولو لم تحصل واقعة قرداحي كان سيكون هناك واقعة ثانية في يوم آخر، وهو ما حصل بالفعل مع الكلام المُسرب لوزير الخارجية السفير عبدالله بوحبيب خلال لقاء مع مجموعة من ممثلي الصحف العربية، كان معداً للنشر وعدل عنه بعد تفاقم أزمة قرداحي. وليس ببعيد أن تطل أزمة جديدة غداً أو بعد غد.

فأزمة لبنان مع المملكة والتي امتدت لتشمل دولاً خليجية أخرى ما عاد ينفع معها سياسة الترقيع. هذه مسألة مؤكدة يعلمها علم اليقين رئيس الحكومة الذي أطل البارحة محاولاً فتح ثغرة في الجدار السميك داخلياً أولاً ومع المملكة ثانياً. فليست دعوته لقرداحي إلى تحكيم ضميره- أي مطالبته بالاستقالة- ليست سوى مؤشر على عجز داخلي في انتاج حلول دستورية، لجهة الدعوة إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء وطرح مسألة إقالته أو طرح الثقة به في مجلس النواب، ما دام «حزب الله» يعطل انعقاد جلسات المجلس من جهة ويقف خلف وزير الاعلام من جهة ثانية.

يريد ميقاتي أن تكون استقالة قرداحي رسالة حسن نية تماماً كما جاء بيان الخارجية الذي أدان استهداف المملكة بمسيرتين مفخختين، لكن حجم الاختلال السياسي الداخلي واعتبار «حزب الله» أن اتجاه المملكة إلى مقاطعة لبنان هو بمثابة عدوان عليه، لن يسهم في تعبيد الدروب أمام التهدئة، ما سيدفع إلى مزيد من التصلب السعودي والخليجي والذهاب إلى خطوات تصعيدية في المدى القريب، وهو الأمر الذي بات معه موقف ميقاتي حرجاً ولاسيما أنه تبلغ من صندوق النقد الدولي احجام الرياض ودول خليجية أخرى عن المساهمة في أي تمويل للبنان لإخراجه من أزمته المالية.

ثمة خطوات سعودية مقبلة وصلت تفاصيلها إلى رئيس الحكومة في حال لم يبدأ لبنان الرسمي بالمعالجة وفق القواعد السليمة. وقوله «إن «امامنا اجتماعات ولقاءات فاصلة قبل تحديد الكلمة الفصل في كل شأن عقدنا العزم على معالجته بشكل تام» تشكل فسحة ضيقة لحلفائه ورسالة بأن الوقت ينفد وأنه عندئذ لن يكون أمامه سوى الاستقالة التي ستكون في حقيقة الأمر إقراراً بأن تجاهل غياب الغطاء السعودي عن الحكومة ورئيسها كان خطأ.