IMLebanon

الدعارة في لبنان… شهادات وأسرار “التجارة القذرة”

كتب حسين طليس في “الحرة”:

يشكل الواقع السائد في لبنان، من انهيار اقتصادي وأزمة مالية تعصف بالسكان، وسط انتشار كبير للبطالة وإقفال عام للأعمال والاستثمارات في مختلف القطاعات، أكثر البيئات خصوبة لنمو جرائم الاتجار بالبشر وانتشار عصاباتها.

مستغلة فقرا متعدد الجوانب والأوجه، يطال أكثر من 75 في المئة من المجتمع، وفق تقديرات الأمم المتحدة، توسع تلك العصابات اليوم نشاطها في لبنان، وسط تحذيرات من أن يتحول لبنان إلى مقر ومعبر لإحدى أسوأ أنواع الجرائم البشرية، تمثل ثالثة أكبر تجارة إجرامية في العالم، بعد المخدرات والسلاح غير المشروع، حتى أطلق عليها وصف “الرق المعاصر”.

في محاولة لتبيان مدى تأثير الأزمة التي يشهدها لبنان على معظم جوانب الاتجار بالبشر، أجرى موقع “الحرة” سلسلة مقابلات مع حالات سبق أن وقعت ضحية هذه الأعمال الإجرامية، أو لاتزال حتى اليوم، لرصد التغييرات التي طرأت على نشاطات هذه العصابات وأساليب استغلالها للضحايا، والوقوف على مدى انتشار ظواهر الاتجار، التي بدأت تتخذ جوانب أكثر تطرفاً من نشاطات كلاسيكية، سبق أن عرفها لبنان.

في التاسع من أيلول الماضي، ضجت وسائل الإعلام بخبر إحباط الأمن اللبناني عملية بيع طفل سوري الجنسية، وضبط أفراد عصابة مسؤولة عن العملية في مدينة جونية، شمال العاصمة بيروت، أوقف على أثرها 6 أشخاص.

جريمة أعادت التذكير بما كان يشهده لبنان من حوادث مشابهة خلال حقبة الحرب الأهلية، التي دمرت المجتمع اللبناني وشُتت أبناءه، في ظروف مشابهة لما تشهده البلاد حالياً.

لم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها التي يشهدها لبنان خلال أزمته، إذ سبق لمكتب مكافحة الاتجار بالأشخاص، عام 2019، أن أوقف عملية بيع طفل سوري، يبلغ من العمر نحو ثلاث سنوات مقابل 8 آلاف دولار أميركي. كما ضجت البلاد، خلال شهر أيلول من العام ذاته، أيضاً بفضيحة بيع أطفال تنفذها إحدى الجمعيات الدينية الموكلة بحمايتهم.

وما بين الحادثتين، رصدت تقارير إعلامية عدة حالات يعرض فيها الأهل أولادهم للبيع، لأسباب مادية، بعد عجزهم عن تأمين معيشتهم ومصروفهم وسط الغلاء الفاحش في البلاد.

كما تنتشر بشكل واسع ظاهرة تخلي الأهل عن أطفالهم، ورميهم في الشوارع وحاويات القمامة والمساجد وأمام الجمعيات الخيرية، وبلغت ذروتها خلال الأشهر الماضية، خصوصا مطلع أيلول 2021، حيث سجلت ثلاث حالات في أسبوع واحد في مناطق لبنانية مختلفة.

ومن تجارة الأطفال إلى توريط القاصرين، ومن استدراج الفتيات إلى استغلال أفراد العائلة وتشغيلهم، وصولاً إلى خدمات “الدليفري” و”الدعارة أونلاين” عبر التطبيقات، وليس انتهاء عند المزادات العلنية على البكارة وتأمين طلبات “الجنس الجماعي”.

كلها تفاصيل من اعترافات أدلى بها عشرات الموقوفين لدى مكتب مكافحة الاتجار بالبشر وحماية الآداب خلال الشهرين الماضيين، وذلك بعد ارتفاع كبير في حجم التوقيفات مؤخراً، تشير بالمقابل إلى نسبة انتشار هذه الجريمة على كافة الأراضي اللبنانية.

بتاريخ السادس عشر من تشرين الأول الماضي، كان لافتاً خبر توقيف عصابة اتجار بالبشر تجبر عدداً من الفتيات السوريات على العمل بالدعارة قسراً.

ما أظهرته تحقيقات الشرطة القضائية بشأن هذه العصابة، يمثل نموذجاً كلاسيكياً لأسلوب عمل عصابات الاتجار بالبشر في لبنان، بالأخص في الشق المتعلق بالاستغلال في مجال الدعارة. ستة موقوفين بينهم ثلاثة شبان، لكل منهم دور يلعبه.

الأول: ويدعى “فضل”، يسهل أعمال دعارة لعدد من الفتيات السوريات اللواتي يعملن لصالح القواد “أبو شاكر”، وهو شخصية مجهولة الهوية بالنسبة لقوى الأمن.

يتواصل “فضل” مع “أبو شاكر” عبر أرقام هواتف محمولة تتغير كل مرة، فيما تنصب مهمته على استدراج الفتيات من مناطق مختلفة في سوريا إلى لبنان، تحت ذرائع ومزاعم عدة، من أجل استغلالهن وضمهن إلى الشبكة، التي يتغير عدد العاملات فيها “بشكل موسمي”.

أما الثاني، ويدعى “علاء”، أظهرت تحقيقات قوى الأمن أن مهمته في العصابة، كانت تأمين سائقين لاصطحاب الفتيات إلى المواقع التي يوجد فيها الزبائن، فنادق أو شاليهات أو منازل، ومحاسبتهم على عملية التوصيل، ثم تقاسم الأموال المحصلة من الزبائن بنسبة ربع للفتاة، والربع الثاني له، فيما يذهب النصف الباقي إلى ”أبو شاكر”.

أما الشاب الثالث، ويدعى “راغب”، كان يستلم جوازات سفر الفتيات السوريات لدى وصولهن إلى لبنان، ويحتجزها طيلة فترة إقامتهن، منعاً لهروبهن، كما أنه يؤمن عددا من الزبائن للفتيات، ويساهم في تسهيل أعمالهن.

من ناحية الفتيات، أظهرت التحقيقات أن اثنتين منهن أجبرتا على أعمال الدعارة، بعد أن استغل المدعو “فضل” حاجتهما للمال وللمأوى لدى مجيئهما إلى لبنان، بحثا عن فرص عمل، كما أقرتا بأنهما كانتا تتعرضان للتعنيف اللفظي والجسدي في كل مرة كانتا ترفضان ملاقاة الزبائن، وممارسة الجنس معهم.

أما الفتاة الثالثة، فقد أشارت في اعترافاتها إلى أن “طليقها هو من أرغمها على ممارسة الدعارة بعد أن تزوجها وهي في الخامسة عشرة من عمرها بعد وفاة والديها، ورغبة عمها، ولي أمرها، بالتخلص منها بحجة أنه غير قادر على تحمّل مصاريفها”، وفيما ادعى طليقها، حين تزوجها، أنه يتريث في ممارسة الجنس معها حتى نضوجها لمفهوم العلاقة الجنسية، تبين للفتاة أنه أقام “مزادا على غشاء بكارتها” فاز فيه مَن دفع الأجر الأعلى، وأنها لا تعلم كم بلغ هذا الأجر.

ولا يقتصر نموذج “أبو شاكر” على عمل عصابات الاتجار بالبشر في لبنان وحسب، وإنما تعكس القضية أسلوب تعامل السلطات اللبنانية مع قضايا من هذا النوع، حيث ظن القضاء اللبناني في قراره بالرجال الثلاثة بارتكاب جناية، فيما اتهمت النساء الثلاث بارتكاب جنحة، وذلك بدلاً من أن يتم التعامل معهن على أنهن ضحايا لتلك العصابة، وفق ما أظهرت التحقيقات.

ما ورد في قصة تلك العصابة، لم يأت غريباً عن القصص التي اطلع عليها موقع “الحرة”، إذ لا تزال “فتون” تعيش فصول تجربة مشابهة لم تنته بعد، روت تفاصيلها لموقع “الحرة”، مقدمة معلومات جديدة عن الدعارة في زمن الأزمة.

“الأسعار أرخص بكثير”، تؤكد “فتون”، فالانهيار المالي الذي ضرب القدرة الشرائية للبنانيين، انعكس تدنياً في المقابل المدفوع للخدمات الجنسية المقدمة من جهة، وانخفاضاً في الحصة التي تخصصها العصابات نفسها لضحاياها من جهة أخرى.

وبدلاً من 1500 دولار كانت تتلقاها “فتون” كأجر شهري قبل الأزمة، باتت اليوم تتلقى من “مشغليها” 400 دولار فقط، فيما انخفضت “تسعيرة الخدمات” التي يدفعها الزبون، من 100 دولار (في الساعة) بالحد الأدنى قبل الأزمة، إلى مليون ليرة (تساوي اليوم نحو 40 دولار) “في حال كان الزبون لبنانياً”، أما إن كان سائحاً أو أجنبياً فإن التسعير يصبح بالدولار، ولكن بمستويات أدنى من السابق.

ترى “فتون” أنها تنخرط اليوم في هذا المجال “بإرادتها”، بعكس المرة الأولى التي جاءت فيها إلى لبنان، حيث جرى إيهامها بأنها ستعمل في مصبغة للملابس في بيروت.

تروي كيف جرى استغلالها في المرة الأولى عام 2015، “على مدى أسبوع لم أكن أعلم ما الذي يجري”، وتضيف “ظننت أني بانتظار البدء في العمل، وأوهمني صاحب المنزل الذي وصلت إليه أنه صاحب المصلحة، وأخذ يحدثني عن العمل، وحين طمأنت عائلتي إلى وصولي ومصيري على أيام متواصلة، جاءت مرحلة سحب الهاتف الخلوي مني”.

نُقلت “فتون” إلى منزل آخر يضم أربع فتيات أخريات، حيث سحبت منهم كافة الهواتف، “إلا واحدة كانت تعمل مع العصابة من قبل، عاشت بيننا لمراقبتنا فيما تناوب شابان على حراسة المكان والتواصل معها في حالات الطوارئ التي كانت تتمرد فيها الفتيات، خاصة بعد معرفتنا بطبيعة العمل المحضر لنا، حيث كانا يحضران لتهديدنا وتعنيفنا لفظياً إلى أن نخاف ونهدأ”.

رفضت “فتون” الذهاب إلى أول زبون، فتعرضت لضرب مبرح جرى خلاله تصويرها عارية، وتهديدها بإرسال هذه الصور إلى أهلها وفضحها، “كان هذا السيناريو أصعب بالنسبة لي من أي شيء آخر قد يجري”، وتقول: “أن يرسلوا الصور إلى أهلي يعني أن أحرم من العودة إلى سوريا وقريتي طيلة حياتي، هذا إن لم يقم أحد أفراد عائلتي بذبحي”. وتحت هذا الضغط والتهديد بدأت “فتون” رحلة استغلالها.

عام 2018، وبعد ثلاث سنوات، تآلفت فيها “فتون” مع العصابة وطبيعة عملها، واطمأنوا لها، ذهبت إلى سوريا في زيارة لوالدها المريض، بموافقة استثنائية من العصابة، وتحت تهديد تسريب الصور وملاحقتها في حال أخلّت بالاتفاق على العودة، أو أبلغت السلطات عنهم. لم تعد “فتون” إلى لبنان، وخططت للهرب عبر تركيا إلى أوروبا، لكن الخطة لم تنجح، فيما العصابة لم تفضح أمرها بعكس التهديدات.

“مطلع عام 2020، كانت الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية في سوريا تزداد سوءاً، قررت العودة إلى لبنان”، تضيف “فتون”، التي تواصلت مع أحد أفراد العصابة، كان قد توقف عن العمل معهم، “كان الوحيد الذي تواصل معي طيلة تلك الفترة مطمئناً لا أكثر، سألته عن عمل في لبنان، ليتبين أنه يعمل لصالحه الشخصي ضمن نطاق منطقة الحمرا في بيروت”.

“هذه المرة عدت إلى العمل بقرار مني”، تتابع “فتون”، على الرغم من تأكيدها أن عثورها على عمل آخر كان سيجنبها هذا الخيار. وبدفع سببه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، تستمر بهذا العمل حتى اليوم.

تستهدف العصابة الجديدة التي تتعامل معها “فتون” فنادق منطقة الحمرا، فيردان، والكورنيش البحري (عين المريسة – المنارة – الروشة) حيث تؤمّن للزبائن خدمة التوصيل “دليفري” للفتيات، بعد التواصل معهم عبر تطبيق “واتساب” أو “تيليغرام” على رقم محدد للعمل.

تؤكد أن مرحلة انتشار جائحة كورونا، حملت ازدهاراً لأعمال الشبكة، حيث ازداد الطلب على “الدليفري” ولاسيما إلى الفنادق والشاليهات التي ارتفعت نسبة ارتيادها خلال فترات الحجر الصحي. وكانت ترتفع التسعيرة خلال الإغلاق العام الذي كانت تحدده الدولة اللبنانية، بسبب صعوبات التنقل.

لم تلتزم “فتون” بأي معايير صحية أو وقائية طيلة تلك الفترة، “على العكس، كان الشباب يحضرون مزيداً من الزبائن المجبرين على الإقامة في الفنادق، كإجراء احترازي متبع من قبل الدولة اللبنانية للواصلين عبر مطار بيروت، أجانب ولبنانيين، كنا مجبرين على تلبيتهم دون أي اعتبار للمخاطرة الصحية، وبالفعل أصبنا في إحدى المرات أنا وأربع فتيات غيري بكورونا ومرت على خير”.

هذه المرحلة حملت تحولاً كبيرا في حياة “صفية” (اسم مستعار) البالغة من العمر 21 عاماً، حيث قررت بعد إصابتها بفيروس كورونا بسبب طبيعة عملها في الدعارة، نقطة تحول في حياتها دفعتها إلى الهروب من العصابة التي استغلتها لفترة طويلة، واللجوء إلى إحدى الجمعيات اللبنانية المعنية بالحماية، حيث تعيش اليوم في ملجأ سري وآمن تابع للجمعية، بانتظار سفرها من لبنان.

بدأت رحلة استغلال “صفية” منذ طفولتها، وذلك بعد أن تخلت عنها والدتها في سوريا، ولجأت إلى أوروبا، عقب طلاقها عام 2012، ولم يكن لـ “صفية” إلا خالتها الوحيدة بعد وفاة جدتها في سوريا، حيث نزحت معها إلى لبنان بعدما تعرفت إلى زوجها الذي يعيش في منطقة “البداوي” بطرابلس.

زواج الخالة همّش الطفلة، التي باتت تعاني نقصاً في الرعاية والاهتمام، بلغ ذروته في إحدى الليالي التي اقترح فيها زوج الخالة أن تتخلى “صفية” عن دراستها وتبدأ بالعمل.

وتقول: “كنتُ لا أزال طفلة في حينها، وبدأ في تلك الليلة يخبرني زوج خالتي عن معاناتهم المادية، وعن ضرورة العمل وإنتاج المال في الحياة، مقللاً من شأن الدراسة والحياة في مدينة طرابلس، وأكد أنه سيساعدني في العثور على عمل في بيروت على أن أعود وأزورهم فيما بعد”.

انتقلت “صفية” إلى منطقة محيطة بمخيم “شاتيلا” بمرافقة زوج خالتها، حيث أودعها في منزل يضم ثلاث سيدات ونحو سبعة أطفال، “في الليلة نفسها جاء رجل ليخبرنا أننا كسوريين في لبنان سنموت من الجوع إن لم نعمل وننتج أموالاً بأي طريقة كانت، وأوهمنا أنه يعتني بنا من خلال مردود هذا العمل، متحدثا عن أن الفقر والتسول ليس عيباً ومن دونه لا مكان لنا إلا الشارع، ولكوني كنت أكبر من باقي الأطفال وعدني أنه سيؤمّن لي عملاً بمجال الخياطة، شرط أن أبدأ بالتسول إلى ذلك الحين”.

أمضت “صفية” سنتين من عمرها تعمل في التسول المقنّع، ببيع الورود أو المناديل الورقية أو العلكة. وتقول: “لم أكن أعرف من بيروت إلا شارع الحمرا وتفرعاته، والطريق إلى المنزل، وكل ما عدا ذلك غامض يحمل لي مجهولاً أكثر سوءاً، كل ما نحصله من أموال ندفعه لصاحب المنزل، ونحصل لنا قليلاً من المال الإضافي الذي نخفيه عنه”.

طالت قصة معاناة “صفية” مع التسول حتى عام 2019، حين اقترب منها سائح عربي الجنسية في شارع الحمرا محاولاً إقناعها بمرافقته إلى الفندق، “لم أكن أفهم ما يطلبه الرجل، استمريت بطلب المال منه واستمر بدعوتي إلى الفندق للحصول على المال، بعدما فقد الأمل مني مشى، فاقترب مني الشاب الذي يراقبنا في الشارع ويؤمن حمايتنا، سألني عما جرى فأخبرته، فتوجه إليه وأخذ يتحدث معه”.

عاد الشاب إلى “صفية” وطلب منها أن ترافق الرجل إلى الفندق، “قال لي حينها: ‘لقد تمت ترقيتك، رافقيه إلى الفندق وافعلي ما يطلبه منك فقط’، ليتضح فيما بعد أنهم اتفقوا على عدم ممارسة الجنس معي، بل مجرد مداعبات كنت خلالها مصدومة وخجولة مما يجري، ونفذت فقط ما طلبه، حيث أعطاني بعض المال وأكد أنه دفع الأجرة اللازمة للشاب”.

“الترقية” التي حصلت عليها “صفية” حملت استغلالا جديداً لأنوثتها هذه المرة بعدما كانت طفولتها الضحية. ظروف العمل كانت أصعب، والتعامل مع العصابة الجديدة ومتطلباتها وطبيعة عملها كانت قاسية على “صفية”، حيث لم تكمل سنة من العمل بين الفنادق والبيوت حسب الطلب، إلى أن أصيبت بفيروس كورونا عام 2020.

“لم أحصل على أي عناية أو اهتمام، وجدت نفسي وحيدة في غرفة معزولة، أراجع فيها شريط حياتي وقراراتي ومستقبلي، وأدركت أنني إن لم أخرج اليوم من هذه الحلقة سأعلق فيها طيلة حياتي”، تقول صفية، التي تذكرت حينها شابة كانت قد عرضت عليها المساعدة إبان فترة التسول عبر اللجوء إلى الجمعية التي تعمل فيها، وبالفعل تواصلت معها، حيث أمنت لها هروباً آمناً إلى الجمعية، وقدمت أوراق لجوئها إلى خارج لبنان.

تظهر القصص المعروضة سابقاً، ونتائج تحقيقات الأجهزة الأمنية، كيف تستغل عصابات الاتجار بالبشر أكثر أفراد المجتمع ضعفاً للإيقاع بهم واستغلالهم، وهو ما تؤكده رئيسة الشؤون القانونية والمناصرة في قسم مناهضة الاتجار بالبشر في منظمة “كفى”، موهانا إسحق، التي تشير في حديثها لموقع “الحرة” أن “أبرز العوامل المسهلة لعمليات الاتجار هو الفقر والوضع الاقتصادي العام والخاص للضحية وعائلتها”.

حتى النساء اللواتي يعمل بالدعارة بإرادتهن، بالنسبة إلى إسحق، يتم استغلالهن، “لأنه ما من أحد يدخل عالم الدعارة والاستغلال بإرادته تماماً دون ضغوط وحاجات مسبوقة بتزويج مبكر أو انتهاكات جنسية في الغالب، خاصة أنه عالم عنيف ضد النساء لا سيما اللواتي يعانين من ظروف هشة”.

وتضيف إسحق، على ما سبق، عوامل النزاعات والحروب والفلتان الأمني، التي من شأنها أن تفرز فئات أكثر ضعفاً في المجتمع وتضعهم في مهب الخداع والاستغلال، “لذلك نرى أن عصابات الاتجار بالبشر ازدادت نشاطا بشكل كبير بعد النزوح السوري إلى لبنان، وما خلّفه من فقر وتفكك اجتماعي وعائلي، وفقدان للأمان الشخصي، كان عنصرا مسهلا للاتجار بالبشر والإيقاع بالضحايا”.

وبحسب أرقام وإحصاءات للمديرية العامة للأمن العام، فإن عدد النساء السوريات اللواتي قبض عليهن بتهمة العمل في الجنس، بين عامي 2011 و2018، مرتفع جداً. فشكلن نسبة 30 في المئة من الموقوفات. ليصل هذا الرقم إلى 69 في المئة بعد سنتين فقط، ثم 77 في المئة عام 2015، وبلغ 57 في المئة عام 2018.

وبحسب دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة المختص بالمخدرات والجريمة الدولية في بيروت، بالتعاون مع وزارة العدل اللبنانية، فإن عدداً كبيراً جداً من ضحايا الاتجار بالبشر والإجبار على العمل الجنسي في لبنان، يأتي من بلادٍ فقيرة هارباتٍ من البؤس، على أساس أنهن سيعملن كراقصات أو عارضات أزياء، مقابل مبلغ لا يمكن أن يجمعنه في بلادهن. ويوقعن على عقود عمل مكتوبة باللغة العربية دون أن يفهمن مضمونها.

وإذا كان الحال كذلك قبل الأزمة الاقتصادية، تقول إسحق إن “وقوع نحو 70 في المئة من المجتمع اللبناني تحت خط الفقر، يؤكد أن الحال اليوم أكثر سوءاً والاتجار بالبشر في ازدياد أكبر، لاسيما في ظل الفساد المنتشر في لبنان الذي ينعكس تراخياً في إجراءات المكافحة المتعبة وتطبيق القوانين”.

لا تملك إسحق اليوم أرقاماً تعبر عن الواقع اللبناني لناحية الاتجار بالبشر ومدى ازدياد حالاته في زمن الأزمة، إنما تعتمد على المؤشرات المتوفرة للبناء عليها، مؤكدة أن “الصورة الحقيقية من الصعب جداً نقلها كاملة، أولا: بسبب صعوبة الوصول إلى هذه المجتمعات واختراقها، وثانياً: بسبب نوعية هذه الجرائم التي لا يمكن تسجيلها دون كشفها، وبالتالي الأرقام تشير فقط إلى ما تكشف وليس للواقع القائم. فهي تسمى جرائم مستترة”.

وتشدد إسحق في هذا السياق على ضرورة عدم تغييب قضية العاملات الأجنبيات في المنازل، اللواتي يخضعن في لبنان إلى نظام الكفالة، الذي يعتبر أبرز المسهلات لوقوع العاملات ضحايا للاتجار بالبشر، “خاصة في ظل الأوضاع الحالية التي يحرمن فيها من أجورهن ويحتجزن في المنازل ويمنعن من السفر بحجة الأوضاع الاقتصادية والانهيار المالي”.

وتختم مؤكدة أن وقف الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي في لبنان هو قضية دولة، “أولا: يجب العمل بالشق الأمني على ضبط الشبكات والعمليات الاستباقية والوقائية، وعلى الدولة تأمين الحد الأدنى من الرعاية الاجتماعية وتحسين الظروف الاقتصادية من أجل منع الوصول إلى الهشاشة التي تؤدي بالضحايا إلى الاستغلال. إضافة إلى إطلاق حملات توعية حقيقية ومجدية للتنبيه إلى مخاطر الاستغلال وأساليب استدراج الضحايا”.

ولمن تواجه مثل هذه الجرائم، يمكنها الاستعانة بالخط الساخن لجمعية “كفى” (76090910) التي تملك مأوى سري لضحايا الاتجار بالبشر.

تأتي هذه الرهانات على الدولة اللبنانية وأجهزتها فيما تعاني كافة المؤسسات فيها من عجز واهتراء بفعل تداعيات الأزمة الاقتصادية، حيث تراجعت قدرات الأجهزة الأمنية ومخصصاتها، الأمر الذي حد من قدراتها ونشاطاتها، وهذا ما يؤثر حكماً على مكافحة الاتجار بالبشر كما غيرها من الجرائم.

وبحسب شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي هناك جدية وجهد كبير جداً يبذل على صعيد مكافحة الاتجار بالبشر، إن كان من ناحية التدريبات أو الملاحقة والتوقيفات، لكن المشكلة اليوم أن انتشار هذه الجرائم يأتي في وقت تعاني القوى الأمنية من ضغط كبير جدا نظرا لظروف البلاد، حيث أن الأزمات وتأثيراتها على الأجهزة الأمنية تخلق صعوبات، “ولكن هذا لا يثنينا عن مكافحة الاتجار بالبشر كما نكافح أي جريمة أخرى على مستوى لبنان ومستمرين بدورنا على هذا الصعيد”، تقول إسحق.

وتؤكد أن “مكافحة الاتجار بالبشر تعطى أولوية خاصة، لكونها تمس بالفئات الأكثر ضعفا في المجتمع وتستهدفها بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية لكون الاتجار بالبشر عادة ما يكون مدخلاً إلى أعمال إجرامية من أنواع مختلفة كالمخدرات والعنف”.

ومع ذلك، لا تملك القوى الأمنية أرقاماً واضحة، وخاصة بحالات الاتجار بالبشر في لبنان، وليس هناك إحصاءات يمكن تحليلها لتبيان مدى انتشار وتطور هذه الأعمال الجرمية خلال السنوات الماضية، على الرغم من أهمية هذه الأرقام والنتائج في سياق أي خطة لمكافحة الاتجار بالبشر.

وبحسب إحصاءات سابقة لقوى الأمن الداخلي، بلغ عدد ضحايا الاتجار بالبشر، عام 2015، 19 شخصاً، ليرتفع إلى 87، عام 2016، ثم انخفض إلى 54، عام 2017.

أما اليوم فليس لدى قوى الأمن سوى أرقام التوقيفات المسجلة لديها، التي يمكن البناء عليها لمقارنة حجم التوقيفات على مدى السنوات الماضية وتبيان مدى ازديادها.

ووفقاً للأرقام، التي قدمتها قوى الأمن لموقع “الحرة”، فقد سجلت عام 2020 توقيف 92 شخصاً بتهمة ممارسة الدعارة، و38 بتهمة تسهيلها (مشغلين)، فيما سجل توقيف سبعة أشخاص بتهمة الاتجار بالأشخاص، حالة واحدة لتهريب البشر.

في المقابل سجل عام 2021، حتى نهاية شهر آب، 11 توقيفاً بتهمة الاتجار بالأشخاص، و55 بتهمة ممارسة الدعارة، و46 توقيفاً بتهمة تسهيل الدعارة، إضافة إلى حالة توقيف واحدة تتعلق بتهريب أشخاص.

تبقى هذه الأرقام محصورة في دلالاتها على حجم التوقيفات فحسب، وليس حجم انتشار الاتجار بالبشر في لبنان، وفي هذا السياق، تؤكد قوى الأمن أن الأوضاع الراهنة والانهيار الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية زادت من جرائم الاتجار بالبشر في لبنان، حتى أن أزمة النزوح السوري إلى لبنان رفعت نسبة هذه الجرائم بشكل كبير منذ العام 2011 حتى اليوم.

تؤكد شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن أن “مكافحة الاتجار بالبشر دخلت ضمن تدريبات قوى الأمن الداخلي وتحضير عناصرها، حيث تلقى حوالي 2000 عنصر من مختلف الرتب، تدريبات على أسلوب التعامل مع جرائم الاتجار بالبشر والتعاطي مع ضحاياه، لا سيما من هم على تماس مباشر مع هذه الحالات في غرف التحقيق والجهات التي تعمل بشكل خاص على مكافحة هذه الجرائم”.

وتنوه الشعبة إلى أن القانون الصادر عام 2011 المتعلق بالاتجار بالبشر، هدفه ليس فقط تجريمها، وإنما أيضاً حماية الضحايا ومساعدتهم من خلال الدعم النفسي والمعنوي والمادي وتأمين حماية من المستغلين”.

وترى أن هناك أيضاً دورا للقضاء في التمييز بين جرائم الدعارة أو الاتجار بالبشر، وتحديدها بشكل واضح من خلال مؤشرات عدة يعتمد عليها، “فمثلاً القانون الصادر عام 2011 سهل كثيراً في إنصاف ضحايا الاتجار بالبشر، فقبله كان ضحايا الاتجار بالبشر في لبنان يعاقبون بدلا من حمايتهم ولا سيما لناحية الاستغلال الجنسي والعمالة القسرية والتسول القسري، وأرسى القانون أيضاً آلية تحقيق معتمدة تساهم في إنصاف الضحايا وإظهار تعرضهم للاستغلال، مع مراعاة حالاتهم النفسية”.

وكان لبنان قد أقر قانون الاتجار بالبشر (رقم 164)، عام 2011، استجابة للضغوط الدولية التي دفعت في هذا الاتجاه، حيث لم يكن يملك أي تشريع قانوني يجرم الاتجار بالبشر، أو يعرف مفهومه على وجه التحديد، فيما كان الضحايا يعاقبون قانونياً على ممارسات مخالفة للقانون كالدعارة والتسول وغيرها دون تسليط الضوء على الاستغلال الذي تعرضوا له.

وينص قانون العام 2011 على أن استغلال أي شخص بالقوة والتهديد على فرض عقوبة السجن ما بين 5 و15 سنة، وغرامة مالية بين 100 و600 ضعف الحد الأدنى للأجور، ويعتبرها القانون جناية.

وتعتبر المادة 586 من القانون أن ​الدعارة ​نوع من أنواع الاتجار بالبشر انطلاقاً من تعريف هذه الجريمة، الذي يتضمن “اجتذاب شخص أو نقله أو استقباله أو احتجازه أو إيجاد مأوى له، بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها، أو الاختطاف أو الخداع، أو استغلال السلطة أو استغلال حالة الضعف، أو إعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا، أو استعمال هذه الوسائل على من له سلطة على شخص آخر، بهدف استغلاله أو تسهيل استغلاله من الغير. ولا يعتدّ بموافقة المجني عليه في حال استعمال أي من الوسائل المبيَّنة أعلاه”.

ورغم التقدم المسجل على الصعيد القانوني، تسجل المنظمات الحقوقية ملاحظات عدة حول بعض فقراته الملتبسة لناحية التعامل مع ضحايا الاتجار بالبشر وحاجاتهم للحماية، وذلك لأن هناك تعارضاً مع مواد قانونية أخرى كالمادة 523 من قانون العقوبات التي لا تزال تساوي بين شبكات الدعارة وضحاياها. وتطرح علامات استفهام حول مدى جدية الدولة اللبنانية في تطبيق القانون وبذل الجهود اللازمة لمكافحة هذه الآفة التاريخية في البلاد.

ولا يزال التقرير السنوي لمراقبة ومكافحة الاتجار بالأشخاص، الصادر عن مكتب وزارة الخارجية الأميركية، يصنف لبنان في المستوى الثاني، وهي البلدان التي لا تلتزم بأدنى المعايير المطلوبة لمكافحة الاتجار بالأشخاص لكنها تبذل جهوداً لتحقيق ذلك، إضافة إلى أن لبنان “لم يقدم خدمات دعم وحماية للضحايا، بل يتكل في ذلك على منظمات غير حكومية، كما أنه لم يبذل جهوداً كبيرة لمحاكمة أو معاقبة مرتكبي جرائم الاتجار”.