IMLebanon

الأساتذة المتعاقدون “أنذروا”: خربانة خربانة…

كتبت نوال نصر في نداء الوطن:

من زمان من زمان كانت القصّة من زمان… ومرّت الأيام، بحلوِها ومرِّها، وما زالت قصة إبريق زيت الجامعة اللبنانية ذاتها. إضراب. مطالبة. مناشدة. فتعليم. فإضراب فمطالبة فمناشدة فعودة عن الإضراب والتعليم. هم أساتذة الجامعة اللبنانية الذين صرخوا بدل المرة مرات: “نحن سفراء التعليم ولسنا قطاع طرق”. لكن، وكما تعلمون، نحن في دولة صماء، عمياء، بكماء عن الحق. نحن في بلادٍ شبابها “منتج يُصدّر” وكهولها “مشاريع موتى”.

تحت عنوان “التفرغ طريق النهوض بالجامعة والوطن” يتحرك الأساتذة المتعاقدون اليوم. هؤلاء يأبون الجلوس وأيديهم تسند وجوههم وبطون أطفالهم خاوية. ولديهم، على ما قالوه، الكثير من الكلام بعد. نسمعهم يكررون حكاية إبريق الزيت في جامعة البلاد الوطنية في وقتٍ تتساقط فيه المؤسسات في البلاد مثل أوراق خريفية بلا حياة. فهل الوقت مناسب اليوم ليحصلوا فيه على ما لم يحصلوا عليه من قبل؟ أليست الأيام اليوم عجافاً والدولة عاجزة مستسلمة فقيرة تعوز حتى ورقة A4 وقلم “البيك” وحتى “وصل” سداد الرسوم السنوية وهو ما يحصل اليوم في مصالح المياه؟ نسمعهم فنحسدهم. هؤلاء ما زالوا يتحصنون بأمل الإستجابة الى مطالبهم. فهل هو أمل حقيقي أم هو حراك الطير المذبوح من الألم؟

يلتقي الأساتذة المتعاقدون يوم الإثنين المقبل مع الإعلام في ندوة عبر منصة Microsoft teams في إطار تفعيل قضية التفرّغ. فماذا لديهم ليقولوه بعد أكثر من كل ما قالوه في أعوام كثيرة؟

نصغي الى دكتور في الفيزياء تعاقد قبل عشرة أعوام مع الجامعة اللبنانية، وما “يلقنه” اليوم لطلابه، لا تزيد قيمته عن 60 ألف ليرة لبنانية (أي ما معدله دولاران ونصف) عن الساعة الواحدة اليوم، سيتقاضاه بعد سنتين على الأقل. ننصت إليه جيداً فنشعر بمقدار الأسى الذي يجتاحه من تنازل الدولة عن تلك الفئة التي يفترض أنها تّعلّم الأجيال. فأي أجيال تكبر مع أساتذة يشعرون بكل هذا القدر من الغبن؟

المتعاقدون على حافة العوز

فلنسمعه. لربما نكون مخطئين ويكون هناك أمل. ولنستعرض في البداية أنواع الاساتذة بين متفرغين ومتعاقدين وفي الملاك. أقل من عشرين في المئة من هؤلاء الأساتذة من المتفرغين وفي الملاك. هؤلاء عادوا عن إضرابهم. ويبقى 80 في المئة من المتعاقدين يرفضون الإنطلاق في التعليم الى حين حصولهم على حقوقهم. هؤلاء المتعاقدون على الساعة خصوصاً منهم من تعلموا 8 سنوات على الأقل ليستحقوا لقب دكتور جامعي في كليات العلوم في الجامعة الوطنية أشبه بثلاثة أرباع طبيب، إذا اعتبرنا ان الطبيب يحتاج الى 10 أعوام وأكثر ليحصل على صفته كطبيب اختصاص. هؤلاء تمسكوا “بوطنيتهم” وبحضورهم هنا وما استحقوه 60 ألف ليرة على الساعة. أتتخيلون حالهم اليوم؟ هؤلاء لا يتقاضون بدل نقل ولا بطاقة صحية (حتى ولو كان من يحصلون عليها اليوم يبلونها ويشربون مياهها) وليس لديهم أي ضمانات من أي نوع. هؤلاء يحسدون اليوم حتى العسكري لأنه يحصل على طبابة ويحسدون السنكري لأنه يطلب “فريش” ويحسدون الشرطي البلدي لأنه يتقاضى بدل نقل. هؤلاء يحكون ويسهبون في الموضوع مؤكدين جازمين أنهم لا يفكرون ماديا لكنهم بلغوا حافة العوز الكبير.

رفاق المتعاقدين عادوا يُدرسون. تركوهم في منتصف الطريق وعادوا. وهم لن يفعلوا ما دام أكبر (وأهم) واحد فيهم يتقاضى إذا عمل دواما كاملا عشرين مليون ليرة سنويا. أحسبوا المبلغ واقسموه على 12 شهرا ثم اقسموه على سعر صرف الدولار في السوق السوداء فتدركوا بأي حال هم.

كل اللبنانيين “بالهوا سوا”. صحيح ذلك. لكن، هناك من هم في ظروف سيئة ومن هم في ظروف أسوأ بكثير. فلندخل معهم أكثر في التفاصيل: “هناك أقل من 1500 أستاذ جامعي في الكليات الوطنية في الملاك أو متفرغين وهناك أكثر من 3000 متعاقد. وهناك شروط ليتفرغ الأستاذ بينها ان يكون تعاقد منذ عامين وعمل 200 ساعة في السنة. الأستاذ الذي “فتح قلبه ووجعه” مضى على وجوده في التعاقد أكثر من عشرة أعوام ويستحق أن يُصبح متفرغاً. هذا حقه مثل كثيرين سواه. لكننا في دولة لا تعرف لا الحق ولا الضمير ولا العدالة.

هؤلاء يتحدثون عن أهمية أن يكون الأستاذ مرتاحاً. طبعا كلمة مرتاح قد تكون “مبهبطة” قليلا في بلد مثل لبنان وظروف لبنان. لكن، كلمة مرتاح في قاموس هؤلاء أن ينالوا حقهم في التفرغ حتى ولو كان المتفرغ، في حال أستاذ فيزياء أو كيمياء، لا تعني أن يتقاضى أكثر من خمسة ملايين ليرة شهريا (أي 150 دولاراً وربما مع صدور العدد يكون المبلغ قد أصبح أقل).

ماذا يعني أن يكون الأستاذ الجامعي مرتاحا؟ معناه أن الأستاذ الذي يعطي “الساعة التعليمية” ويهرع ليعطي أخرى سيتمكن عند تفرغه من قيامه بالأبحاث التي يحتاج إليها طلابه وبمساعدتهم على إنجاز أبحاثهم. هذا على ذمة الأساتذة الذين ينشدون التفرغ.

الأساتذة المتفرغون والأساتذة في الملاك عادوا يعطون دروسهم اليوم “أونلاين” لكنهم لا يمثلون إلا 20 في المئة من عداد الأساتذة. وهذا معناه، بكلام آخر، أن هناك طلاباً يتعلمون وطلاباً لا يتعلمون. وهذا لا يحدث إلا في بلادنا. الأستاذ المتفرغ عاد عن إضرابه لأن دولتنا اعطته بعض فتات مطالبه ووعد بمئتي دولار فريش، كما وعد أساتذة التعليم الثانوي بتسعين دولاراً طازجة ولم يتقاضوا منها حتى اللحظة أي شيء.

فحوصات الـPCR

هنا، يصرّ الأساتذة المتعاقدون على تذكير من نسي، أو من لا يعرف، أن كل نتائج pcr تمر عبر كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، وتتقاضى عنها الدولة 50 دولاراً “فريش” على المطار، تأخذها هي وتحول الى الجامعة المبلغ على أساس 3900 ليرة، وبالتالي لو كنا حقاً في دولة لعملت على تعزيز التعليم في الجامعة اللبنانية من خلال هذا المبلغ فقط الذي تجبيه. تضم الجامعة اللبنانية أيضا كلية الزراعة وكلية السياحة… وبالتالي لن تكون، إذا احسنت الدولة التصرف، عالة عليها. وهناك، لمن لا يعرف 90 ألف طالب في الجامعة اللبنانية وهناك 52 كلية.

أستاذ الفيزياء الذي يتكلم عن وجعه وزملائه يتحدث عن إعطائه 350 ساعة في السنة، وهو العدد الأقصى، وبالتالي ثمة حاجة كبيرة له ولزملائه من المتعاقدين يوازيها “استلشاق” كبير هائل به وبزملائه من دولتنا العزيزة.

وطن مثقل بالأزمات

الأساتذة المتفرغون لديهم رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، لذا ارتأى المتعاقدون أن “يتكوكبوا” ضمن لجنة شكلوها باسم لجنة المتعاقدين في الجامعة اللبنانية، ستعزز حراكها بدءاً من الإثنين المقبل.

الإثنين يكون القطاع التربوي قد دخل في عطلة الأعياد، فهل تتكل الدولة على “النسيان”، على أن ينسى من اعتصموا اليوم ما جزموا به مع تتالي الأحداث التي لا تنتهي في البلاد؟ سؤالٌ آخر، علام يراهن الاساتذة المتعاقدون في تثبيتهم في وقتٍ يكثر فيه الكلام عن فائض في القطاع العام وشروط البنك الدولي في تخفيف الدولة من حملها الثقيل؟ يجيب أحد الاساتذة بالقول: “لا، لن يكون هناك مشكلة مع البنك الدولي في هذا الإطار لأن الأساتذة سيكونون إذا انضووا متعاقدين بالتفرغ، لا في الملاك، ووحدهم من في الملاك يتقاضون معاشات تقاعدية. أما الأستاذ المتفرغ فيحصل على راتب شهري وتغطية صحية وانتساب الى صندوق التعاضد”.

كل من في هذه البلاد يعتبرون أنفسهم “ممسوحين” وبينهم طبعاً الأساتذة المتعاقدون الذين يستعينون في كلامهم بالحديث عن “التطور الياباني” ويسألون؟ “هل تعرفون لماذا هؤلاء متطورين بهذا الشكل؟” وقبل أن نجيب يجيبون: “لأن راتب البروفسور في الجامعة اليابانية أعلى من راتب رئيس الوزراء هناك”. هناك عدالة أما هنا فعشرات الأساتذة المتعاقدين توقفوا عن التعليم بعد عشرين عاماً بلا أي قرش. حتى أنهم لم يتقاضوا حتى اللحظة حقوقهم عن 2020.

كرامة على المحك

راجع هؤلاء الأساتذة رئيس الجامعة اللبنانية الجديد الدكتور بسام بدران ووعدهم خيراً. لكنهم لن يثقوا بأي خير آت قبل أن يلمسوا النتائج لمس التطبيق. والى حين يحصل ذلك، يبقى طلاب الجامعة اللبنانية يدفعون الثمن مرتين: دولة فاشلة وأساتذة يبحثون عن حقوقهم أولا كمن يبحث عن إبرة في كومة قش.

قبل أن نختم يهمس أحد أساتذة الجامعة اللبنانية بالقول: “في كل الأحوال، لن تفتح كليات الجامعة اللبنانية هذه السنة حضورياً ليس بسبب إضراب المتعاقدين فحسب بل لأن لا قرطاسية ولا اقلام ولا قدرة حتى على إشعال المولدات ولا حتى آلات طباعة تعمل. هي خربانة خربانة”.