IMLebanon

محطة لبنانية جديدة على دروب الإيمان في حزيران المقبل

كتبت كارين عبد النور في نداء الوطن:

لا مبالغة في القول أن لبنان بلد الأزمات التي لا تنتهي. لكنه، وفي ذلك عزاء للكثيرين، أرض القديسين أيضاً. فمن شربل ورفقا ونعمة الله إلى اسطفان نعمة ويعقوب الكبوشي وأبونا بشارة، تطويبان جديدان في طريقهما إلينا في واحدة من أصعب المراحل التي يمر بها البلد. رب قائل هنا، على وقع المآسي، أن فجر الخلاص لا بد أن ينبلج بشفاعة قديسي لبنان وطوباوييه. والحال أن بعبدات، إحدى بلدات قضاء المتن الجميلة، على موعد في الرابع من حزيران المقبل مع احتفال تطويب أبوين كبوشيين من أبنائها، ليونار عويس ملكي وتوما صالح. إلى مزيد من التفاصيل.

بداية وللغوص أكثر في سيرة الأبوين، تواصلت “نداء الوطن” مع كل من الأستاذ فارس ملكي، نسيب الأب ليونار وكاتب سيرة حياته واستشهاده المنشورة على موقع الانترنت www.leonardmelki.org، والدكتور عبدالله الملاح، متخصص وباحث في تاريخ لبنان الحديث الذي أمدّنا بمقال نُشر له عام 2019 في العدد التاسع والأربعين من “المجلة الكهنوتية”. ومن هنا ننطلق.

عن مرحلة الطفولة والنشأة

وُلد يوسف (ليونار) عويس ملكي في بعبدات في الأول من تشرين الأول 1881 من حبيب عويس البعبداتي ونورا بو موسي كنعان يمين من بيت شباب. وكان الولد السابع من عائلة مكوّنة من أحد عشر طفلاً، ستة صبيان وخمس بنات، حيث مُنح سرّ العماد المقدس في كنيسة السيدة على يد الخوري يوحنا اللبكي. وتلقى يوسف تربية دينية واجتماعية وفق تقاليد المجتمع اللبناني العائلي والقروي والديني، إذ كان يرافق أهله وإخوته إلى الكنيسة أيام الآحاد والأعياد. في العام 1893، نال سر التثبيت في الكنيسة اللاتينية بدل المارونية لأن بعبدات عانت من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية، لا علاقة لها بالإيمان المسيحي، أدّت إلى انتقال الكثير من العائلات إلى الكنيسة اللاتينية. عاش يوسف عيشة عادية، فيها الكثير من السلام والقناعة، في ظل كفاح أهله الذين لم يُعدّوا من كبار الميسورين في بعبدات، إذ كان لوالده بعض الأراضي يعتاش هو وعائلته من زراعتها صيفاً. كما تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة بعبدات وكان أستاذه الخوري جرجس يعقوب أبي هيلا.

بالانتقال إلى جرجس (توما) صالح، فقد وُلد في بعبدات أيضاً في الثالث من أيار 1879 من حنّا طنوس صالح وأمانة جرجس مرعي. وقد سُمّي جرجس لأن بيت والديه كان يقع على مسافة قريبة جداً من كنيسة مار جرجس الأثرية في بعبدات. وكان الولد الخامس من عائلة مكوّنة من ستة أولاد جميعهم صبيان. وإذ مُنح سرّ العماد المقدّس في كنيسة مار جرجس المارونية، إلا أنه نال سرّ التثبيت في الكنيسة اللاتينية التي انتقلت عائلته إليها، مثله في ذلك مثل يوسف (ليونار). وكان والد جرجس تاجر حبوب عُرف بنزاهته واهتمامه بتربية أولاده تربية مسيحية متماسكة وصالحة. هذا مع العلم أن إخوة جرجس سافروا جميعاً إلى الولايات المتحدة حيث استقروا، ما عدا شقيقه جبرايل الذي عاد إلى بعبدات حيث تزوج ورُزق تسعة أولاد، أحدهم فيليب الذي التحق لاحقاً بالرهبنة الكبوشية تحت إسم “صالح”.

دعوة كهنوتية مشتركة

في العام 1895، قامت مجموعة مؤلفة من خمسة شبان بعبداتيين – من بينهم يوسف عويس ملكي وجرجس صالح – بإعلان رغبتهم في الانضمام إلى الرهبنة الكبوشية. فما كان من الأباء الكبوشيين إلا أن استقبلوهم بكل سرور وراحوا يحضرونهم للالتحاق بإكليريكية الكبوشيين الصغرى في سان ستيفانو، وهي إحدى ضواحي مدينة اسطنبول، وتعليمهم مبادئ اللغة الإيطالية المعتمدة في الإكليريكية قبل إرسالهم إليها. ولبس كل من يوسف وجرجس الثوب الرهباني الكبوشي في الثاني من تموز 1899 بعد أن قرّرا التخلي عن هذا العالم واتباع حياة مكرّسة في الدير. عندها، أُعطي ليوسف إسم ليونار ولجرجس إسم توما. وقد قضيا سنة كاملة في التأمل والصلاة والاطلاع على الروحانيات الفرنسيسكانية التي تقوم على الحياة الأخوية، الفقر، الولاء المطلق للكنيسة والإرادة الصلبة لمطابقة سلوكهما مع تعاليم الإنجيل. وبعد شهر على قيامهما بالنذور البسيطة، غادر ليونار وتوما سان ستيفانو إلى الإكليريكية الكبرى في بودجه قرب إزمير، المسماة “المعهد الشرقي”، حيث أمضيا ست سنوات كاملة من الدراسة. وبعد حصولهما على شهادة “مرسل رسولي”، غادرا المعهد المذكور منهيين بذلك رحلتهما الدراسية في تركيا والتي دامت 12 سنة.

وقبل التحاقهما بمركز تعيينهما في إرسالية أرمينيا وبلاد ما بين النهرين للآباء الكبوشيين، قام الأبوان بزيارة خاطفة إلى بعبدات وما لبثا أن غادرا في رحلة شاقة حتى وصلا إلى مركز الكبوشيين في ماردين التركية حيث كان لهما استقبال شعبي حافل. فوصول اثنين من الرهبان المرسلين يتكلمان العربية في مدينة يتكلم معظم أبنائها هذه اللغة كان له وقعه المحبّب. ومنذ وصولهما، بدأ الأبوان العمل بكل همة ونشاط، إذ ذكر الأب ليونار في التقرير السنوي الذي أرسله إلى الأب العام في روما في السنة الأولى من خدمته ما يلي: “وصلت إلى ماردين بعد رحلة طويلة ومتعبة، وتمكنت من مباشرة خدمتي المقدسة فوراً، بفضل معرفتي اللغة العربية. أوكل إليّ الأب المدبر الجليل القيام بالأعمال التالية: إرشاد الرهبنة الثالثة، إرشاد جمعية “جوقة الشرف للقلب الأقدس”، إدارة مدرستنا الكبيرة وتدريس اللغة الفرنسية والموسيقى… إنني كثير الانشغال ومع ذلك فأنا مسرور جداً وأنعم بصحة جيدة”. أما تقرير الأب توما، فتضمن التالي: “لمّا وصلنا إلى إرسالية ما بين النهرين، التي أرادت العناية الإلهية إرسالنا إليها، وذلك لسعادتنا، اندفعنا للحال وبكل قوانا، للعمل في الرسالة، بخاصة أن اللغة العربية لم تكن مجهولة منا”. إلى أن حلّ العام 1910 حيث أصيب الأب ليونار بصداع مرهق أدّى إلى نقله إلى مركز معمورة العزيز (إحدى ولايات الدولة العثمانية وتقع شرق الأناضول) للراحة، في حين نُقل الأب توما إلى خربوط (في شرق الأناضول أيضاً) في العام 1908 ثم إلى ديار بكر، جنوب شرقي تركيا، في العام نفسه.

الثبات في الإيمان رغم الاضطهاد

عانى الأب ليونار من صداع دائم لم يفارقه خلال مكوثه في معمورة العزيز ما أدّى إلى عدم تمكنه من القيام بخدمته مكتفياً ببعض الأعمال اليدوية كي لا يقع ضحية الملل. في حزيران من العام 1911 أعطي الأب ليونار الإذن للمجيء إلى لبنان وتمضية فترة نقاهة فيه بسبب وضعه الصحي المتدهور. إلا أنها كانت زيارته الأخيرة إلى بعبدات حيث قضى فيها حوالى ستة أشهر استعاد عافيته من بعدها. وقبل عيد الميلاد من السنة نفسها، عاد وانتقل إلى مركز أورفا جنوب شرقي تركيا حيث مكث مدة سنتين ونصف وتسلم إدارة مدرستها، ليعاد تعيينه في ماردين سنة 1914. لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى أثّر سلباً على الإرساليات الكبوشية حيث جوبهت بقسوة من قبل العثمانيين. ففي أحد أيام شهر حزيران 1915، هاجم الجنود الأتراك كنيسة الكبوشيين ووقعوا على دفتر تضمن أسماء المشتركين في أخوية مار فرنسيس، ففهموا بـ”فرنسيس” كلمة “فرنسا” وادّعوا أنها جمعية فرنسية ليصبوا جام غضبهم على رئيسها، الأب ليونار، ويطلبوا منه أن يتبعهم، ففعل. وبدأت مرحلة عذابه التي لم تختلف عن العذابات التي تعرض لها السجناء الآخرون. ومما جاء في روايات الشهود تعرّض الأب للطم ونتف اللحية وجلف الأظافر عن الأصابع والضرب بالسياط والعصي والتعليق منكّس الرأس لساعتين والتعرض لسخرية الجنود الذين كانوا يقولون له: “أدعُ فرنسا لتستعجل في إنقاذك، صح بالراهبة لتأتي وتسلّيك، انتدب أصحابك ليخلصوك”. وفي 11 حزيران 1915، وبعد رحلة من العذاب والتنكيل استمرت سبعة أيام، جرى تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحق المحكومين، ليُسلم الأب ليونار الروح مطعوناً بخنجر في قلبه – كما جاء في تقرير الراهبة الماردينية الأخت مريم الانتقال – وقد صادف تاريخ استشهاده مع تاريخ عيد قلب يسوع الأقدس.

من جهة أخرى، ومع انطلاق شرارة الحرب العالمية الأولى، تمت مصادرة دير ديار بكر حيث كان الأب توما صالح، وطُرد مع جميع رهبان الدير لينتقل إلى دير آخر في مدينة اورفا حيث مكث حتى العام 1917. وفي كانون الثاني من العام نفسه، داهم الجنود الأتراك الدير متهمين الرهبان بتقديم اللجوء إلى أحد الكهنة الأرمن فيه، وساقوهم إلى مدينة أضنة للمحاكمة. لكن الأب توما لم يتمكن من إكمال طريقه بسبب إصابته بمرض التيفوس الذي كان منتشراً بكثرة. لذا، سُجن في مدينة مرعش جنوب تركيا، ليفارق الحياة هناك من جراء مرضه والمعاملة السيئة داخل السجن قبل تنفيذ حكم الإعدام.

رحلة إعلان التطويب

للاستفسار أكثر عن المراحل المختلفة التي مرّت بها رحلة تطويب الأبوين، تحدثنا مع الأخ ماجد موسى الكبوشي، كاهن رعية مار أنطونيوس البادواني – بعبدات. وقد أفادنا بأن فكرة تطويب الأبوين ليونار وتوما بدأت تنضج منذ سبعينات القرن الماضي حيث عمل عليها الأب سليم رزق الله الكبوشي معايناً العذابات والاضطهادات التي تعرّضا لها كما طريقة استشهادهما. إلا أن الحرب اللبنانية عرقلت مسار الملف ليعود ويأخذ مجراه الطبيعي منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة. فقد فُتح التحقيق الأبرشي بدعوى التطويب في 17 شباط 2007، ليليه صدور مرسوم الاعتراف بصحة التحقيق في الأول من تشرين الأول 2012. وبعد موافقة البابا فرنسيس، تمّ نشر مرسوم الاستشهاد في 28 تشرين الأول 2020، إذ أُعلن كل من الشهيدين ليونار عويس ملكي وتوما صالح طوباويين من لبنان. وعن سؤال حول ما إذا كان فعل الاستشهاد كافياً من وجهة نظر الكنيسة لإعلان التطويب، يجيب الأخ موسى بأن إعلان القداسة يحتاج إلى أعجوبة في حين يكفي تثبيت الاستشهاد لإعلان التطويب.

ما هي رمزية التطويب؟ يقول الأخ موسى أن الهدف من إعلان التطويب هو حثّ المؤمنين على عيش تعاليم المسيح كل على طريقته، إضافة إلى كونه رسالة رحمة وعلامة رجاء لتثبيت الإيمان لدى أبناء الكنيسة ودعوتهم إلى السير على خطى الطوباويين.برنامج التطويب في بعبدات

وبالنسبة إلى برنامج الاحتفال بالتطويب والذي سيجري في بعبدات، فسيمتد على مدار تسعة أيام. وتنطلق الاحتفالات يوم السبت في 28 أيار مع مسيرة صلاة وشموع، يليها الأحد تدشين مراحل درب الصليب مع الشهيدين، أما الاثنين فسهرة روحية مع الرهبنة الثالثة للعلمانيين والثلثاء سهرة مريمية. يوم الأربعاء الواقع في الأول من حزيران، سيتم تنظيم سهرة روحية للشباب يتبعها ريسيتال يوم الخميس فسهرة روحية تلفزيونية يوم الجمعة. ويبقى الحدث الأكبر يوم السبت في 4 حزيران، حيث يُحتفل بالتطويب في كنيسة دير الصليب في جل الديب. وقد وقع الاختيار على كنيسة دير الصليب نظراً لضيق ساحات كنائس بعبدات، خاصة وأن الدعوات للمشاركة تشمل شخصيات دينية وسياسية وإعلامية محلية وعالمية. أما ختام البرنامج فيتمثل بقداس الشكر في بعبدات يوم الأحد الواقع في 5 حزيران.

وبحسب الأخ موسى، يبقى البرنامج في الوقت الراهن مبدئياً بسبب احتمال حصول تداعيات على صعيد الوضع الصحي والانتخابات النيابية المقررة هي الأخرى في شهر أيار. على أن يُعاد النظر به ويُقر رسمياً قبل شهر من موعد التطويب.

عسى أن يسكب حدث التطويب قليلاً من البلسم فوق جراح لبنان الموجوع. أما الآن، ليس ثمة أفضل من أن نختم مع كلمات الأب توما صالح: “الحمد والشكر لربّ العالمين الذي بيده الموت والحياة”…