IMLebanon

“حرب الإبادة” مستمرة ضد مرضى السرطان

كتبت ندى أيوب في “الاخبار”:

29 ألفاً يخضعون لعلاج السرطان في لبنان يعانون، منذ نحو عام، من فقدان الأدوية أو تقطّع توافرها في أحسن الأحوال. وزير الصحة فراس أبيض يقرّ بجسامة مشكلةٍ لا يبدو حلّها قريباً. في «الوقت بدل الضائع»، من المرضى تمّكن الموت منهم، وآخرون تتراجع حالتهم الصحية. ما يجري، وفق مصادر طبية، ليس أقلّ من إبادة جماعية.

شخص من كل ثلاثة يصاب بالسرطان في لبنان الذي يسجّل سنوياً 12 ألف إصابة جديدة، وفق آخر إحصاء للسجل الوطني للسرطان، في معدلٍ هو من بين الأعلى عالمياً. حتى عام 2021، قدّر المرصد العالمي للسرطان عدد الحالات التي تخضع للعلاج بنحو 29 ألفاً. فيما هناك 445 دواء معتمداً في بروتوكولات وزارة الصحة لعلاج أنواع السرطان المختلفة، معظمها غير متوافر. من الأدوية المقطوعة، أدوية زرع النخاع العظمي واللوكيميا، وثلاثة أدوية لسرطان البروستات، ومثلها لسرطان الثدي، ودواء لسرطان الرئة… وغيرها.

يتحدّث البروفيسور فادي نصّار، طبيب أمراض السرطان في مستشفى «أوتيل ديو»، عن مأساة يومية تشهدها عيادات الأطباء: «لا مبالغة إذا قلنا إن الناس تموت بسبب غياب الدواء. المرضى فئتان، إحداهما تتلقى العلاج لتتعافى، وأخرى لتطيل أمد الحياة. مرضى الفئة الأولى تتدهور أوضاعهم من الدرجتين الأولى والثانية للمرض إلى الدرجتين الثالثة والرابعة ويصبح من الصعب شفاؤهم بعد أن كانت لديهم حظوظ في ذلك. أما مرضى الفئة الثانية فيسرّع غياب العلاج موتهم».

تحتاج السوق اللبنانية إلى استيراد أدوية سرطان بكلفة 30 مليون دولار شهرياً، بعد موافقة مصرف لبنان على طلبات الشركات المستوردة لكون هذا النوع من الأدوية لا يزال مدعوماً بنسبة 100%. لكن «المركزي» يوفّر «بالكاد» ربع المبلغ المطلوب وفق نصّار، ما جعل مركز الكرنتينا الذي يقصده مرضى وزارة الصحة، خالياً من غالبية الأدوية الأساسية في معظم الأحيان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصيدليات المخصصة لبيعها بالتنسيق مع الشركات المستوردة. بهدف تأمين استمرارية العلاج المطلوبة طبياً لما للتقطّع في تلقيه من آثار على صحة المريض، يقترح نصّار إقرار الجهات الرسمية موازنة سنوية لأدوية السرطان، يوقّع عليها المصرف المركزي ويتعهّد الالتزام بها، «كي يضمن المرضى توافر أدويتهم على مدار السنة، وتحريرهم من البقاء تحت رحمة ما يخصصه المصرف المركزي من مبلغٍ للاستيراد الشهري ومزاجية توقيع الطلبات».

وزير الصحة فراس أبيض يؤكّد أن الشحنات التي تصل لا تكفي لسد جزء بسيط من حاجة المرضى، لكون الدعم المخصص للاستيراد أقل من المطلوب بأضعاف.

فقبل أسابيع، مثلاً، وصلت شحنة دواء نفدت في يوم واحد، وغالباً ما تحتوي الشحنات على أنواعٍ قليلة من الأدوية فقط. لذلك، يلجأ الأطباء، على مضض، إلى استخدام أدوية بديلة غير مضمونة النتائج على قاعدة التجربة. وهذا، بحسب نصّار، «يضرب مبدأ الانتظام في العلاج، ويترك آثاراً على الحالة الصحية للمريض».
لا تقف معاناة مرضى السرطان عند «تقنين« الأدوية، بل تتعدّاها إلى المستشفيات. بحسب شهادات مرضى يخضعون للعلاج الكيميائي، غالبية المستشفيات الكبرى في بيروت تدعي دوماً عدم وجود أسرّة على نفقة وزارة الصحة. ويوضح هاني نصار، رئيس «جمعية بربارة نصار»، إلى أن «تسعيرة نصف يوم لإتمام جلسة العلاج الكيميائي تتفاوت بين 3 و5 ملايين ليرة بين مستشفى وآخر من دون ثمن الدواء». فبعض المستشفيات، خلافاً للقانون، حددت تسعيرة تلك «الخدمة» بالدولار الفريش. وهي تبلغ، على سبيل المثال لا الحصر، «200 دولار وفق سعر السوق في مستشفى رزق. وفي مستشفى جبل لبنان 135 دولاراً تضاف إليها فروقات تسعيرة صندوق الضمان». أحد المستشفيات طلب 20 مليون ليرة مقابل جلسة علاج كيميائي بعدما رفض استشفاء المريض على نفقة تعاونية موظفي الدولة، قبل أن يرفع الفاتورة إلى 40 مليون ليرة، لأن الدواء المطلوب استخدامه لم يكن متوافراً في مستشفيات أخرى. وأفاد مرضى يتلقّون العلاج في مستشفى الجامعة الأميركية أن المستشفى تواصل مع مرضى سرطان نقي العظم لإبلاغهم أن دواء «Darazalex» متوافر لديه بسعر 1000 دولار لكل 400mg، علماً أن المريض يحتاج إلى ما يفوق الـ1000mg في الجلسة الواحدة. أحد المرضى يؤكد أن أحد كبار المستشفيات في بيروت طلب 5 ملايين ليرة لقاء تقديم خدمة جلسة العلاج الكيميائي وتقاضي 25% من ثمن الدواء الذي اشتراه المريض من الخارج لبنان، و«كأنك جاي على مطعم وجايب غداك معك». علماً أن المرضى يحتاجون شهرياً إلى ما يقارب مليوني ليرة لتغطية نفقات أدوية جانبية، كعقاقير المناعة ومسكنات الألم، وحماية المعدة.

المرضى الذين يُعالجون على نفقة صندوق الضمان الاجتماعي ليست حالهم أفضل. سابقاً، كانت فروقات تسعيرة الضمان عن كل جلسة علاج كيميائي (دواء + خدمة) تتراوح بين 100 و800 ألف ليرة بحسب الدواء المستخدم. اليوم لا توجد تعرفة ثابتة، إذ تضيف المستشفيات مليون ليرة أو مليونين على فاتورتها بمعزل عن سعر الدواء المستخدم ومن دون أي شرح. ولدى مراجعة الضمان ينتهي الأمر بـ«إقرار المعنيين بالخرق الواضح للقانون من دون أن تكون لذلك أي مفاعيل ملموسة»، وفق نصّار. لكل تلك الأسباب، يحجم عدد من المرضى عن جلسات العلاج الكيميائي، وهو ما دفع بمستشفى جبل لبنان على سبيل المثال إلى إقفال أحد الطوابق المخصصة لتلك الجلسات، كما قلّص مستشفى رزق عدد أيام استقبال مرضى الكيميائي من 5 إلى 3 أيام.
فوضى الأسعار الخيالية تنسحب على كل ما يتعلّق بالفحوصات المخبرية وصور الأشعة، التي يفترض أن يجريها المرضى كل ثلاثة أشهر. وسط هذا المشهد، يناشد نصار الراغبين بالتبرع أن تكون تبرعاتهم مباشرة للمرضى وليس للمستشفيات التي تخرق القوانين بتسعيراتٍ بالدولار الفريش.

راشيل واحدة من آلاف الحكايا

راشيل صنيفر، المصابة بسرطانٍ من النوع النادر، تُغمِضُ عينيها كل مساءٍ متمنيةً الموت، وأن يُسدل العمر ستارته في بلدٍ لم تعد الظلمة فيه حكراً على ليلِهِ. راشيل واحدة من محاربي السرطان. شعّبت الأزمة الاقتصادية معاركها. هي اليوم تكافح «الخبيث» والسلطة الأخبث. حتى انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020، كانت تقصد مركز الكرنتينا شهرياً للحصول على «Revlimid»، الدواء الوحيد لعلاج نوعٍ نادرٍ من السرطان عالمياً (نوعان من السرطان يجتمعان في حالة واحد) أصاب نخاعها العظمي وعطّله. بعد الانفجار انقطع الدواء لشهرين، وبعدها على مدى 7 أشهر حصلت على البديل الإيراني ضمن هبة أتت لصالح وزارة الصحة. مع اشتداد أزمة الدواء، لا يزال الـ«Revlimid» مفقوداً في الكرنتينا للشهر الثامن على التوالي. لا قدرة لدى العائلة المحدودة الحال على شرائه من الخارج بتكلفة شهرية 6000 دولار. الخيارات أمام صنيفر ليست كثيرة، وأحلاها مرّ. إن توافر الدواء على السعر المدعوم تشتريه على نفقتها بقيمة 8 ملايين و200 ألف ليرة للعلبة الواحدة، فضلاً عن أدوية جانبية لتصل فاتورة الاستشفاء الشهري إلى 12 مليون ليرة. وحين لا يسعفها الحظ ويسقط الـ«Revlimid» من الطلبات الموقّعة من قبل مصرف لبنان، تتوقف عن العلاج. وفي حين يولي الأطباء أهمية كبرى لمعنويات المرضى الذين يتلقّون العلاج، تخوض راشيل الرحلة بقلقٍ مضاعف على المصير. بصوتٍ مرتجف، تقول: «الدول تدعم مرضاها نفسياً، ونحن تظاهرنا قبل أيامٍ تحت المطر نستجدي أدويتنا». تصارع راشيل نفسها. ترفض الموت حيناً، طمعاً بسنوات إضافية تعيشها مع حفيدتها ابنة السنوات الثلاث «علّها تتذكّرني في ما بعد»، وتصلي لبلوغه أحياناً خوفاً من اشتداد المرض، فلا قدرة مالية للعائلة على تكاليف دخول مستشفى أو حتى طلب سيارة إسعاف…! هكذا تمارس المنظومة المسؤولة عن خلق الأزمة فعل القتل اليومي بمن نجا حتى الساعة من الموت. مشاعر قاهرة لم تكن تنقص هؤلاء خلقتها الأزمة. «جلد الذات يأكل أعماقنا لما تتكبده عائلاتنا من مصاريف لعلاجنا تفوق قدراتها ومعظمنا يتكل على مساعدات الأصدقاء والأقارب» تقول صنيفر.

أبيض: حل قريب

يصف وزير الصحة فراس أبيض ما يحصل في المستشفيات بـ«الفلتان»، واعداً بضبطه عما قريب. في حديث إلى «الأخبار»، يعيد المشكلة إلى كون «الأموال المرصودة لدعم الدواء أقلّ مما تفرضه الحاجة. إذ يخصص مصرف لبنان شهرياً 35 مليون دولار لدعم أدوية السرطان وبقية الأمراض المستعصية والمستلزمات الطبية، في حين أن حاجتنا من أدوية السرطان وحدها تبلغ 25 مليون دولار». وأضاف أنه كان على الشركات المستوردة أن تنظّم طلباتها المرسلة إلى «المركزي» ضمن سقف الـ 25 مليون تتقاسمها جميعها لاستيراد كافة أنواع الأدوية. إلا أن الشركات استمرت في إرسال فواتير بقيمة 70 مليون دولار، ما خلق فوضى دفعت بالمركزي إلى التوقف عن التوقيع لفترة، استخدمت خلالها الشركات مخزونها من الأدوية. وأكد أبيض أنه سيعلن «قريباً» عن خطوات حول كيفية العمل لتأمين كميات أكبر من الأدوية عامة، معوّلاً على «ما تحقق من انتظام في دورة استيراد الدواء بين المستوردين ومصرف لبنان من خلال مكننتها بإشراف الوزارة ومتابعتها، ما سيؤدي إلى تسريع عملية الاستيراد، وقد بدأت النتائج تظهر بوصول كميات كبيرة من الأدوية في الفترة الأخيرة ونتوقع استيراد كميات إضافية تباعاً وفي شكل مستمر وأكثر تنظيماً وتلبية للحاجات الفعلية». كما يولي أبيض أهمية لإطلاق المرحلة التنفيذية والتجريبية من برنامج «Meditrack» لتتبع أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية، بحيث سيصار إلى مكننة ملفات المرضى وحصولهم على بطاقة صحية «Unique ID» تتيح التأكد من حصول كل مريض على دوائه وفي المقابل ضمان عدم تهريب الدواء أو احتكاره أو تخزينه.