IMLebanon

مجاز اللعبة وغواية اللامرئي

كتب كه يلان محمد في ” الجمهورية”:

مفردة اللعبة حاضرة بقوة في معجم حياتنا اليومية. فكثيراً ما نعتبر السياسة لعبة. فكان تطبيع العلاقة بين أميركا وجمهورية الصين الشعبية قد بدأ بلعبة بينغ بونغ، لذلك قالوا تعقيباً على هذا الموقف، بأنَّ كرة صغيرة قد غيّرت الكرة الكبيرة. فالمرادُ بالثانية العالم وموازين القوة.

المجاز الأمثل للتعبير عن مراوغة الحياة وأبعادها اللامتوقعة لدى الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، هو لعبة النرد، كذلك الأمر بالنسبة لـ«إبكتيتوس» الذي شبّه الحياة بلعبة الكرة. فكما اللاعبُ لا يسألُ عن نوع الكرة وجودتها، وما يهمّهُ هو حسن التعامل معها لتحقيق غايته. على هذا المنوال من المفروض أن يتمَّ التصرّف مع فرصتنا الوجودية بعيداً من التحذلق والمماحكة، نعيشها إن أمكن بنسختها الأفضل. كما قد تسرّبت المفردة إلى المدونة الشعرية، يسردُ محمود درويش سيرته الشعرية متموقعاً دور اللاعب في معتركه الحياتي. ومن جانبه يحوّلُ أنسي الحاج الحبَ إلى لعبةٍ لا يصعبُ أن يكونَ فيها مغلوباً. أضف الشاعر الفرنسي مالارميه إلى السلسلة، فقد اختار هذه العبارة «أبداً لن تلغي الصدفة رميةُ النرد»، لإحدى قصائده الأكثر شهرة. ومن المناسب هنا الإشارة إلى ما يذكرهُ الكاتبُ الأفغاني «عتيق رحيمي» في روايته «حب في المنفى»، بأنّ في اللغة الفارسية تقترنُ لاحقة «بازي» بمعنى اللعبة بالعشق «عشق بازي»، أي «لعبة الحب». وفعلاً إذا فارق الحبُ هذا الأفق يقعُ في مطبّ صفة وظيفية، وبالتالي تغيب إمكانية المتعة والتشويق والتجدّد. ولن يكون عاملاً للنمو. ولا نغالي في القول إنّ تأويل النصوص الأدبية وما يقومُ به الناقدُ في قراءته للأثر الإبداعي والظواهر، نوع من اللعبة مع المعنى المناور بين المضمر والمعلن. لذلك اختار الفيلسوف اللبناني علي حرب «لعبة المعنى» عنواناً لكتابه الذي تناول فيه مفاهيم إشكالية. أكثر من ذلك، فإنَّ اللعبة لم تغبِ في سياق النصوص الدينية بوصفها صورة للحياة الدنيوية. والغريب في الأمر هو تأويل المفردة بما يفيد معنى الاستخفاف بالحياة، وربما يكونُ هذا الفهم سبباً لتواضع مستوى التذوق والتمتع بمدتنا الزمنية المحدودة.

مهارة التموضع

إذا صح الإفتراض، بأنّ المساحة مترادفةُ للخلاء، فيمكن بناءً على ذلك، نفهمُ لماذا يأخذُ التموضع أهمية كبيرة في الحياة؟ فالأجسامُ تنعدمُ وتفقدُ خصوصيتها لولا هذا الخلاء البراح الذي تتحركُ فيه. إذاً فالحركة تتطلبُ وجود المساحة، وبما أنَّ هذه الأجسام كلها تشتركُ بفعل ما لديها من الثقالة وطبيعتها المادية في حركة دائمة، فإنَّ ما يُكسبُ كل جسم التميُّزَ على حدة، هو الوضع والاتجاه. وهذا الموضوع تراه محلَ نقاش واهتمام كبيرين لدى كل من أبيقور وديمقريطس، وحتى تبدو المعادلة أكثرَ وضوحاً، فما عليك سوى متابعة اللعبة. فمهارة المشاركِ تكمنُ في شكل تموضعه وتحديد الفضاء الذي يتحرّكُ فيه. فاختراق المساحات بأكملها قد لا يكون في متناول كل لاعبٍ. صحيح أنَّ اللامتوقع هو ركنٌ أساس للعبة. غير أنَّ ذلك لا ينفي دور الذكاء ولا يلغي أهمية نمط التفكير في رؤية المساحات. بالطبع فإنَّ الإسراف في الحضور تفريط للجوهر، وكونك مرئياً لا يعني أنك حاضرٌ فعلاً. كما أنَّ الانزياح إلى منطقة لامرئية لا يعادلُ الغياب. يذكرُ أنَّ متعة التواري ليست أقل غوايةً من إغراءات الحضور، الأمر الذي يتمُّ فهمه من خلال قراءة رواية «مستر غوين» للكاتب الإيطالي ألساندرو باريكو. من المعلوم أنَّ ما قدّمه صاحب «بلا دماء» محاكاة بليغة في الإطار الروائي للعبة فرناندو بيسوا الذي كان ينشرُ نصوصه بأسماء متعددة. لا شكَّ أنّ ما يشغلُ الإنسان ليس العالم المشهودَ بل ما يقعُ أبعد من مرمى رؤيته وحتى بصيرته، والمفاجئ واللامتوقع يأتيان من اللامرئي، والدليل على ذلك هو هجمة كورونا. كما أنَّ مفهومَ المقدس يستمدُ قوته أيضاً من اللامرئي، وتتضاعف متعة الأثر الفني عندما تحجب الظلالُ طبقاته العميقة.

وهم النهايات

ما انفكّت المجتمعات البشرية تعيشُ في هوس النهايات، زادت حدّة إطلاق الأحكام والإعلان بنهاية الإنسان ونهاية الحب ونهاية المثقف ونهاية اليوتوبيا ونهاية التاريخ، إثر ما شهده العالم من التحولات على الأصعدة السياسية والإجتماعية والاقتصادية. هذا ناهيك عن تشظي وتلاشي السرديات الواعدة بالفراديس، التي ما أنشأت في الواقع سوى الجحيم. لكن هذه المُغالاة في إشهار النهايات بوجه المفاهيم الفكرية والحياتية تُمثلُ غروراً يحجبُ عن الإنسان الإدراكَ بأنَّ حدود الكون لا تنتهي عند تخوم واقعه وزمنه الراهن. هنا نتذكرُ كلام ميترودور، وهو كان وريثاً لأبيقور، حيث يؤكّد «أنَّ القول بوجود عالم واحد في الكون اللامحدود إنما هو كقولنا إنّ حقلاً شاسعاً جعلَ لإنتاج سنبلة واحدةِ». ماذا عن الرأي الذي يذهبُ بأنَّ الإنسان مقياس كل شيء، مشيراً ألى أنّ الحقيقة بقطع النظر عن نوعيتها تقعُ دونه منزلةً دائماً؟ هذا صحيح لأنَّ مفهوم الحقيقة من صنيع الإنسان، وهو ينتهكه ويمدُّه بالدماء في آن واحد. ومن الواضح، أنَّ تاريخ البشرية هو تاريخ الأخطاء وليس تاريخ حقائقها على حدّ تعبير ألبر كامو. إذاً، فمن الطبيعي أن يكون الخالق أكبر شأناً من بضاعته، لكن هذه المعادلة لا تنسحبُ على علاقة الإنسان مع الكون والمعطيات الوجودية بأكملها لم يسجّلْ تحولُ في حركة الأجرام السماوية ودورة الكواكب عندما غاب الإنسانُ مؤقتاً وخفّت زحمة الشوارع والمدن خلال فترة الإغلاق العام. تؤكّدُ هذه التجربة أنَّ مساحة اللامرئي أوسع مما يتخيّله البشر، واللامتوقع هو سيّد الموقف. لذلك، فإنَّ المشهدَ يفرضُ مرونة في التفكير والتواضع في نمط المعيشة والتعفف من الزيف، لأنَّ ليس له نقطة ينتهي عندها حسب رأي سينيكا. من هنا تتضحُ ضرورة العودة إلى الفلسفة بشقها العملي، ويتخذُ هذا النشاط العقلي أهمية من تحجيمه للأوهام وتحسين شكل التفكير وزيادة المناعة ضدّ الخرافة والتدجيل بأشكالها المختلفة. فمن نافلة القول إنَّ الفلسفة لا تعدُ بالحل النهائي للأزمات الوجودية ولا تبشّرُ بأنَّ التاريخ سيتمّ تتويجهُ بمبادئ مدرسة معينة على غرار ما تدعو إليه الآيديولوجيات القومية والدينية والعلمية. بل ما تهدفُ إليه فعلاً هو إيجاد بيئة تتنفس فيها الروح بالحرية بعيداً من الإكراهات والخوف من النهايات. والتوتر الناجم عن الأشياء التي لا نمتلكها. وبذلك لا تفسد الرغبةُ في ما نفتقدهُ الحاضر.