IMLebanon

الإصرار على السدود… متاهة بلا حدود؟

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:

مع إعادة إحياء موضوع سدّ بسري مؤخراً من خارج جدول أعمال إحدى جلسات مجلس الوزراء، بعد أن جرى تعليقه جزئياً من قِبل مموّله، البنك الدولي، في أيلول 2020، عادت التساؤلات لتُطرح من جديد حول صوابية سياسة إنشاء السدود في لبنان كما تكاليفها وجدواها وآثارها البيئية. فهذا السد الذي تخطّت كلفة التعويض على مالكي أراضي الوادي المحيط به لغرض استملاكها وحدها مبلغ 155 مليون دولار أميركي، يبدو أنه يحذو حذو عدة سدود أخرى أُنجزت سابقاً – كلياً أو جزئياً – وكان مصيرها الفشل.

بحسب الأرقام على سبيل المثال، بلغت كلفة سدّ بريصا، الذي نُفّذ عام 2013 في منطقة الضنية، حوالى 27 مليون دولار في حين رُصد له ضمن خطة إنشاء السدود حوالى 3 ملايين دولار فقط، إضافة إلى تخصيص مبلغ 8 ملايين دولار عام 2019 لترقيع أرضيته بعد فشل عملية تجميع المياه فيه. أما سدّ بلعا الذي أنشئ عام 2017 في بلدة شاتين، فقد كلّف حوالى 50 مليون دولار في وقت حُدّد المبلغ المخصص له بـ26 مليون دولار، إضافة إلى عشرات الملايين التي أُنفقت لترقيعه بطبقة من الإسمنت بعد أن تعذّر أيضاً تجميع المياه فيه. وضع سدّ المسيلحة الذي أنشئ عام 2019 في البترون لا يختلف كثيراً هو الآخر. فقد وصلت كلفة الأعمال فيه إلى 74 مليون دولار بدلاً من الـ55 مليون دولار التي كانت رُصدت له أساساً، في وقت لم تكن النتيجة سوى تجميع كميات كبيرة من الوحول والترسبات كما تبديد كميات هائلة من المياه بسبب التسربات منه، بينما تعاد تجربة ملئه في هذه المرحلة للتأكد من صلاحيته.

واللائحة تطول. فما هي الأسباب التي تحول دون نجاح خطط إنشاء السدود التي كلّفت لبنان أكثر من ملياري دولار، وهل من وسائل بديلة أكثر اعتمادية وأقل كلفة توفيراً لهدر المال العام ومراعاة لطبيعة لبنان الجيولوجية؟ ثم ما هي الحلول المطروحة للاستفادة القصوى من ثروة لبنان المائية والتخفيف من أسباب تلوّث المياه المتاحة وما يترتّب عنها من أمراض سرطانية قاتلة؟ أليس حريّاً تحويل الأموال المهدورة في مشاريع إنشاء السدود لاستثمارها في خطط إنمائية توجيهية استباقية تضمن مستقبل الثروة المائية في ظل خطر التغيّر المناخي؟ أسئلة عديدة تحاول «نداء الوطن» الإجابة عنها مع الباحث والمحاضر في علوم المياه، البروفسور ناجي كعدي.

عوامل الفشل

يُعتبر مبدأ إنشاء السدود، بمفهومه العام، مبدأً سليماً لغرض تجميع المياه وهو شائع في دول كثيرة حول العالم، شرط أن يخضع لشروط ومعايير ودراسات تتمحور حول إمكانية نجاح إنشائها في الأماكن المختارة. ويُشكّل فهم جيولوجيا الأرض المرحلة الأولى والأهم من هذه الدراسات، وهي تنقسم إلى قسمين: الأول، الليثولوجيا، أي نوعية الصخور فيها؛ والثاني، تكتونية المنطقة، وتعني الصدوع والانكسارات التي تتعرّض لها. فماذا عن طبيعة لبنان الجيولوجية؟

يقول كعدي: «أكثر من 70% من صخور لبنان هي صخور منفذة للمياه (أي تمرّرها) وهي بالتالي غير صالحة لإنشاء السدود. وفي حال تمّ اللجوء إلى صبّ الإسمنت بهدف جعلها غير منفذة، فالتكلفة تكون باهظة. أمّا عن الحركة اليومية والهزات التي تتعرض لها الطبقات الأرضية، فهي تصيب قعر السدود بتصدعات وتشققات – عدا عن التكسرات الطبيعية الموجودة أصلاً – ما يؤدي إلى تسرّب المياه منها، وبالتالي الفشل في تجميعها، على غرار ما حصل في العديد من السدود التي أنشئت». عامل إضافي يساهم في تفاقم المشكلة هو وزن الكمية الضخمة من المياه التي تحتويها السدود والذي يشكّل ضغطاً هائلاً على الصخور، ما يزيد من عملية التشقق هذه.

إضافة إلى العوامل الجيولوجية، يبدو لافتاً غياب قاعدة البيانات المناخية في لبنان، إذ لا دراسات كافية تتناول كمية المتساقطات في الحوض النهري المنوي إنشاء السدّ فيه، أو في الأحواض الأخرى المحيطة التي تغذّيه. من هنا، ثمة ضرورة لدراسة نسبة المتساقطات (لا سيما الثلوج منها) كما نسبة تبخّر المياه في المنطقة المعنية. «المشكلة أننا لا نملك محطات طقس كافية وموزّعة بشكل منظّم تعطي فكرة واضحة عن المتساقطات، وما فشل السدود في تجميع المياه سوى نتيجة طبيعية لقلّة المعرفة تلك»، بحسب كعدي.

بالنسبة إلى دراسات تقييم الأثر البيئي – وهي أكثر من ضرورية للحدّ من الآثار السلبية للتغيير الذي يمكن أن يفرضه إنشاء السدود على كل من البيئة والنظام الإيكولوجي والحيوانات القاطنة فيه – فغيابها يرتبط بشكل مباشر بغياب قاعدة البيانات المناخية المذكورة أعلاه. صحيح أن دولاً كثيرة تعتمد بشكل أساسي على السدود، إلا أن طبيعة أرضها تكون ملائمة لذلك وقدرتها على تحمّل تكاليف الصيانة والإدامة المستمرة ليست عائقاً بدورها. فلِم الإصرار على إنشاء السدود عندنا خاصة في ظل توفّر البدائل؟

حلول بديلة

إذا كان الهدف من إنشاء السدود هو تجميع مياه الأمطار بشكل مباشر، فـ»الأمطار»، يلفت كعدي، «لا تشكّل أكثر من 20% من مصادر المياه عامة. إذ إن التغذية الأساسية للسدود يجب أن تكون من المياه الجوفية وليس من مياه الأمطار». أما إذا كان الهدف توليد الطاقة الكهربائية، فالعالم يتّجه باطراد إلى مصادر طبيعية أخرى أكثر فاعلية وأقل كلفة، مثل الرياح والطاقة الشمسية. والحال أنه يمكن استبدال مشروع السدّ الذي قد تصل كلفته إلى 100 مليون دولار، مثلاً، بحفر آبار لا تتجاوز كلفتها بضعة ملايين من الدولارات، علماً أنها تُعتبر مصدراً أقل تلوثاً للمياه ومحمياً من التبخّر. ويضيف كعدي: «بدلاً من انتظار فيضان المياه من الينابيع التي تُغذّى من المياه الجوفية لملء السدود، فلنذهب مباشرة إلى المياه الجوفية من خلال حفر آبار نموذجية مع الاستفادة من الوسائل المتطورة لتحقيق ذلك كالخرائط الجيولوجية والوسائل الالكترومغناطيسية. أما إذا كان لا بدّ من تجميع المياه السطحية، فإني أقترح اعتماد البرك، لا سيما في المناطق الزراعية في البقاع، حيث تُجمّع مياه الأمطار والسواقي شتاء وتُعتمد في الري صيفاً، ما يقلّل من ضغط استخدام الآبار الجوفية».

سوء استخدام… وإدارة

على الرغم من مواسم الشح التي مرّ بها لبنان في السنوات الأخيرة، وأبرزها في العام 2014، يشير كعدي إلى أننا «لا نعاني فعلياً من أزمة شحّ مياه بقدر ما نعاني من سوء استخدام لهذه الأخيرة». وسوء الاستخدام هذا له أوجه عديدة:

أولاً، هناك الهدر في الاستخدام الزراعي والذي يشكّل 70% من استهلاك المياه في لبنان، إذ إن نسبة الإنتاجية مقابل كمية المياه المستخدمة في عمليات الري ضعيفة جداً. إضافة إلى أن نسبة تسرّب المياه (عبر الأنابيب المثقوبة مثلاً) تتخطى الـ65% وهي نتيجة حتمية لغياب الصيانة والرقابة. أما الطرق المستخدمة في عملية الريّ، فهي بمعظمها تساهم في تبخّر المياه، كالري بالجر أو بالرش، لكنها تستقطب اهتمام المزارع كونها أقل كلفة من الطرق الحديثة الأخرى كالري بالتنقيط.

إنتقالاً إلى الاستخدامات المنزلية والتي تمثّل 20% من استهلاك المياه، يرتبط الهدر بطبيعة العادات والتقاليد المتوارثة (ترك حنفيّة الماء مفتوحة أثناء الاستحمام والحلاقة وغسيل الأيدي). وقد بيّنت إحصاءات أخيرة أن الفرد في لبنان يستهلك حوالى 400 ليتر من المياه يومياً، في حين أن متوسط استهلاك الفرد في العالم لا يتخطى 250 ليتراً في اليوم الواحد.

في المقابل، تنحصر نسبة الـ10% المتبقية من استخدام المياه فعلياً بالأغراض الصناعية. منها ما هو منظّم ومدروس كما في معامل الصناعات الغذائية والمعامل الحديثة التي تلتزم قواعد الاستهلاك السليم بحسب معايير الجودة المرتبطة بشهادات الـISO. ومنها ما يتسبب بشكل مباشر في هدر كميات كبيرة من المياه، كمعامل صناعة مواد البناء وقص الحجر.

إضافة إلى سوء الاستهلاك، يُعتبر سوء الإدارة في المؤسسات الرسمية المعنية وغياب قاعدة بيانات واضحة، توضع على أساسها خطط مستقبلية متينة للاستفادة من مصادر المياه، عائقاً أمام مواجهة التحديات ذات الصلة. ويقول كعدي: «بسبب سوء الإدارة وغياب السياسات الإنقاذية، غالباً ما نرى مناطق محرومة من المياه رغم الكميات الكبيرة من الأمطار المتساقطة خلال السنة».

وبالعودة إلى مسألة شح المتساقطات، اعتبر كعدي أن لا أزمة شح في لبنان، بعكس ما يشاع في بعض السنوات التي تشهد قلة في الأمطار، إذ إن «هذا المفهوم لا يُحدّد من خلال الاعتماد على سنة واحدة أو عدة سنوات كعيّنة، بل على مدى دورة مناخية كاملة تمتدّ لثلاثين سنة من الشح المتواصل، وهذا ما لم يشهده لبنان لحسن الحظ حتى الآن». فجلّ ما نعاني منه هو نظام متساقطات فوضوي بحكم مناخنا المتوسطي، ما أدى إلى مرور سنوات شهدت كميات كبيرة من المتساقطات (2003 و2020) في مقابل حلول مواسم شح في سنوات أخرى (2014). التعاون والتفاعل والتنسيق بين الدولة وجميع اللاعبين الآخرين لتجاوز آثار تلك المواسم أو الحدّ منها أمر بغاية الأهمية: «يمكن للدولة مثلاً أن تشجّع المزارع على التوجه إلى زراعات بديلة لا تتطلب كميات كبيرة من المياه، مثل زراعة المقتي والقمح بدلاً من البطاطا، مع توفير الدعم والتسهيلات، كالتمويل وشراء المحاصيل».

تلوث المياه يفتك بلا رادع

لا بد من الإشارة ختاماً إلى احتلال لبنان مراتب متقدّمة عالمياً في نسب تلوّث مياهه. ويعود السبب المباشر في ذلك أيضاً لسوء التنسيق والتنظيم والإدارة لا سيما في ما خص موضوع الصرف الصحي، ومصادره متنوعة: مخلّفات المصانع وما ينتج عنها من مواد ملوّثة، والأدوية والأسمدة الزراعية والمواد الكيميائية المضرّة التي تترسب منها. هذا وتُقسّم الملوثات إلى ثلاثة: فيزيائية، بيولوجية وكيميائية.

أسباب الملوثات الفيزيائية تعود إلى ارتفاع درجة حرارة المياه ما من شأنه أن يقضي على السلسلة الغذائية وبالتالي على الحياة البيئية فيها. أما الملوثات البيولوجية، فمصدرها اعتماد مياه الصرف الصحي في عمليات الري – وهي مياه تحتوي على نسب عالية من البكتيريا التي تصيب الإنسان بالإسهال جراء تناوله الفاكهة أو الخضار المروية منها. كما أن مياه الصرف الصحي تزيد من تركيز البكتيريا في النباتات وقد تظهر انعكاساتها السلبية على حياة الإنسان على المدى البعيد، إذ يترسب النيترات شيئاً فشيئاً في الجسم مسبباً أمراضاً مختلفة أبرزها تلك السرطانية منها. في حين تنتج الملوثات الكيميائية، كالكروم والرصاص، عن الاستخدام العشوائي للأدوية والأسمدة، ما يرفع أيضاً من نسبة النيترات المتسرب إلى المياه الجوفية المستخدمة في عمليات الري. فأين المعالجات؟

لا شك أن التحديات الماثلة أمام ثروة لبنان المائية كبيرة. ثم أن التغيّرات المناخية الآخذة في التعاظم، وعلى رأسها ظاهرة الاحتباس الحراري، ستؤثّر بشكل مباشر على المنظومة الهيدرولوجية برمّتها. فبدلاً من هدر مئات الملايين على مشاريع سدود لم وقد لا تأتي بالحلول الناجعة، حبّذا لو يتم التسلّح بخطط فعالة لمواجهة ما ينتظرنا. نذكر هنا إنشاء وتطوير محطات تكرير المياه وشبكات مياه الصرف الصحي بعيداً عن مصادر المياه السطحية والجوفية، وتطبيق المعايير والقوانين التي تحافظ على نوعية المياه وتمنع تلوثها. لكن فوق هذا وذاك، ثمة حاجة ماسة إلى استئصال ثقافة الفساد والتنفيعات واستغلال المناصب لغايات شخصية أو فئوية، الابتعاد عن الحلول المجتزأة وغير المستدامة والتحلي بالرؤية المستقبلية الشاملة في معالجة المسائل. فهنا بالتحديد يكمن «السد» المنيع.