IMLebanon

هل يستعيد مرفأ بيروت دوره في شرق المتوسط؟

كتب إيلي إميل زخور في “نداء الوطن”:

عشية استلام شركة CMA Terminals التابعة للمجموعة الفرنسية CMA-CGM محطة الحاويات في مرفأ بيروت لإدارتها وتشغيلها وصيانتها لمدة 10 سنوات، وفقاً للاتفاق الذي وقعته مع ادارة واستثمار مرفأ بيروت، لا بد لنا من ان نطرح السؤال مجدداً: “هل ان مرفأ بيروت قادر على استعادة عافيته ودوره المحوري في شرق المتوسط؟”

انتهاء الحرب اللبنانية في العام 1990

عندما وضعت الحرب اللبنانية اوزارها في العام 1990، اعيد فتح مرفأ بيروت امام الملاحة البحرية، وتمكنت الدولة اللبنانية من الحصول على قروض عدة ميسرة من البنك الاوروبي للاستثمار وبعض الصناديق العربية، فأعادت إعمار مرفأ بيروت وبناء المستودعات وانشاء الرصيفين 15 و 16 من الحوضين الرابع والخامس تمهيداً لبناء محطة الحاويات عليهما.

مناقصة لتجهيز وتشغيل محطة الحاويات وفق نظام الـ (B.O.T)

وفي العام 1998 اجرت الدولة اللبنانية مناقصة لتجهيز وتشغيل محطة الحاويات في الحوض الخامس وفق نظام الـ (B.O.T)، وفازت بالمناقصة سلطة موانئ دبي التي تعهدت ان تنجز المشروع وتبدأ المحطة بتقديم خدماتها في العام 2001. ولكن فجأة ومن دون سابق انذار، فسخت سلطة موانئ دبي عقد التجهيز والتشغيل لأسباب لم تعلن عنها.

دور الغرفة الدولية للملاحة في بيروت في إجراء مناقصة جديدة

وفي العام 2004 وبناء على الاتصالات المكثفة التي قامت بها الغرفة الدولية للملاحة في بيروت، ومطالباتها المتواصلة، وافقت الدولة اللبنانية على اجراء مناقصة جديدة تقضي باختيار شركة لادارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت على ان يتم تجهيزها بالرافعات الجسرية والآليات والمعدات المطلوبة من ايرادات المرفأ الذاتية. وقد اجريت هذه المناقصة وفاز بها كونسورتيوم مكون من ثلاث شركات: الاولى بريطانية والثانية اميركية والثالثة لبنانية هي شركة BCTC التي لا تزال تتولى ادارة وتشغيل محطة الحاويات حتى الاول من نيسان الجاري، حيث ستتولى ادارتها وتشغيلها وصيانتها شركة CMA Terminals، كما ذكرنا في مطلع هذا المقال.

مرفأ بيروت محطة محورية في شرق المتوسط

بدأت محطة الحاويات عملها في آذار 2005، فتمكنت بالخدمات الجيدة التي تقدمها والتسهيلات الجمركية والتعرفات المنافسة لتفريغ وشحن الحاويات برسم المسافنة (TRANSSHIPMENT)، من استقطاب خطوط بحرية عالمية لاعتماد مرفأ بيروت مركزاً لعمليات المسافنة نحو مرافئ البلدان المجاورة، فوقعت كل من شركة الملاحة السويسرية MSC التي تحتل المرتبة الثانية في العالم من حيث سعة اسطولها، وشركة الملاحة الفرنسية CMA-CGM التي تحتل المرتبة الثالثة، اتفاقاً لاعتماد المرفأ مركزاً لعمليات المسافنة لبعض خطوطهما العاملة من المرافئ الصينية والشرق الاقصى واوروبا الشمالية وبمعدل رحلتين اسبوعياً لكل منهما.

وشهدت المحطة حركة حاويات كبيرة ومزدهرة، فارتفعت في العام 2005 الى 465 الف حاوية نمطية مقابل 390 الف حاوية نمطية في العام 2004 والى 948 الف حاوية نمطية في العام 2007 والى 995 الف حاوية نمطية في العام 2009 والى اكثر من مليون و305 حاويات نمطية في العام 2018، من بينها 419 الف حاوية نمطية برسم المسافنة نحو مرافئ البلدان المجاورة كسوريا وتركيا ومصر واليونان وقبرص، اي ما نسبته اكثر من 32 بالمئة من المجموع العام للحاويات.

توسيع محطة الحاويات

ويذكر ان في العام 2013، تم توسيع محطة الحاويات من الجهة الشرقية حتى مجرى نهر بيروت، لتتمكن من استيعاب حركة الحاويات التي تواصل ارتفاعها والتخفيف من شدة ازدحام البواخر التي كان يشهدها مرفأ بيروت.

تراجع الحركة في المرافئ اللبنانية

في 17/10/2019، تاريخ اندلاع التظاهرات الشعبية والاحتجاجات في لبنان، بدأ البلد يشهد ازمات لا تعد ولا تحصى على كافة الاصعدة المالية والاقتصادية والصحية. وقد رافق هذه التظاهرات والاحتجاجات قطع الطرقات وإغلاق المصارف ابوابها لاكثر من اسبوعين متتاليين، ومن ثم اتخاذ مصرف لبنان تدابير واجراءات تمنع المودعين من سحب ودائعهم بالعملة الصعبة او تحويلها الى الخارج، وحتى الحد من سحب ودائعهم بالعملة الوطنية، بالاضافة الى وقف فتح الاعتمادات المستندية لاستيراد البضائع. كما ساهم تفشي فيروس “كورونا” في البلاد في تفاقم الاوضاع والازمات في البلاد، فعمدت الحكومة الى اتخاذ قرارات بمنع التجول وإغلاق الاسواق التجارية والمؤسسات الخاصة والرسمية مرات عدة، ما انعكس سلباً على القطاع الاقتصادي والتجاري في البلاد، وبصورة دراماتيكية على حركة المرافئ اللبنانية وقطاع النقل البحري اللبناني.

إنفجار مرفأ بيروت القاتل والمدمّر

وفي 4 آب من العام 2020، حصل الانفجار في مرفا بيروت الذي دمر الجزء الغربي منه، والمنطقة اللوجستية في المنطقة الحرة، والأهراءات وقسم كبير من العاصمة بيروت، بالاضافة الى استشهاد اكثر من 200 مواطن ووقوع اكثر من 6 آلاف جريح، وتشريد عشرات آلاف المواطنين الذين فقدوا منازلهم.

وعند وقوع هذا الانفجار الذي تناقلت اخباره وكالات الانباء العالمية والتلفزيونات العربية والاجنبية، اعتبرت شركات الملاحة العالمية ان هذا الانفجار اطاح ايضاً بمحطة الحاويات التي تشكل حركتها اكثر من 75 بالمئة من تجارة لبنان مع العالم الخارجي، فطلبت من بواخرها القادمة الى مرفأ بيروت تحويل مسار ابحارها والتوجه الى مرفأ طرابلس لتفريغ حمولاتها. وبالفعل تم تحويل بعض البواخر الى مرفأ طرابلس الذي شهد ازدحاماً ببواخر الحاويات التي افرغت حمولاتها في محطة الحاويات المستحدثة فيه.

ولكن المفاجأة التي اذهلت العالم واللبنانيين، هي عندما شاهدوا ان محطة الحاويات لم تدمر في الانفجار وان العناية الالهية انقذتها. فقد أصيبت باضرار صغيرة، استطاعت الشركة المشغلة للمحطة BCTC اصلاحها، ما سمح لها باستئناف تقديم خدماتها للسفن التي تؤمها بعد مرور أسبوع واحد على الانفجار.

تراجع خدمات محطة الحاويات

لكن خدمات محطة الحاويات في مرفأ بيروت بدأت تشهد تراجعاً بسبب الاجراءات والتدابير المصرفية التي منعت شركة BCTC من تحويل الاموال من ودائعها بالعملة الصعبة الى الموردين في الخارج لشراء قطع الغيار المطلوبة لتصليح الرافعات الجسرية التي تشغل سفن الحاويات، والمعدات والآليات والمقطورات التي اصبحت بحاجة ماسة الى عمليات اصلاح بسبب استخدامها لمدة طويلة من دون اجراء اي صيانة عليها. وزادت الاوضاع سوءاً عندما القي الحجز الاحتياطي على ايرادات مرفأ بيروت بطلب من النقيب السابق للمحامين في بيروت المحامي ملحم خلف ومحامين آخرين لصالح بعض شهداء انفجار المرفأ، الذين حملوا المرفأ مسؤولية هذا الانفجار. وقد حرم هذا الحجز الاحتياطي ادارة مرفأ بيروت من القيام بموجباتها المالية تجاه المتعاملين معها، لا سيما شركة BCTC التي هي بأمس الحاجة الى الاموال لتتمكن من تصليح تجهيزات وآليات محطة الحاويات ولتمكينها من الاستمرار في تقديم خدماتها.

الوكالات البحرية أنقذت محطة الحاويات من الشلل التام

وكادت محطة الحاويات ان تصاب بالشلل التام مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي عن المرفأ وعدم تزويده بكميات المازوت المطلوبة لتشغيل مولداته الكهربائية. ولكن تدخل الوكالات البحرية التي تمثل شركات الملاحة التي تؤمن خدماتها بسفن الحاويات، لايجاد الحلول المالية للمشاكل التي تعاني منها ادارة المرفأ وشركة BCTC، انقذ محطة الحاويات من الوقوع في المحظور.

فالمساهمة المالية التي قدمتها الوكالات البحرية، انعكست ايجاباً على خدمات محطة الحاويات. فقد ارتفع عدد الرافعات الجسرية التي تؤمن تشغيل السفن من 3 رافعات الى 11 رافعة حتى تاريخه.

إطلاق مناقصة جديدة لإدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات

وفي 11 تشرين الثاني من العام الماضي، اطلق وزير الاشغال العامة والنقل علي حمية مناقصة عالمية جديدة لادارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات، ولكن بسبب تقديم عرضين فقط للمشاركة فيها من قبل كل من: CMA Terminals الفرنسية و GULFTAINER الاماراتية، مددت فترة تقديم العروض لمرتين متتاليتين، لان دفتر شروط المناقصة ينص على ان لا يقل عدد العروض المقدمة عن ثلاثة.

ونظراً لعدم ارتفاع عدد العروض المقدمة الى اكثر من عرضين، اعلن الوزير حمية انه تم الاتفاق على توقيع عقد ادارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت مع شركة CMA Terminals، وذلك وفقاً لدفتر الشروط.

تأهيل محطة الحاويات واستعادة عافيتها ودورها المحوري في المنطقة!

ان المجموعة الفرنسية CMA-CGM المالكة لـ CMA Terminals، تملك الامكانات المالية والتشغيلية لاعادة تأهيل محطة الحاويات وتمكينها من استعادة عافيتها والدور المحوري في المنطقة. فهي تحتل المرتبة الثالثة في العالم بسعة اسطولها والبالغة 3.283 ملايين حاوية نمطية، وتغطي بخدماتها معظم المرافئ العالمية، كما ان شركة CMA Terminals تشرف على ادارة وتشغيل 52 محطة حاويات في 33 بلداً في العالم، لا سيما في مرافئ البلدان الواقعة على ضفتي المتوسط.

كما حققت مجموعة CMA-CGM ارباحاً قياسية في العام الماضي تجاوزت 17.5 مليار دولار، علماً انها من بين الشركات الاكثر عملاً مع محطة الحاويات في مرفأ بيروت.

وقد اعلنت مجموعة CMA-CGM بعد توقيعها على الاتفاق لادارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات، انها ستستثمر 33 مليون دولار في المحطة، منها 19 مليون دولار خلال العامين الاولين من مدة العقد البالغة 10 سنوات، موضحة ان هذا الاستثمار سيسمح لها بتحقيق ما يلي:

– التحديث الكامل للمعدات، اعادة التأهيل، والاستبدال وشراء معدات جديدة.

– بناء عنبر تقني جديد لصيانة قطع الغيار وتخزينها.

– تحقيق التحول الرقمي للمحطة من خلال تطبيق الانظمة الاكثر تطوراً في مجال الادارة والتحسين والربط البيني للعمليات وللمشغلين المختلفين في المرفأ.

– تحقيق الاداء المراعي للسلامة البيئية لا سيما من خلال شراء معدات اقل تلوثاً.

كما ستعتمد CMA Terminals على خدماتها وخبرة فرق المشغل السابق للمحطة في سبيل تنفيذ مشروعها الهادف الى تنفيذ خطة لتطوير المحطة بنجاح، للوصول الى التعامل مع 1.4 مليون حاوية نمطية سنوياً، اي اكثر من ضعفي حركة الحاويات الحالية التي بلغت 615 الف حاوية نمطية في العام 2021.

CMA-CGM جذورها لبنانية

وتجدر الاشارة اخيراً الى ان مجموعة CMA-CGM التي انطلقت بعملها في ميدان الشحن البحري من لبنان منذ اكثر من 43 عاماً، مستمرة في تنفيد المشاريع الاستثمارية في لبنان، وبالتالي فهي تملك الحافز والقدرة على تمكين مرفأ بيروت من استعادة عافيته ودوره المحوري في شرق المتوسط.

إعادة إعمار القسم المدمر من مرفأ بيروت!

ولا بد من التأكيد اخيراً ان لبنان بوضعه الحالي الذي لا يحسد عليه، والازمات المتفاقمة على مختلف الاصعدة المالية والاقتصادية والمعيشية والسياسية التي يتخبط فيها، غير قادر لوحده على اعادة اعمار القسم الغربي المدمر من مرفأ بيروت. ولا يملك الامكانات المالية التي تخوله القيام بذلك.

فهو بحاجة الى شركات استثمار اجنبية وعربية كبيرة لمساعدته على اعادة اعمار مرفأ عاصمته بيروت.

اما التهافت الدولي الذي نشهده حالياً لاعادة اعمار المرفأ، فيؤكد ما قلناه آنفاً ومراراً عن اهمية موقع مرفأ بيروت الاستراتيجي على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، بالاضافة الى الثروة الغازية والنفطية الذي يختزنها بحر لبنان والتي تقدر بعشرات مليارات الدولارات، مما سيحوله مستقبلاً الى بلد يعج بالمشاريع والانشاءات الغازية والنفطية العملاقة، ومقصداً للاستثمارات الدولية الضخمة، ولكن استقطاب هذه المشاريع والاستثمارات مشروط بتنفيذ الاصلاحات المطلوبة من قبل المجتمع الدولي والشعب اللبناني، ففي غياب هذه الاصلاحات لن يستثمر احد في لبنان!