IMLebanon

المياه غير مؤمنة… ولا آمنة!

كتب حبيب معلوف في “الأخبار”:

تتعرّض المياه، كأهم مورد حياتي بعد الهواء، إلى مخاطر وتهديدات وجودية حقيقية، غاية في التعقيد. ليس تغيّر المناخ هو العامل المهدّد المستجدّ الوحيد فيها، ولا سوء الإدارة وزيادات السكان والطلب والاستخدامات، ولا الهدر والسرقة هي المشكلة وحدها… لا بل هناك عوامل كثيرة معقّدة، تجعل من إدارة هذا المورد شبه مستعصية، لا بل قاتلة.

بسبب سوء السياسات والتخطيط وغياب الاستراتيجيات الحامية والحافظة والعادلة، تعرّضت المياه العذبة إلى مخاطر عديدة في بلد مثل لبنان كان ينعم بهذا المورد المتجدد كعنوان كبير من مقوّمات وجوده وحياة ساكنيه. أهم هذه المخاطر هي التلوّث وسوء التوزيع وعدم ضبط الاستهلاك والكلفة التي ستزداد بشكل يصعب (لا بل يستحيل) توفيرها على المديَين القريب والبعيد.

الخطر الأول ناجم في مجمله عن تلوث المياه العذبة. ويعتبر أهم مصدر للتلوّث اختلاطها مع مياه الصرف المنزلية السائلة والنفايات الصلبة، ومن ثم تلك الصناعية والزراعية، الخ. وهنا يُفترض التذكير بالأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها الوزارة المعنية تاريخياً، بأنها لم تضع استراتيجية تعتبر فيها وقف الهدر في الشبكات والسرقة ومعالجة مياه الصرف أولوية على إنشاء السدود المكلفة وغير الضرورية. بالإضافة إلى تشغيل المحطات والمضخات على الطاقة الشمسية بدل مولدات الديزل، على سبيل المثال، فأصبح غلاء أو انقطاع الوقود أكبر سبب لانقطاع المياه! كما أن هذا الانقطاع، في ظلّ الهريان والتسرّب من الشبكات، يعني دخول المياه المبتذلة والملوثة إلى مياه الشبكات والمنازل. فحتى لو تم معالجة المياه في المحطات قبل إرسالها، فإنها لن تصل سليمة إلى المنازل، مع إمكانية أن تتراجع عمليات المعالجة وإضافة الكلور كلما زادت الكلفة أيضاً، في وقت يفترض أن يزداد تلوّث المياه السطحية والجوفية بسبب استحالة معالجة مياه الصرف المتدفّقة في الوديان والأنهر والبحر المكلفة، مع حالة الانهيار الشاملة! ما يعني أيضاً زيادة الأمراض الناجمة عن تلوّث المياه وزيادة الفاتورة الصحية، في بلد انهارت فيه الصناديق الصحية الضامنة وارتفعت كلفة العلاج.

وتتفاقم المشكلة والمخاطر وتتعقّد، كون كلفة معالجة مياه الصرف باتت أكبر بثلاثة أضعاف كلفة تأمين مياه الشرب! وما بعد الانهيار ليس كما قبله. ما بعد الانهيار يفترض أن تكون فاتورة تأمين مياه الشرب ما لا يقل عن مليون ليرة لبنانية (يفترض أن يتضاعف هذا الرقم عاجلاً أم آجلاً بما لا يقل عن مئة دولار أميركي سنوياً)، وإذا أردنا أن نعالج مياه الصرف، على الأقل (نفس كمية مياه الشرب المقدّرة بمتر مكعب للمنزل يومياً)، يعني ذلك أننا نحتاج لدولار في اليوم (لمعالجة المتر المكعب)، وأن فاتورة معالجة مياه الصرف للمنزل يمكن أن تتجاوز 300 دولار أميركي سنوياً. هذا إذا نجح المعنيون في بناء محطات المعالجة وفي إنشاء الشبكات وتم وصلها وتشغيلها… وفصل مياه الصرف المنزلية عن تلك الصناعية وعن مجاري مياه الأمطار أيضاً!

بالإضافة إلى ذلك، ينتج عن الأزمة زيادة مفرطة في نشاط توزيع المياه الرديفة المرتبطة بهذا القطاع بشكل أو بآخر، إن لناحية بيع المياه بـ«الصهاريج»، أو تلك المياه المعبّأة، إن

لناحية السرقة والتجارة غير القانونية أو لناحية النوعية، في ظلّ الفلتان وعدم مراقبة النوعية، نظراً لارتفاع كلفة أخذ العيّنات وفحصها والتأكّد من سلامتها. وهذا ما سينعكس أيضا ارتفاعاً مستمراً في أسعار المياه المعدنية والطبيعية المعبأة بشكل خطير، بالرغم من الشكوك الكبيرة حول قدرة المحافظة على سلامتها من التلوث، كما أسلفنا.

هذه التهديدات والمخاطر والتعقيدات، تحتّم إعادة النظر في كل الفلسفات والعلوم والاختصاصات والاستراتيجيات ذات الصلة. فالمياه العذبة التي نعرفها لا ترتبط بالمتساقطات فقط وحساباتها، ولا هي مرتبطة بعمق الخزانات والأحواض الجوفية واتساعها ولا بالطبيعة والعلوم الجيولوجية والهيدرولوجية فقط. فنظام تولّد المياه العذبة غاية في التعقيد ويرتبط بأنظمة إيكولوجية متداخلة، يلعب فيها المناخ والشمس والغيوم وحركة الرياح والبحار والمحيطات واليابسة وخضرتها وتضاريسها… دوراً محورياً غاية في التعقيد، تتشارك فيه الأنظمة الحيّة مع غير الحية بشكل مبدع، لا يمكن لأيّ من العلوم اختزال تفسيرها.

وصف هذه الأنظمة بالمعقّدة (بحسب أصل الكلمة اللاتينية complexus)، تعني «ما هو منسوج من مجموعة»، أي النظام الذي تدخل في تشكّله عناصر عدة غاية في الترابط والتعقيد. ومن هنا تشتق القاعدة الأولى التي تقول، إن القضايا المعقدة لا تصح فيها النظرة أو الرؤية الاختزالية أو التخصّصية، بل المنهجية التواصلية، التي تربط بين كل المعطيات دون اختزال. هنا يصبح السؤال: ماذا نفعل في المتناقضات أو التناقضات المرتبطة بهذا المورد؟

لا بد من استراتيجية جديدة، تأخذ بالاعتبار التجارب السابقة وإخفاقاتها والمستجدّات وتعقيداتها. استراتيجيات تلحظ كل المعطيات والمتطلبات والاستخدامات والعوائق والتناقضات، من ضبط زيادة السكان والطلب إلى ضبط الاستخدامات كافة، إلى وقف الهدر والسرقة والخصخصة. ويتم مقاربة هذه التناقضات في استراتيجية مركبة مبنية على عدد معيّن من السيناريوهات، تترك مكاناً للمفاجآت والصدف وتطوّر الزمن.

للخروج الآن من حالة الانهيار الشامل، في قطاع المياه والقطاعات كافة، لا بدّ أنّ استراتيجية متواضعة تحدّد مبادئ جديدة وأولويات مزمنة ما كان يجب تخطيها كما أسلفنا، لتحويل هذا المورد من مورد مهدّد، والعودة به إلى طبيعته الأصلية، بكونه ثروة عامة متجددة، تساهم خطط إعادة تنظيمها في دعم وتمويل خطط توصيل المياه نقية إلى الناس وخطط النهوض عامة. انطلاقاً من ذلك، على الاستراتيجية الجديدة الموعودة إعادة التأكيد أولاً أن المياه، بحسب مصادرها وطبيعتها المذكورة، ملكية عامة يجب استردادها. وأنّ هذا المورد جزء لا يتجزأ من الأنظمة الإيكولوجية المولّدة له والتي يفترض حمايتها مهما كان الثمن والسبب. بالإضافة إلى إعادة تقييم الوضع القانوني لتجارة المياه والسحب من المياه السطحية والجوفية بشكل غير شرعي… باتجاه أن تصبح الدولة المنظم والمستفيد الأكبر من عائدات المياه، بكل أشكالها. وهذا يتطلّب قواعد جديدة لتقييم ما يسمى «الحقوق المكتسبة على المياه» وإعادة النظر بطرق التسعير والتحصيل، على أن يتم احترام مبدأ أن «المياه حق من حقوق الإنسان»، تحدّد حاجته المتواضعة منها مجاناً وتتقاضى الدولة كلفة الحماية والتوصيل والصيانة، على أن تضع ضريبة تصاعدية على زيادة الاستهلاك عن الحاجات الضرورية المقدّرة بمئة ليتر يومياً للفرد، حسب منظمة الصحة العالمية، وتخفيض للضريبة إذا لم يتمّ استهلاك المعدل المحدّد، للتشجيع على خفض الاستهلاك غير الضروري.

ولأن هذا التوجه لن يجد ما يحمله، لا من القوى السياسية التقليدية، ولا من ما يسمى المعارضة الحديثة، حسب القراءة الأولية للبرامج الانتخابية المقترحة… فإنّ المخاوف من أن يستمرّ تأمين المياه بشكل منتظم وعادل ستزداد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النوعية.