IMLebanon

التحالف بين السعودية وأميركا… هل بدأت رحلة “الانفصال”؟

يرجع تاريخ العلاقات السعودية-الأميركية إلى ما يقرب من ثماني عقود، فهل وصل التحالف الاستراتيجي لنقطة الانفصال بسبب الصراع بين جو بايدن وولي العهد؟ أم أنها مجرد سحابة صيف وستمر؟

الأشهر الأخيرة شهدت الكشف عن عدد من المواقف التي تشير إلى مدى عمق التوتر الحادث حالياً بين الرياض وواشنطن وكيف أن ذلك أمر غير مسبوق تماماً منذ أن بدأت العلاقات بين البلدين عام 1945 من خلال اتفاق استراتيجي طويل الأمد كانت مدته 60 عاماً وتم تجديدها عام 2005 للمدة نفسها.

فقبل أيام قليلة كشف تقرير حصري لوكالة رويترز عن دور السعودية في إسقاط أوبك+ لبيانات وكالة الطاقة الدولية كمرجع يعتمد عليه عند اتخاذ قرارات بشأن الإنتاج، وهي القصة التي وصفتها مصادر بأنها أحد فصول الحرب الباردة بين إدارة الرئيس جو بايدن وولي العهد والحاكم الفعلي للسعودية الأمير محمد بن سلمان.

ثم كشفت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية، الثلاثاء 19 نيسان، عن تفاصيل أخرى مثيرة وتنشر لأول مرة، عن مدى السوء الذي وصلت إليه العلاقات بين الرياض وواشنطن منذ تولي بايدن المسؤولية، ومدى غضب ولي العهد السعودي من الإدارة الأمريكية الحالية.

التقى ولي العهد السعودي، مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، بالشورت في أيلول 2021، وصرخ فيه بعد أن أثار موضوع قتل جمال خاشقجي، وقال: “لا أريد أن أناقش هذا الموضوع مرة أخرى”، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.

كان بايدن قد تبنى خطاباً صارماً تجاه السعودية خلال حملته الانتخابية، على خلفية حرب اليمن وجريمة اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي، وعندما وصل بايدن إلى البيت الأبيض قرر نشر تقرير أعدته الاستخبارات الأمريكية حول اغتيال خاشقجي، رجح أن يكون ولي العهد السعودي كان على علم بالجريمة وربما يكون قد أمر بارتكابها، وتنفي الرياض وولي العهد ضلوعه في الجريمة بأي شكل من الأشكال.

واتخذ بايدن قرارات بوقف الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في حرب اليمن، إضافة إلى منع بيع الأسلحة الهجومية للسعودية، لكن ربما يكون أبرز المواقف التي اتخذها هو عدم التعامل مباشرة مع ولي العهد السعودي، رغم الإدراك التام بأن ولي العهد هو الحاكم الفعلي للمملكة.

وبالتالي فإن تفاصيل المقابلة بين ولي العهد وجاك سوليفان، والتي كشفت عنها وول ستريت جورنال، تشير إلى أن مطالبة محمد بن سلمان بأن يتعامل معه بايدن على أساس كونه زعيم السعودية وحاكمها الفعلي قد تخطت مرحلة الشكل إلى المضمون وأصبحت أكثر تعقيدا بكثير.

ففي بداية تولي بايدن المسؤولية كانت مكالمة هاتفية منه لولي العهد تكفي، لكن المطالب الآن تشمل وضع مقتل خاشقجي وراء ظهر بايدن تماماً ومنحه الحصانة القانونية ضد القضايا المرفوعة ضده في الولايات المتحدة من خلال توجيه وزارة الخارجية لمعاملته كزعيم دولة.

لكن من غير المرجح أن يلبي بايدن جميع طلبات محمد بن سلمان، الذي يطالب أيضاً بمزيد من الاستثمارات من الشركات الأميركية وتعزيز دفاعات بلاده ضد الحوثي والمساعدة في تحسين قدراتها النووية المدنية، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.

تقرير الصحيفة رصد أيضاً كيف حاولت السعودية استمالة بايدن خلال أيامه الأولى في البيت الأبيض من خلال تسريع عملية المصالحة مع قطر وإطلاق سراح عدد من الناشطين السياسيين السعوديين المعتقلين في المملكة.

لكن السعودية رفضت طلباً من مسؤول ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغروك، في شباط الماضي، لإطلاق سراح محمد بن نايف وعمه أحمد بن عبد العزيز. وفي المقابل، رفض وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، طلباً من نائب وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان، لمقابلته بواشنطن في يوليو/تموز الماضي، قبل أن يتقابلا لفترة وجيزة.

ودفع توتر العلاقات مع واشنطن الملك سلمان وولي عهده لعقد سلسلة من الاجتماعات العام الماضي، لدراسة الإجراءات العقابية التي من الممكن أن يتخذها بايدن ضد المملكة وإمكانية الرضوخ وإطلاق سراح معتقلين سياسيين.

لكن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، “قرر مساراً أكثر عدوانية، مهدداً بتقوية التحالفات مع روسيا والصين”، بحسب الصحيفة الأميركية. ويقول مسؤولون سعوديون وأميركيون إن الخلافات السياسية تعمقت منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا؛ فقد أراد البيت الأبيض من السعوديين ضخ مزيد من النفط الخام، لترويض أسعار النفط وتقويض تمويل الحرب في موسكو، ولم تتزحزح المملكة بما يتماشى مع المصالح الروسية.

بينما توقف البيت الأبيض عن مطالبة السعوديين بضخ مزيد من النفط. بدلاً من ذلك يطلب فقط ألا تفعل السعودية أي شيء من شأنه أن يضر بجهود الغرب في أوكرانيا بحسب مسؤول أمريكي كبير، وفق ما ذكرته “وول ستريت جورنال” في تقريرها.

الصحيفة قالت أيضاً إن الأمير محمد بن سلمان يريد قبل كل شيء، الاعتراف به باعتباره الحاكم الفعلي للسعودية وملك المستقبل، حيث يدير شؤون البلاد اليومية لوالده المريض الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، لكن بايدن لم يلتقِ بعد، الأمير أو يتحدث معه مباشرة.

بينما يقول مسؤولون سعوديون إن الخطر بالنسبة للولايات المتحدة يتمثل في أن الرياض ستصطف بشكل أوثق مع الصين وروسيا أو على الأقل تظل محايدة بشأن القضايا ذات الأهمية الحيوية لواشنطن كما فعلت مع أوكرانيا.

فيما يواجه بايدن معارضة شديدة من المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين للتقارب مع السعودية، خصوصاً أن محمد بن سلمان أظهر قليلاً من الرغبة في التراجع عن تحالف مربح مع موسكو للسيطرة على مستويات إنتاج النفط.

وخلص تحليل نشرته منصة أسباب إلى أن الرياض قامت بإرسال عدة إشارات تدل على انزعاجها من طريقة إدارة جو بايدن ملف العلاقات السعودية الأمريكية، دون أن تُظهر تحركات الإدارة الأميركية تجاوباً كبيراً مع الانزعاج السعودي.

وبدلاً من أن تسعى إدارة بايدن إلى السير في اتجاه التهدئة مع الرياض، سعت واشنطن إلى إيجاد بدائل في ملف النفط، وهو في حد ذاته مؤشر على أن التوتر الحالي بين الطرفين قد يحتاج مزيداً من الوقت كي تعود العلاقات إلى مسارها الطبيعي.

ورجَّح تحليل “أسباب” أن يكون التغير الذي طرأ على العلاقات الأمريكية السعودية ناتجاً بالأساس عن توجه مقصود من الإدارة الأميركية، بينما جاءت تحركات السعودية كردّ فعل للتعبير عن الغضب. وبصورة عامة، فإن المناورات السعودية تستهدف استعادة العلاقات مع واشنطن، وإعادة تأكيد الشراكة الثنائية معها، وليس فك الارتباط عنها لمصلحة الصين أو روسيا.

تغيير بوصلة السعودية والإمارات نحو الشرق قليلاً رسالة ضغط وغضب لواشنطن، كشفتها أزمة النفط التي تسببت بها الحرب الأوكرانية (تعبيرية، عربي بوست)

إذ على الرغم من أن هذا التوتر يستند إلى أسباب جيوسياسية حقيقية، وعوامل شخصية، فإن الموقف الراهن لا ينسحب بالضرورة على مستقبل العلاقات الثنائية، خاصة في حال صعود الأمير محمد بن سلمان لخلافة والده، كما هو متوقع. فالمصالح المشتركة الواسعة، خاصة في عالم ما بعد حرب أوكرانيا، تجعل من المرجح أن تكون عوائد الشراكة السعودية الأمريكية مازالت أكثر فائدة من دوافع تدهور العلاقة.

وأظهرت أزمة ارتفاع أسعار النفط والغاز في ظل الحرب بأوكرانيا الدور الحيوي الذي تلعبه موارد الطاقة السعودية، كما أعيد تسليط الضوء على الخليج العربي كنقطة قوة في صراع الدول العظمى على الهيمنة الدولية. وتدرك واشنطن أنّ دفع الرياض إلى دائرة النفوذ الصيني أو الروسي سيمثل خسارة استراتيجية ستحرص أميركا على تجنب حدوثها.

في المقابل، لا تزال المملكة تعتمد بشكل كبير على شركات الدفاع الأمريكية في توفير معظم المعدات العسكرية للسعودية، وستكون الرياض بحاجة إلى سنوات طويلة قبل أن تتمكن من شراء معدات كافية من مصادر أخرى -صينية أو روسية- ودمجها في قواتها المسلحة للتحول إستراتيجياً بعيداً عن مظلة الدفاع الأميركية.

كما أن حرب أوكرانيا أعادت تأكيد موقع الهيمنة الغربية الذي تقوده الولايات المتحدة، وبينما تعمل روسيا والصين على تحدي هذه الهيمنة، فإن السعودية ستكون أمام هامش أقل للمناورة بمصالحها بين القوى الدولية المتنافسة.

وربما يكون التغير الواضح في أولويات السياسة الخارجية الأميركية، خلال إدارتي أوباما وترامب قبل بايدن، قد لعب دوراً واضحاً في توتر العلاقات بين الرياض وواشنطن. إذ تضع إدارة بايدن احتواء الصعود الصيني كأولوية لسياستها الخارجية، ومن ثم تحول تركيزها الدولي إلى دعم الحلفاء في آسيا ضمن استراتيجية المحور الآسيوي، إضافة إلى تعزيز التحالف مع أوروبا، وهو الأمر الذي عاد للصدارة على وقع حرب أوكرانيا.

وهذا يدفع واشنطن بصورة متواصلة، إلى إعادة تقييم جدوى انخراطها في مناطق أخرى، وإعادة رسم خريطة انتشارها لتوجيه مواردها إلى المناطق الأكثر أولوية. ومن هنا حاز الشرق الأوسط عموماً اهتماماً أقل، مقارنة بالعقد الأول من القرن الحالي، وذلك في ظل تقدير واشنطن أن صراعات الشرق الأوسط تستنزف الموارد الأمريكية دون أفق لحلها.

نعم، لم تتخل واشنطن عن مصالحها أو تتنازل عن نفوذها، لكنها بدأت التخلي عن بعض مسؤولياتها تجاه إدارة شؤون المنطقة الداخلية، وتركت مساحة أوسع لقوى الإقليم كي تدير صراعاتها بنفسها. وبالنسبة للسعودية، كان هذا تراجعاً عن التزام واشنطن تجاه أمن المملكة، خاصة في ضوء الصراع مع إيران وحرب اليمن.

وعلى الرغم من عدم ارتباط المصالح الاستراتيجية والحسابات الجيوسياسية بالعوامل الشخصية قصيرة الأجل، فإن العامل الشخصي يبدو مؤثراً بنسبة معتبرة في مشهد توتر العلاقات الأمريكية السعودية الراهن؛ ليس فقط من الجانب السعودي حيث يتسم الحكم بمركزية فردية يتمتع فيها ولي العهد بهيمنة واسعة على صنع وتوجيه السياسات، ولكن أيضاً في الجانب الأميركي حيث يختلف بايدن بصورة واضحة عن ترامب، وهو ما ظهر في نمط إدارة السياسة الخارجية الأمريكية وتفضيلات العلاقات وتقديم بعض الحلفاء وتجاهل آخرين.

إذ أثارت سياسات ولي العهد الجامحة انزعاج بايدن حتى قبل فوزه بالانتخابات الرئاسية، فقد بدّل بن سلمان طريقة اتخاذ القرار في الرياض لتصبح شديدة المركزية، ووضع مفاتيح السلطة والموارد تحت يده فقط بدلاً من النهج الجمعي في إدارة شؤون الدولة وتقاسم السلطة بين رموز الأسرة الحاكمة الذي كان سائداً قبل ذلك.

وتجلى ذلك الجموح في اعتقال المئات من رجال الأعمال وكبار أعضاء الأسرة المالكة وضمنهم ولي العهد السابق المقرب من واشنطن محمد بن نايف، واحتجاز رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري في الرياض، وأزمة حصار قطر التي كادت تتحول إلى غزو عسكري، وصولاً إلى جريمة قتل خاشقجي بالقنصلية السعودية في إسطنبول، وموقف الرياض المتشدد تجاه كندا إثر انتقاد الأخيرة للوضع الحقوقي داخل السعودية.

لكن العلاقات الأمريكية السعودية التي ترسخت مع لقاء الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس روزفلت عام 1945 على ظهر البارجة الأمريكية “كوينسي” في البحيرات المُرة قرب قناة السويس؛ ليست علاقات هشة، ولكنها شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد تحمل أهمية لكلتا الدولتين.

الخلاصة هنا هي أنه رغم إصرار بايدن على عدم التواصل المباشر حتى الآن مع ولي العهد السعودي، فإن هذا الموقف لا ينسحب بالضرورة على مستقبل العلاقات الثنائية، خاصة في حال صعود الأمير محمد بن سلمان لخلافة والده كما هو متوقع، وهو الأمر الذي عبّر عنه وزير الخارجية بلينكن قائلاً إن “ولي العهد السعودي على الأرجح سيكون القائد لهذا البلد لمدة طويلة مستقبلاً، وعلينا العمل مع قادة من حول العالم ممن شاركوا أو قاموا بأمور في بعض الأحيان قد نعترض عليها”.

وعلى الرغم من أن الخلافات الحالية جادة، فإن المصالح المشتركة والاعتبارات الجيوسياسية الواسعة -خاصة في عالم ما بعد حرب أوكرانيا- تجعل من المرجح أكثر، الجزم بأن عوائد الشراكة السعودية الأميركية مازالت أكثر فائدة من دوافع تدهور العلاقة، بحسب تحليل منصة أسباب.

فقد أظهرت أزمة ارتفاع أسعار النفط والغاز في ظل الحرب بأوكرانيا الدور الحيوي الذي تلعبه موارد الطاقة السعودية، كما أعيد تسليط الضوء مجدداً على الخليج العربي كنقطة قوة في صراع الدول العظمى على الهيمنة الدولية. فواشنطن تدرك أن دفع الرياض لدائرة النفوذ الصيني أو الروسي سيمثل خسارة إستراتيجية، ستحرص أمريكا على الأرجح على تجنب حدوثها.

وفي المقابل فإن اعتماد السعودية على التسليح الأمريكي، ومساعدة المستشارين العسكريين الأمريكيين في التصدي للتهديدات، وربطها عملتها المحلية بالدولار الأمريكي فضلاً عن سابقة حماية واشنطن للسعودية ضد تهديدات صدام حسين عقب اجتياحه للكويت عام 1990؛ يجعل الرياض تدرك جيداً طبيعة ارتباطها بمظلة الحماية الأمريكية، وهو ما لا تقدر بكين أو موسكو على القيام به حالياً سواء لأسباب اقتصادية أو عسكرية.

كما أن حرب أوكرانيا أعادت تأكيد موقع الهيمنة الغربية الذي تقوده الولايات المتحدة. وبينما تعمل روسيا والصين على تحدي هذه الهيمنة، فإن السعودية ستكون أمام هامش أقل للمناورة بمصالحها بين القوى الدولية المتنافسة.