IMLebanon

ناخبو الوطن والمهجر

كتب طوني فرنسيس في “نداء الوطن”:

منذ سنوات طويلة وخلال زيارة للولايات المتحدة التقيت في سنسيناتي عجوزاً لبنانية في العقد التاسع من عمرها. كنا صغاراً والحرب في لبنان على اشتداد، وإسرائيل دخلت طرفاً غازياً، ونحن مهمتنا التذكير بوطنية المغتربين وشحذ هممهم للدفاع عن وطن الأرز. بعد مداخلات من هنا وهناك سألت العجوز ببراءة: هل لا يزال الأتراك في لبنان؟

لم يبقَ في ذاكرة تلك السيدة المنتشرة سوى سبب هجرتها. والأتراك كانوا السبب أمّا ما حصل بعد ذلك فلم يعد مهماً لها في غربتها الأميركية. نعم بقي شيء آخر هو انتماؤها المناطقي والديني، فهذا الانتماء له في الغالب علاقة بالموقف التركي منها، وتسببه بركوبها السفينة الى جزيرة إلليس النيويوركية.

الوطن المتروك للأتراك صار وطناً في العالم الجديد. الذاهبون إليه حملوا معهم ذكريات مجازرهم وتهجيرهم ومجاعتهم، وفوقها انتماءاتهم المذهبية والطائفية وأسماء زعماء عشائرهم وأديانهم. هناك صاروا مواطنين يخضعون للقانون ويشاركون في السياسة والانتخاب، لكنهم في ارتباطهم بأرض الأجداد بقوا على انقسامهم.

يروي الرئيس السابق كميل شمعون في مذكراته كيف انقسم المهاجرون إلى ميشيغان لدى زيارته الولاية في أربعينات القرن الماضي مطلع عهد الاستقلال، والقصص المماثلة ستتوالى منذ خمسين سنة بعد اندلاع الحروب الأهلية وبزوغ نجم زعماء السلاح الطائفي والمذهبي.

لم يعد جمهور الوطن موجوداً إلا في التمنيات، في كبّتنا وتبولتنا وحدتنا وخلاصنا، أما الوحدة الحقيقية فهي بين جمهور الزعيم القابض على قطعة من الوطن والزعيم إياه أو من ينتدبه في رحلات الحشد والجباية.

هذا الجمهور استغرق في هجرته وباتت حياته ومستقبله هناك في الخارج. بالنسبة إليه لم يعد البلد موجوداً لكن الزعيم باقٍ فيه إلى الأبد وهذا هو المبتغى والأمل المنشود. أحد ممثلي هذا الصنف من المهاجرين ظهر على الشاشات من ألمانيا التي يعيش ويعتاش فيها منذ 33 عاماً وقالها بفصاحة: إنه يدعم زعيمه الأبدي لكنه لا يعود لأن البلد لم يعد له وجود.

هذا جزء من مشهد ناخبي الإغتراب وليس بالجزء اليسير. لكن جزءاً آخر بدأ يتظهّر بقوة، ليس بسبب الحروب السابقة والدروس المستفادة منها، وإنما بسبب انهيارات السنوات القليلة الأخيرة التي تسببت بهجرة عشرات الألوف ودفعت الإغتراب إلى مشاركةٍ من نوع مختلف في محاولة إعادة صياغة بلدهم ومستقبلهم، وليس إعادة تلميع زعيمهم صاحب الأيادي البيضاء في غربتهم. ظهر هذا الجو الجديد المختلف في تظاهرات المهاجرين في أوطانهم القسرية مشاركة بانتفاضة تشرين، ثم شهدنا تعبيرات غنية ومفرحة عنه في يوم الانتخابات النيابية. لقد كان المشهد رائعاً وواعداً في العديد من الدول، من الإمارات إلى باريس ولندن فإلى بوسطن والمدن الأخرى حول العالم. كان صوت التغيير وسيادة الدولة مسموعاً أكثر من أي مرة، رغم ضجيج الأتباع ومهازلهم.

المهم الآن أن تصل خيارات الإغتراب إلى غاياتها، والأهم أن يُقبل الناس الأحد القادم على ترجمة احتجاجاتهم و”نقّهم” طوال سنوات بالخيار الصحيح في صناديق أقلامهم.