IMLebanon

“خاتمة” برّي: بلا ورثة وجيشُ موظفيه يتوقُ لـ”الحزب”

كتب منير الربيع في “المدن”:

لا يتمتع نبيه برّي بوظيفة محددة. بل هو الممسك بسلطة واسعة. حضوره المديد على رأسيّ حركة أمل ومجلس النواب لا يحمل على الظنّ أن أحدًا يأتي بعده ويخلفه. قد يكون ذلك نابعًا من خلفية سياسية: لا يريد برّي لأحد أن يبتزّه بورثته، ولا أن يزجه في صراعات العائلة والطائفة والحركة. فيما قد يعتبر آخرون أن آلية عمله وتفكيره ينطويان على نوع من المكابرة.

فبرّي احتل الموقع رقم واحد في الدولة اللبنانية. وعاصر عهودًا ورؤساء وحكومات عدة، وظل هو الثابت الوحيد فيها.

لكن هذه الدورة الانتخابية مختلفة جذريًا عن سابقاتها. برمزيتها السياسية، نوعية النواب وفئاتهم العمرية، وعدد الأصوات التي ينالها رئيس المجلس. وهو عدد متدنّ جدًا عن ما كان يحققه سابقاً: ففي العام 1992 نال برّي 105 أصوات من أصل 124. وفي العام 1996 نال 122 من أصل 126. أما في العام 2000 فنال 124 من أصل 126. واختلف الأمر في العامين 2005 و2009، إذ نال فيهما 90 صوتاً. بينما نال 98 صوتاً في دورة العام 2018 من أصل 128 نائباً.

برّي وأمل 6 شباط

تنطبع في ذاكرة اللبنانيين صور ومشاهد عن إطلاق نار كثيف وقذائف ترافق كل جلسة انتخاب رئيس لمجلس النواب. منذ العام 1992 إلى اليوم لم تمرّ جلسة الانتخاب بلا أن تلتهب السماء بالرصاص، وكأنها “جبهة” ضد الهواء. في ذلك إثبات قوة، أو فوز رغمًا عن آخرين، أو تجسّدٌ لشخصية نبيه برّي وحركة أمل والمطبوعتين بانتفاضة 6 شباط 1984.

مهما مارس برّي السياسة لا بد له من العودة إلى تلك “الانتفاضة”، وتحويلها من عسكرية إلى سياسية. فدوائر السياسة تدور لتعود إليه، كما حصل ذات ليلة عشية انتخابات العام 1996، حين كان حزب الله يتجه إلى التحالف مع الحزب الشيوعي وقوى اليسار في الجنوب ضد حركة أمل. يومها استشعر نبيه برّي الخطر، فزار سوريا، وعقد اللقاءات اللازمة، فأدت إلى لقاء بين حسن نصرالله واللواء غازي كنعان. واستمر اللقاء ساعات طويلة حتى ما بعد منتصف الليل، فعاد حزب الله إلى قراره، وتحالف مع حركة أمل.

بين الميليشيا والسياسة

في دورة انتخابه الأولى، كرّس نبيه برّي الانتقال من العمل العسكري الميليشياوي، ليصير مرجعية سياسية ودستورية حتّمتها ظروف الوصاية السورية وحنكته. كان انتخابه انتصارًا كبيرًا تُرجم بإطلاق هائل للرصاص والقذائف. وهذا ما تضاعف في العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

آنذاك اعتبر برّي أنه يتعرض لحرب كونية تهدف إلى عزله. واتهم السفيرين الفرنسي والأميركي بالسعي لاستبداله بانتخاب شخصية شيعية أخرى. اقترح عدد من النواب انتخاب النائب ياسين جابر لرئاسة المجلس، لكن جابر اتصل بمن تداول اسمه وأبلغهم أنه لن يخرج من بيته. ونجح برّي بفرض نفسه.. وقُتِل عدد من الأشخاص في رصاص الابتهاج الطائش.

صدمتا الثورة والمستقبل

تتكرر المسألة نفسها في المجلس النيابي الجديد. فهناك نواب يتحدثون عن عدم انتخابه، باحثين عن انتخاب شخصية أخرى. وجاء الجواب واضحًا من النواب الشيعة: إذا لم يكن نبيه برّي رئيسًا للمجلس، فنحن لسنا نوابًا.

دورات انتخابية سبع حفلت بمتغيرات كبيرة على الساحة اللبنانية. اغتيلت شخصيات، ورحلت أخرى. حلّت عهود ووصايات وتبدّلت، وظل نبيه برّي، رغم تعرّضه لأكبر ضربتين في السنوات القليلة الماضية: ثورة 17 تشرين وتحركاتها التي طاولته في الجنوب وبيروت. الضربة الثانية تتمثل بخسارته حليف استراتيجي هو تيار المستقبل وسعد الحريري، ودخول نواب التغيير أو نواب الثورة إلى البرلمان..

ويعود نبيه برّي رئيسًا للمجلس، ولكن ليس بالزخم السابق نفسه. وهو يعلم أن المجلس قابل للتعطيل في كل لحظة.

بلا إرث ولا ورثة

على الرغم من كل الاستعراضات التي ترافق فوزه بولاية سابعة، يخرج برّي من المعركة مثخنًا بالجراح. ليس سهلًا الحسم ما إذا كان هذا يحسب له أم عليه. هو بالطبع لا يزال يتمتع بشرعية، ولكنها تتراجع إلى حدود بعيدة، فيما سقط كل حلفائه على اللوائح المشتركة. وتثبت الأرقام أن حركة أمل كانت تحتاج إلى رافعة أصوات حزب الله.

تشير هذه الوقائع إلى انكشافات كثيرة. فهو كان يقول سابقًا إنه مختلف مع حزب الله. لكن قوته اليوم أصبحت مستمدة من قوة تلاحمه مع الحزب عينه. تتراجع خصوصيته نسبيًا فيتزايد التحاقه بمشروع ثنائيه الشيعي. وجيشه الهائل من الموظفين قابل للتحول إلى عسكر مهزوم يسعى للالتحاق بحزب الله، بسبب الأزمة السياسية والاقتصادية والمعيشية الطاحنة. وهذا يشير إلى أن الرجل يستنزف كل شيء في حياته ولن يترك إرثًا لورثته.

رئيس وعون يغادر الرئاسة

هو حقق ما حققه في ذاته وبعمله وحركيته الخاصة التي حافظ عليها طوال السنوات الماضية، فكان خيارًا بديلًا عن حزب الله. أما اليوم فالواقع تغيّر كليًا: وهو لم يعد قادرًا على خلق هذا التمايز. فالهوية السياسية لحركة أمل يصادرها حزب الله مصادرة واضحة.

لا بد لبرّي من النظر إلى المجلس الذي سيترأسه اليوم مجددًا. فهو يمثّل جيلًا غير قادر على محاكاة أجيال النواب الجدد. دهاؤه، لعبته التاريخية، ذكاؤه، لم يعد أي منها قابل للصرف في المجلس النيابي الجديد. وهذا ما يحرجه، إذ يضطر إلى محاكاة شديد البعد منه. سيكون صعبًا عليه التأقلم مع هذه المتغيرات، ولن تصلح معها آلية التسويات السابقة.

لكن برّي حقق أمرًا أساسيًا: لم يكرر تجربة كامل الأسعد أو حسين الحسيني في خروجه من الرئاسة. والأهم بالنسبة إليه أن يبقى رئيسًا للمجلس النيابي، فيما رئيس الجمهورية ميشال عون يغادر قصر بعبدا.