IMLebanon

انفجار مرفأ بيروت: لماذا لا تُعلَن الحقيقة؟

كتب رضوان مرتضى في “الأخبار”:

يؤكد كلّ من القضاء والأمن أنّ التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت انتهت تماماً. بات لدى هؤلاء الرواية الكاملة لما حصل: كيف وصلت شحنة نيترات الأمونيوم، وكيف خُزِّنت، وكيف انفجرت، لكن إلى الآن لم يُفرَج عن الرواية الكاملة. هل الغاية تحويل الجريمة إلى «قميص عثمان» عوضاً عن كشف الحقيقة؟

مرّ عامان على انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب. لا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل. لم يعرف أحد ماذا حصل في ذلك اليوم المشؤوم. نُتَف رواياتٍ تناقلها الإعلام. تسريباتٌ وتسريبات مضادة. كلٌّ يزعم أنّ الحقيقة لديه متمسكاً بترويجها، لكنّ أحداً لا يعلم حقيقة ماذا حصل. هل هناك قاتلٌ فعلاً أم أنّ الجميع ضحايا بنسبٍ متفاوتة؟ لا ينفي أحد الإهمال الذي نتج منه جمع مكوّنات قنبلة ضخمة في العنبر رقم 12 طوال سبع سنوات، ما أدى إلى الانفجار الهائل الذي تسبّب بنكبة بيروت، لكنّ الحديث هنا عن فاعلٍ خفي أشعل الشرارة!

في 4 آب 2020، هزّ انفجار ضخم العاصمة بيروت متسبّباً بوفاة 232 شخصاً وجرح الآلاف. كُلِّف القاضي فادي صوّان محققاً عدلياً ليمكث ستة أشهر قبل أن يُنحّى من قبل محكمة التمييز للارتياب المشروع الذي تقدّم به النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر في شباط 2021. لم يُقدّم صوّان أي جديد على التحقيق الذي أُجري في وسائل الإعلام، محاولاً استرضاء الرأي العام. بل رفع سقف ادعائه ليحصره بالمسؤولين السياسيين، رغم أنّ المسؤولية أمنية عسكرية بالدرجة الأولى، لينال تصفيق الشارع مخفياً أداءه المهزوز. طلب الاستماع إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزير المال السابق علي حسن خليل ووزيرَي الأشغال السابقين يوسف فنيانوس وغازي زعيتر كمدعى عليهم، إضافة إلى المدير العام لأمن الدولة، اللواء طوني صليبا. كما سطّر مذكرات توقيف بحق عدد من المسؤولين في المرفأ من حراس وأمنيين وإداريين.

لم يستدع صوّان قائد الجيش السابق جان قهوجي؟ وكذلك رئيس الأركان السابق وليد سلمان الذي وقّع بالإنابة عن قهوجي مقترحاً عرض نيترات الأمونيوم على شركة الشمّاس علّها تشتري البضاعة المحتجزة في المرفأ؟ لقد مَنَحَ صوان حصانة لقيادة الجيش السابقة والحالية لما لهما من مونة عليه، وهو الذي كان قاضياً للتحقيق في المحكمة العسكرية طوال عشر سنوات. لم يُفهم لماذا اختار صوّان رئيس حكومة حالي، و3 وزراء سابقين. إن كان رئيس الحكومة الحالي مرتكباً أو مهملاً أو مُقصّراً، فإنّ ذلك يعني حُكماً أنّ وزراء في حكومته سيكونون مرتكبين ومقصّرين أيضاً. وإذا كانت المسؤولية تقع على عاتق الوزراء السابقين، فلماذا استثنى رؤساء الحكومات السابقين؟

المهم، ذهب صوّان ليخلفه المحقق العدلي طارق البيطار. اسمه اقترحته وزيرة العدل لينال موافقة مجلس القضاء الأعلى. استبشر الجميع خيراً في استقبال القاضي الذي لم يُعرَف له لون سياسي، سوى انتماء قومي لعائلته العكّارية. كذلك الأمر لجهة نظافة الكفّ. لم يكن الرجل قد وُضِع تحت المجهر بعد. وحُشِرَ بيطار بين اثنين: سلوك مسلك صوّان بتكبير الحجر ولو على حساب الحقيقة، وخيار التحقيق بحثاً عن الحقيقة الكاملة ولو لم تُعجِب أحداً. لم يتوقع أحد المسار الذي سيسلكه البيطار. انكبّ القاضي على التحقيق ليستمع إلى عشرات الشهود والمدعى عليهم. مرّت أربعة أشهر، لينهي المرحلة الأولى. في تموز 2021، طلب بيطار أذونات لملاحقة قادة أجهزة أمنية ورفع حصانات نواب مشتبه في تورّطهم بإهمال قصدي، مع علمهم بالخطر، ما تسبّب بوقوع الانفجار. ووجّه كتاباً إلى مجلس النواب يطلب فيه رفع الحصانة النيابية عن كلّ من وزير المال السابق علي حسن خليل، وزير الأشغال السابق غازي زعيتر ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق. كما وجّه كتابَين، الأول إلى نقابة المحامين في بيروت لإعطاء الإذن بملاحقة خليل وزعيتر كونهما محاميين، والثاني إلى نقابة المحامين في طرابلس، لإعطاء الإذن بملاحقة وزير الأشغال السابق المحامي يوسف فنيانوس، وذلك للشروع باستجواب هؤلاء جميعاً بجناية القصد الاحتمالي لجريمة القتل وجنحة الإهمال والتقصير. كذلك ادّعى على ضباط في القيادة السابقة والحالية للجيش، بينهم قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي ومدير المخابرات الأسبق العميد كميل ضاهر، إضافة إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا. كما طلب محاكمة قضاة مشتبه في تورطهم في التقصير والإهمال الذي أدى إلى وقوع الانفجار، لكنه لم يقترب من قائد الجيش الحالي جوزيف عون. كما حيَّد هيئة القضايا في وزارة العدل ووزراء العدل والدفاع جميعاً.

هكذا رأى فريق من اللبنانيين مستهدَف بالادعاء، أنّ الادعاءات لم تكن شاملة بل استنسابية، بعدما اقتصر الادعاء على شخصيات يحسب معظمها على طرف سياسي معين، وبعد استثناء غير مبرر لمسؤولين تعاقبوا على شغل المناصب نفسها مع أنّ الحكم استمرارية بما لا يُعفي المستبعدين من المسؤولية، لأن المسؤولية الأكبر تتحملها قيادة الجيش والقضاء. كلّ هذا عزّز الارتياب في أداء المحقق العدلي طارق البيطار. ولو أنّ المحقق العدلي شملهم بالاستجواب والادعاء مع كل من تعاقبوا على المراكز الأمنية والسياسية المسؤولة عن المرفأ، كان سيُعفى من تهمة الاستنسابية. فالمسؤولية الأمنية تحضر أولاً، لتليها المسؤولية الوظيفية، ثم القضائية فالسياسية، لكنّ المحقق العدلي بدأ بالعكس.

كان يجدر بالقاضي التعامل مع الملف بطريقة أخرى، وأن ينظر بعينٍ واحدة إلى جميع من يعتبر أنهم مشتبه فيهم، وأن يحرص على التعامل مع جميع الأطراف بحسن نية درءاً لاتهامه بالحكم المسبق عليهم، لكنّ ذلك لم يحصل. ترافق الارتياب مع توتّر في الشارع. خرج أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ليتحدث عن تسييس المحقق العدلي للتحقيق وتوجيهه. طالب نصرالله القضاء بإعلان النتائج الأولية للتحقيق، لكن ذلك لم يحصل. لم يصدر أي قرار قضائي يكشف ماذا حصل فعلاً على الرغم من أنّ البيطار كان قد تسلم التقرير الثاني من المحققين الفرنسيين الذي خلُص إلى استبعاد فرضية استهداف المرفأ بصاروخ، بالاستناد إلى تحليل التربة في موقع الانفجار الذي بيّن عدم وجود عامل خارجي (سواء عبوة ناسفة أو صاروخ) تسببت بالانفجار.

انتقل الانقسام إلى الشارع ثم إلى العدلية. انقسم القضاة في ما بينهم. تحوّل الكباش السياسي إلى كباش قضائي ليدخل بعدها ملف التحقيق مرحلة العرقلة. قُدّمت طلبات تنحية وارتياب ومخاصمة من معظم السياسيين المدعى عليهم. وفي كلّ مرة، كان يُتّخذ قرار برد الطلب، كان يُعاجَل المحقق العدلي بطلب جديد لاستبعاده. تسبّب ذلك بشلل في الملف. جُمِّد المسار القضائي في الوقت الذي أصرّ فيه المحقق العدلي على عدم التنحي. أعلن تمسكه بالملف حتى الرمق الأخير. انقضت السنة الثانية على انفجار مرفأ بيروت. أنهى فرع المعلومات تحقيقاته ورُسِم مسار وصول النيترات مروراً بتخزينها وصولاً إلى انفجارها، لكن القرار الظني لم يصدر بعد.

منذ بدء التحقيق، وضع المحقق العدلي أمامه عدة فرضيات من بينها فرضية الاستهداف الجوي التي أسقطها تقرير المحققين الفرنسيين. بقيت فرضيتان، الأولى: حصول خطأ أثناء عملية تلحيم باب العنبر الرقم 12 أدى إلى اندلاع الحريق، ثم وقع الانفجار. والفرضية الثانية هي حصول عمل أمني أو إرهابي متعمّد داخل المرفأ تسبّب بالكارثة، سواء لجهة إدخال النيترات وتخزينها أو استغلال وجودها لتفجيرها.

بعد مرور سنتين، لا يوجد أمام المحقق العدلي طارق البيطار سوى خيار واحد هو أن يخرج على الناس ليخبرهم ماذا حصل. هل هناك من تعمّد تفجير مرفأ بيروت أم أنّ الإهمال تسبب بكارثة. الإجابة بسيطة جداً رغم هولها، لكن انتظارها طال كثيراً.