IMLebanon

مصرف لبنان وحيدًا في معركة لجم التدهور النقدي والمالي

كتبت سلوى بعلبكي في “النهار”:

دخلت إلى يوميات اللبنانيين وثقافتهم في الاعوام الثلاثة الفائتة، لغة جديدة، هي ثقافة مراقبة “العدّاد”. فمن عدّاد كورونا اليومي ووفياته، الى عدّاد سعر صرف الدولار في السوق الموازية، مروراً بعدّاد أسعار البنزين والمازوت والغاز الملتهب، كما عدّاد سعر النفط العالمي، وصولا إلى العدّاد الذي يقضّ مضاجع الإقتصاديين والمصرفيين، وأهل السلطة واللبنانيين على حد سواء، وهو عدّاد الإحتياط الأجنبي أو ما بقي منه في خزائن مصرف لبنان.

غاب الجميع، سلطة وساسة ومسؤولين، عن طاولات الحوار والنقاش وتبادل الرؤى والأفكار، لاستنباط الحلول الممكنة للجم الإنهيار الاقتصادي والنقدي، ووقف مسار الهبوط السريع الى القعر، ولم يبقَ إلا “حدَيدان” مصرف لبنان في ميدان معالجة الممكن من العلل التي أصابت الاقتصاد بمقتل.

منذ بدء الأزمة والعيون شاخصة الى “احتياط” المركزي، تراقب النزف المستمر الذي يعاني منه، فهو انخفض من 29 مليار دولار في شباط 2020 إلى أقل من عشرة مليارات دولار فقط اليوم، وذلك نتيجة مباشرة وغير مباشرة للاعلان العشوائي للحكومة السابقة عن تسديد اليوروبوندز وما تبعه من إصرار السلطة المريب على اعتماد سياسة دعم السلع والمواد الإستهلاكية، وأسعار الوقود والدواء وغيرها منذ بدء الازمة وانهيار الليرة. هذا الدعم الذي استمر حتى الاشهر الماضية لم يفد المواطن اللبناني منه إلا بنسب قليلة جدا، فيما ذهب فارق الأسعار الضخم الى جيوب المهربين اللبنانيين والسوريين ورعاتهم الأمنيين والسياسيين، الذين مدّوا السوق السورية بمعظم ما تحتاج اليه على نفقة “الإحتياط” الذي تعرّض لنزف كبير قُدر بـ 8 مليارات دولار خلال عامين فقط.

وبالتفاصيل فقد أظهرت ميزانية مصرف لبنان حتى آخر ايلول 2022 أن موجوداته بالعملات الاجنبية بلغت 14 مليارا و900 مليون دولار، من بينها 5 مليارات يوروبوندز. وإذا استثنينا سندات اليوروبوندز تصبح احتياطات “المركزي” بالعملات الاجنبية 9 مليارات و900 مليون دولار في آخر ايلول. ويعكس هذا الرقم تراجعا بنحو مليارين و900 مليون دولار في أول 9 أشهر من السنة الحالية، وهبوطا بنحو 3 مليارات و900 مليون دولار من آخر ايلول 2021. لكن تراجع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من ايلول 2021 حتى أيلول 2022 ليس له علاقة بهذه الفترة تحديدا، وفق ما يقول كبير الاقتصاديين في مجموعة “بنك بيبلوس” نسيب غبريل لـ”النهار”، “بل بتراكمات عدة قبل هذه الفترة، وخصوصا حيال تمويل استيراد المواد المدعومة مثل القمح والأدوية والمعدات الطبية وسلة غذائية واسعة ومواد اولية للزراعة والصناعة، اضافة ايضا الى تطبيق تعاميم مصرف لبنان التي اتاحت للمودعين سحب دولار نقدي من حساباتهم او شراء دولارات نقدية من مصرف لبنان عبر منصة صيرفة”. كما أن “هذا التراجع له علاقة ايضا بتوقف تدفق رؤوس الاموال الى لبنان منذ ايلول 2019 وخصوصا منذ قرار التعثر بتسديد اليوروبوندز”. مع الاشارة الى أن احتياطات مصرف لبنان كانت تقدَّر في آخر شباط 2020، أي قبل اسبوع من قرار التعثر عن دفع اليوروبوندز، بنحو 29 مليارا و300 مليون دولار.

وفي مقابل التراجع باحتياطات مصرف لبنان، ساهم تسديد صندوق النقد سحوبات خاصة للبنان بقيمة مليار و300 مليون دولار في أيلول 2021 بادارة هذه الاحتياطات بالعملات الاجنبية. توازيا يحاول مصرف لبنان وفق ما يقول غبريل “المحافظة على احتياطاته البالغة 9 مليارات و900 مليون دولار، خصوصا في ظل الضغوط والطلبات التي لا تعد ولا تحصى لاستخدام هذا الاحتياط”. في المقابل، يقول غبريل إن “مصرف لبنان استطاع لجم تراجع في الاحتياط من خلال العمليات مع شركات تحويل الاموال والعمليات بسوق القطع في الخارج، مع الاخذ في الاعتبار أن شركة طيران الشرق الاوسط وزعت ارباحا بقيمة 700 مليون دولار للسنوات من 2011 حتى 2019، كما أن مصرف لبنان يتشدد في موضوع الطلبات لشراء العملات الاجنبية من خلال منصة صيرفة، والتأكد من ان هذه العمليات تذهب الى اهدافها المحددة”. ولا ينسى غبريل الاشارة الى أن “المصادر التي كانت تغذي احتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية توقفت بشكل شبه كامل مع اندلاع الازمة في أيلول 2019. فتدفق الاموال من الخارج الذي كان أهم المصادر التي تغذي الاحتياط، توقف بشكل كلي. أما الدولارات التي يرسلها البعض من الخارج كـ “فريش” دولار، فإنها لا تخضع للاحتياط الالزامي لدى مصرف لبنان، في حين ان جزءا من تحويلات المغتربين لا يمر عبر المصارف، وتاليا فإنها لا تخضع للاحتياط الالزامي. وكذلك الامر بالنسبة للايرادات السياحية، فهي وإن كانت أرقامها كبيرة، بيد انها لا تمر بالقطاع المصرفي لكي تغذي احتياطات المركزي. والامر عينه ينطبق على الصادرات، فتمويل هذه الصادرات يكون عبر “الفريش” دولار، وتاليا لا يخضع للاحتياط الالزامي الذي يغذي الاحتياطات الاجنبية في المركزي”.

أما بالنسبة لأرقام الاستثمارات الاجنبية المباشرة، فإنها برأي غبريل “لا تعكس الواقع، إذ عمليا ووفق طريقة احتساب الاستثمارات المباشرة لصندوق النقد، فإن الارقام التي نلحظها في ميزان المدفوعات هي ودائع غير المقيمين بالعملات الاجنبية في المصارف التجارية التي تحولت الى القطاع العقاري في لبنان، وتاليا لا تعكس هذه الارقام استثمارات اجنبية مباشرة هي شبه معدومة”.

وفي السياق عينه، يشير غبريل الى أن “عملية استبدال سندات اليوروبوندز عند استحقاقها كانت تشكل ايضا احد مصادر احتياط مصرف لبنان بالعملات الاجنبية، ولكن منذ توقف الدولة اللبنانية عن اصدار سندات جديدة في العام 2018 وتحديدا عند تعثر الحكومة السابقة عن تسديد اليوروبوندز، لم يعد هناك استبدال لاستحقاقات السندات، ليكون في المقدور تغذية احتياط مصرف لبنان بالسندات الاجنبية”.

هل يمكن اعادة تكوين احتياطات المركزي بالعملات الاجنبية من جديد؟ وما السبل الى ذلك؟ يوضح غبريل أن “المطلوب استعادة الثقة أولا. فاستعادة الثقة تؤدي تلقائيا الى اعادة تدفق رؤوس الاموال بشكل مستدام، توازيا مع اصلاحات جذرية تركز ليس على الشؤون التقنية التي تأتي تلقائيا، بل على حسن استخدام السلطة السياسية وفصل السلطات، وكذلك احترام استقلالية القضاء ودعم امكاناته وفعاليته، ومكافحة التهرب الضريبي والجمركي ومحاربة التهريب عبر الحدود واحترام المهل الدستورية وتطبيق القوانين، وعلى الشفافية والحوكمة، والادارة الرشيدة في عمل القطاع العام”. والأهم برأي غبريل أن “استعادة الثقة لا تكون بشطب الودائع وتحويلها الى اسهم في المصارف، بل عبر تعهد الدولة رسميا أن تدفع مستحقاتها وديونها بشكل تدريجي وعلى فترات طويلة من الزمن من دون فوائد، وادخال شركات عالمية من خلال امتيازات لادارة قطاعات حيوية تملكها الدولة مثل الكهرباء والاتصالات والمياه والنقل وغيرها، وهذا الامر سيساعد على ادخال سريع لمليارات الدولارات الى الخزينة، بما يساعد في تغذية احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية”. مع الاشارة ايضا الى اهمية موضوع توحيد اسعار الصرف، فالعرض والطلب في الاقتصاد هو الذي يقرر سعر الصرف ولا يعود هناك سعر ثابت. ولكن هذا الامر، يقول غبريل “يجب أن يحصل في آخر العملية الاصلاحية وعودة الثقة تدريجا مع نمو اقتصادي، إذذاك يستطيع مصرف لبنان اعادة تكوين احتياطاته، وتاليا يصبح هدف السياسة النقدية الاساسي هو ضبط التضخم”.

ويلاحظ غبريل ان اللاعب الوحيد على الساحة النقدية والمالية هو مصرف لبنان الذي يحاول لجم تدهور سعر صرف الليرة في السوق الموازية، وذلك من خلال التعميم 161 الذي ساهم بسحب نحو 4 آلاف مليار ليرة في الاشهر السبعة الاولى من السنة. وامام التدابير التي يتخذها مصرف لبنان، سأل غبريل: “هل مصرف لبنان هو المؤسسة الوحيدة في لبنان التي تستطيع اتخاذ قرارات؟ فالاصلاح واعادة الثقة ولجم تدهور الليرة تتطلب جهدا جماعيا وقرارات من السلطتين التنفيذية والتشريعية، علما أن كل التعاميم التي يصدرها مصرف لبنان يفترض أن تكون موقتة، ولكن يتم تمديدها في غياب أي قرارات اصلاحية جدية”.