IMLebanon

أيها اللبنانيون… شتاء “موجع” بانتظارنا!

كتبت كوليت بهنا في “الحرة”:

“من يشعر بالبرد ليس روسيا”، هذا ما يقوله مثل شعبي روسي رائج، وهو ما سيترجم عمليا عما قريب في امتحان مصيري للجيش الروسي مع اقتراب دخول الحرب على أوكرانيا شهرها العاشر، والتي تتحدث اليوم جميع التقارير الإعلامية والدراسات العسكرية عن تأثير فصل الشتاء على مجرياتها، وترسم سيناريوهات “شتوية” محتملة لها تستند إلى أمثلة حربية تاريخية متعددة أفضت في معظمها إلى إخفاقات كبيرة.

يطلق على الشتاء الروسي القارس عدد من التسميات مثل “جنرال الشتاء” أو “جنرال الصقيع” أو “جنرال الوحل”. والأخير هو الأكثر إرباكا ويدعى بالروسية “راسبوتيتسا”. أي الموسم الموحل الذي يتكرر في فصلي الخريف والربيع بسبب الأمطار الغزيرة التي تتسبب بتعطيل أو إعاقة سير الآليات العسكرية والمدنية على حد سواء. وسبق لحضرة هذه “الجنرالات” المناخية مجتمعة، أو تفرد أحدها بجبروته المهيب، أن لعب دور الحسم لعدد من الحروب بين روسيا وعدد من الدول بحسب المراجع التاريخية.

مثل الغزو السويدي لروسيا عام 1707 الذي واكب “الصقيع العظيم” الذي ضرب أوروبا في القرن الثامن عشر، وأيضاً الغزو الفرنسي لها 1812، وإبان حملة شمال روسيا لتدخل الحلفاء في الحرب الأهلية الروسية 1918، والغزو الألماني عام 1941 الذي عرف تاريخياً بعملية “باربروسا” نسبة إلى الامبراطور الألماني “فريدريك الأول باربروسا”، حيث تقول الأسطورة الألمانية إنه سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حين تحتاجه.

غزوات تاريخية خرجت منها روسيا منتصرة على مهاجميها، لكن لا الامبراطور باربروسا، ولا أي من قياصرة روسيا، ولا حتى أحد ملوك أوروبا استيقظ من سباته عند الحاجة. الذي استيقظ فقط كان ملاك الموت الذي حصد مئات الآلاف من الأرواح البشرية بين الجنود المتحاربة الذين أصيبوا  بكوارث جمة مثل مايعرف بـ “قضمة الصقيع”، أو نهشت جثثهم وهاجمت معسكراتهم ذئاب الغابات المتوحشة، أو قضوا جوعاً بسبب تعطل وصول إمدادات الطعام والوقود ومصاعب “تشحيم” الآليات في ظل ظروف مناخية تعجيزية تدنت فيها درجات الحرارة إلى مادون الأربعين درجة تحت الصفر.

لكنها في الوقت ذاته، لاشك أنها تجارب قاسية أكسبت العقيدة العسكرية الروسية مناعة وعناداً وخبرات مضاعفة تعول عليها في حربها الراهنة على أوكرانيا، رغم اختلاف تموضعها التاريخي من مدافع إلى مهاجم، واستناداً إلى اختلاف التقدم العلمي والتكنولوجي لهذا العصر الذي سيساهم في تجوز عراقيل المناخ. ولعل المثل الشعبي المستهل في البداية حول تحدي من يشعر بالبرد بأنه ليس روسّياً، قد انبثق من رحم مثل هذه الحروب كنوع من الفبركات اللغوية التي تستخدم لتحفيز الجنود ورفع الروح المعنوية والقتالية، حتى لو كانت مجرد فبركات مكابرة وواهية.

في واقع الأمر، لن يكون الشتاء القادم امتحاناً ينحصر بترقب النجاح أو الفشل الروسي في كيفية أدائه لخبراته العسكرية الشتوية التاريخية المتراكمة، بل هو امتحان عسير لمعظم دول العالم، وضعتها فيه هذه الحرب الروسية على أوكرانيا وتسببت بزعزعة اقتصاداتها واستقرارها، وتسونامي غلاء فاحش ضرب معظم دول العالم، بسبب أزمة الطاقة العالمية، إضافة إلى أزمة القمح وإمداداته، والتي كلما شهدت بعض الانفراجات، عادت وتعثرت من حين إلى آخر.

بعض المصادر الإعلامية الخاصة المقيمة في أوروبا يرون أن وسائل الإعلام والسوشال ميديا تبالغان في تضخيم “بعبع” البرد الذي سيعاني منه الأوربيون هذا الشتاء، وأن الأمور تبدو منضبطة إلى الآن قياساً بالسياسات الأوروبية  الحريصة والدقيقة في هذا المضمار، وأن احتمال بعض خطط التقنين قد تطبق بشكل مدروس، وتبدو أنها ستكون محتملة وغير ذات تأثير كبير.

لكن ارتفاع التكلفة المطلوب تسديدها لأجل بعض رفاهية الدفء الأوروبي هو المقلق اليوم، وقد يثير اختناقات وبعض الاضطرابات، وبالتالي المقدرة على التحمل والتفهم الشعبي الأوربي العام للأثمان التي يدفعها بسبب حرب روسيا على أوكرانيا، قد تمضي على خير هذا الشتاء، لكن هذا الصبر قد لايطول إن طالت الحرب لسنوات، وهو مايرفع من غضب الأوربيين ضد روسيا التي تسببت بحربها بكل هذه الكوارث وقضت مضاجع العالم، بالجملة.

وإن كانت السياسات الغربية قد احتاطت للأمر، إلا إن العديد من دول العالم التي تذوقت مرارات هذه الحرب بجرعات مختلفة لا تتمتع بمثل هذه الرؤى الاقتصادية بعيدة المدى، وستدفع بعض الدول، مثل لبنان وسوريا حصصاً باهظة ومضاعفة بسبب ظروفهما الاقتصادية والمعيشية الخانقة، التي زادتها حرب أوكرانيا اختناقاً مع الارتفاع المستمر لأسعار الغذاء والوقود الذي يتسبب مع كل زيادة طفيفة له بسلسلة مترابطة ولامتناهية من الاختناقات المعيشية.

شتاء لبنان وسوريا بشكل خاص، والذي كان شعبا البلدين يعتبرانه أحد أجمل الفصول ويعولان على الرزق القادم منه، وفي ظل انقطاع الكهرباء شبه الدائم الذي أصاب مفاصل الطاقة في البلدين، سيكون موجعاً لهما جداً كما يتوقع، وسيقضم الصقيع القادم الجميع دون استثناء، وسنشهد مشاهد أكثر قسوة لغرق مخيمات النزوح واللجوء السورية، ويوميات مضنية لمعظم سكان البلدين في المدن والجبال، في ظل شح الوقود وعدم توفر السيولة النقدية حتى لبدائل الطاقة، إضافة إلى مآس متوقعة تتعلق بالأمراض التي يسببها الطقس البارد.

الحرب الروسية وإن كانت تجري فوق الأراضي الأوكرانية، إلا أنها ضاعفت من الكوارث المقيمة في الأساس للعديد من الدول، وقلبت موازين العالم وحياته، وحولت حياة الناس بفعل تداعياتها إلى حرب يومية طاحنة لأجل البقاء، واقحمت الجميع في امتحان الشتاء الصعب القادم ومواجهة “جنرالاته” العتاة، فيما سيد “الكرملين” لن يشعر بالبرد، ليس لأنه روسي، بل لأن مكتبه دافىء جداً.