IMLebanon

من عالم التوحد إلى “نجم”… قصة نجاح شاب لبناني

كتبت أسرار شبارو في “الحرة”:

رحلة طويلة معبّدة بالأشواك والزهور، قطعتها فاتن مرعشلي مع ابنها محمود حجازي المصاب باضطرابات طيف التوحد، من محطة الإنكار إلى قطار تقّبل الواقع وصولاً إلى مشاركة الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي بيومياتهما، نجحت ابنة بيروت في إيصال رسالتها التي كتبتها بحبر الصبر والمثابرة.

من “بوابة” الفيسبوك تمكّنت فاتن من تعريف متابعينها على حالة المصابين بالتوحد، وقدرات ابنها والصراعات التي تواجهها، وكذلك لحظات السعادة التي يعيشانها، محاربة بذلك المجتمع بسلاح إيجابي بعدما شن معركته عليها بطريقة غير مباشرة مشكّلاً عائقاً كبيراً أمامها، أما هدفها الأسمى من توثيق مقتطفات من حياتها فهو دعم الأمهات اللواتي لا يزلن في مرحلة إنكار وعدم تقبل لإصابة أولادهن بالتوحد.

تعود فاتن بذاكرتها 20 عاما إلى الوراء، أي منذ ولادة ابنها الذي لم يكن يعاني من أي عوارض، وكما تقول لموقع “الحرة”: “كانت الأمور تسير بشكل هادئ، إلى أن انقلبت رأساً على عقب حين بلغ السنتين من عمره، حيث فقد تواصله البصري وتراجعت قدرته على الكلام، أصبح يمارس حركات نمطية تكرارية، كأن يدور حول نفسه، يضحك ويبكي فجأة، شعرت أنه يعيش في عالمه الخاص وأنه مختلف عن أقرانه”.

عرضت فاتن طفلها على طبيب نفسي، فأطلعها أنه مصاب بالتوحد، لم تكن حينها تعلم “أي شيء عن هذا المرض، اعتقدتُ بداية أنه كباقي الأمراض يمكن الشفاء منه من خلال تناول حبة دواء، طلبت من الطبيب وصف العلاج له لكي يشفى ويعود إلى وضعه الطبيعي، إلا أني صدمت عندما علمت أن ذلك استعصى على كل أطباء العالم”.

تعرّف منظمة الصحة العالمية اضطرابات طيف التوحد بأنه “مجموعة من الاعتلالات المتنوعة التي تتصف ببعض الصعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل. ولهذه الاعتلالات سمات أخرى تتمثل في أنماط لا نموذجية من الأنشطة والسلوكيات مثل صعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر والاستغراق في التفاصيل وردود الفعل غير الاعتيادية على الأحاسيس”.

وتشير التقديرات كما أوردتها المنظمة العالمية “إلى معاناة حوالي طفل من كل 100 طفل من التوحد في العالم، وتمثل هذه التقديرات رقما متوسطا، ويختلف معدل الانتشار المبلغ عنه اختلافا شديدا بين الدراسات. ومع ذلك، أفادت بعض الدراسات المضبوطة جيدا بمعدلات أعلى بكثير. ومعدل انتشار التوحد غير معروف في العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط”.

مواجهة التحديات
سبع سنوات من الإنكار عاشتها فاتن، محاولة إقناع نفسها بأنها ستعثر على ضالتها (أي الدواء) وستنتشل ابنها من براثن التوحد، أصيبت خلال هذه المرحلة باكتئاب شديد أرخى بظلاله على عائلتها، إلى أن اتخذت قرارها بالبحث عن شفائها النفسي، خاصة أنها تأكدت أن حالة ابنها سترافقه طوال عمره، وأن عليها تقبّله كما هو.

خلال رحلة تعافيها النفسي اكتشفت “أم محمود” بأن عليها أن تحب نفسها وترضى بواقعها لكي تستطيع الإمساك بيد ابنها ومساعدته، كما اكتشفت نقاط قوتها، وتمكنت من تحقيق أحلامها الشخصية منها متابعة تعليمها الجامعي، كل ذلك انعكس إيجابا على ولدها حيث ظهرت عليه علامات التحسن ونتيجة تعبها لسنوات طويلة في متابعته”.

كل الدراسات تشير كما تقول الوالدة إلى “تراجع قدرات مرضى التوحد في سن البلوغ، لكن محمود أثبت عدم صحة ذلك، فبعد أن حضّرت نفسي أمام الأسوأ فاجأني بأن حالته لم تتدهور وبأنه لا يزال يسير في طريق تطوير قدراته، ولا زلت حتى اليوم ألمس نتيجة المجهود الذي أبذله من أجله”.

وعن أبرز التحديات التي واجهتها تشرح “لكل مرحلة عمرية تحدياتها، لكن مرحلتي الطفولة والتأسيس أصعبها، فتعليم الطفل الطبيعي المهارات اليومية والقراءة والكتابة أمر صعب، فكيف لمصاب التوحد الذي يحتاج لسنوات لتعلم مهارة ما، من دون أن أنسى معاناة الاختلاط بالمجتمع، لكن بعدما كنت أنظر إلى التحديات نظرة سوداوية، أصبحت أعتبرها فرصة تعليمية جديدة لي ولابني”.

وعن دور الأب تقول فاتن إنه “مهم جدا، لكن للأسف في مجتمعنا العربي عليه تكريس وقته لتأمين مصروف عائلته، يبذل جهدا كبيرا إذا لم يكن يعاني أي من أولاده من مرض، فكيف إن كان لديه ابنا مصابا بالتوحد يحتاج إلى دعم طوال العمر، في دولة يظلم فيها الأشخاص الطبيعيين فكيف بذوي الاحتياجات الخاصة؟”.

منذ طفولته، تابع فريق من الاختصاصيين حالة محمود في أحد المراكز الخاصة، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره جرى تسجيله في مدرسة بهدف انخراطه في بيئة جديدة، قبل أن ينتقل وعائلته للإقامة في دبي مع انتشار وباء كورونا، وتقول فاتن: “للأسف، المدارس الدامجة في لبنان تجارية تصبو إلى الربح المادي، حيث لا تتمتع بأي مؤهلات، من الأساتذة الى التلاميذ فالمناهج الدراسية”.

انعكست الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان على الجمعيات والمراكز التي تعنى بحالات التوحد، حيث أقفل عدد منها، كما تقول رئيسة “جمعية الأهل لدعم التوحّد”، غادة مخول، وذلك نتيجة “تراجع قدرة وزارة الشؤون الاجتماعية على دعمها وعدم قدرة الأهالي على دفع المترتب عليهم لمراكز متابعة حالة ابنائهم، أما المراكز التي يدعمها الأهالي والمبادرات الفردية كما حال مركزنا فإنها لا تزال صامدة”.

استقبل مركز مخول عند افتتاحه خمسة أطفال يعانون من التوحد، أما اليوم فيضم 20 ولداً، ويجري العمل على مضاعفة العدد، في حزيران القادم، بعد الانتهاء من توسعته، وذلك بسبب تزايد عدد الطلبات من قبل الأهالي لتسجيل أولادهم فيه.

وفي حديث مع موقع “الحرة” توجهت مخول إلى “الوزارات المعنية وكل من يستطيع المساعدة بألا يترددوا في ذلك، كون بقاء المتوحد في المنزل يؤدي إلى تراجع قدراته، وبالتالي صعوبة دمجه في المجتمع وتقبّله من قبل أفراده، لا سيما وأن غالبية المدارس اللبنانية غير مؤهلة لحالتهم بسبب التكلفة المرتفعة”.

تخطي الأحلام
ترفض مخول اعتبار التوحد مرضا “كون لا يوجد فحص طبي يثبت الإصابة به ولعدم وجود علاج له”، لافتة إلى دراستين أجرتهما الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية خلصتا إلى أن لبنان يتبع الإحصاءات العالمية فيما يتعلق بعدد الذين يعانون من التوحد”.

تركّز “جمعية الأهل لدعم التوحّد” على الدمج الاجتماعي، من خلال نشاطات متنوعة منها اصطحاب المتوحدين برفقة أهاليهم إلى المطاعم ودور السينما التي كان يتم تخصيصها ليوم في الشهر لحالتهم الخاصة، من خلال تخفيف الإضاءة والصوت، إضافة إلى استضافة متطوعين من طلاب الجامعات لتمضية بعض الوقت في المركز، لكن انتشار وباء كورونا كما تقول مخول “أجبرنا على التوقف، وها نحن نعاود نشاطنا الذي سيكون زاخرا في فترة الأعياد”.

في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للتوعية بمرض التوّحد، في 2 نيسان، كشف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش النقاب عن الطريقة التي أدّت بها جائحة كوفيد-19 إلى تفاقم عدم المساواة وتأثير ذلك على الأشخاص المصابين بهذه الحالة، مشدداً على كيفية دعم الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص المصابين بالتوحد في المشاركة الكاملة في المجتمع، بما يتماشى مع اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وخطة التنمية المستدامة لعام 2030، والتي تتعهد “بعدم ترك أحد يتخلف عن الركب”.

الحياة كالبيانو فيها الأبيض والأسود، الفرح والحزن، وأسعد اللحظات التي عاشتها فاتن عندما عزف محمود على البيانو في مركز النخيل التجاري في دبي.

وتقول: “كان إنجازا تخطى أحلامي، وإحدى لحظات الفرح التي عشتها معه تضاف إلى لحظات كنت ولا زلت أعيشها مع كل تقدم يحققه، فكما تفرح كل أم بأول كلمة وأول خطوة وأي نجاح يحرزه ولدها، تفرح أمهات المصابين بالتوحد لكن بالتقسيط، فإلى اليوم أشعر أني أمتلك الكون حين أسمعه ينطق بكلمة جديدة أو يقوى على القيام بما عجز عنه طوال هذه السنوات” وعن أمنيتها أجابت “أن يجيبني عن سؤالي دون أن أضطر إلى تكراره عدة مرات وبطرق مختلفة”.

تتباين قدرات الأشخاص المصابين بالتوحد واحتياجاتهم ويمكن أن تتطور مع مرور الوقت، كما تشير منظمة الصحة العالمية “فقد يتمكن بعض المصابين بالتوحد من التمتع بحياة مستقلة غير أن بعضهم الآخر يعاني من إعاقات وخيمة ويحتاج إلى الرعاية والدعم مدى الحياة”.

وتؤكد أنه “غالبا ما يؤثر التوحد في التعليم وفرص العمل. وإضافة إلى ذلك، قد يزداد عبء تقديم الرعاية والدعم الملقى على الأسر. والسلوكيات المجتمعية ومستويات الدعم المقدم من الهيئات المحلية والوطنية هي عوامل مهمة تحدد جودة حياة المصابين بالتوحد”.

وتشير إلى أنه “يمكن اكتشاف سمات التوحد في مرحلة الطفولة المبكرة، ولكنه لا يُشخص في الغالب إلا بعد هذه المرحلة بفترة طويلة، شارحة “غالبا ما يعاني المصابون بالتوحد من اعتلالات مصاحبة تشمل الصرع والاكتئاب والقلق واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط بالإضافة إلى سلوكيات مستعصية مثل صعوبة النوم وإلحاق الأذى بالنفس. ويتفاوت مستوى الأداء الذهني بين الأشخاص المصابين بالتوحد تفاوتا كبيرا يتراوح بين الاختلال الشديد والمهارات المعرفية العليا”.

أما رئيسة “جمعية الأهل لدعم التوحد” فتؤكد أن “المتوحد شخص حساس جدا، يتأثر كثيرا بمحيطه، لذلك ينزعج بصورة كبيرة، فهو يفضّل الهدوء، وغالبية من يعانون من هذه الحالة يعشقون الطبيعة والبحر والموسيقى، مع العلم أن ما بين 50 إلى 60 في المئة من المتوحدين لا يتكلمون ومعظمهم لا يجيدون التعبير حتى لو كانوا يتحدثون، وهم بحاجة للدعم والاهتمام ما داموا على قيد الحياة”.

رسالة دعم
عانت مخول كثيرا حتى تمكنت من اكتشاف ما يعانيه ابنها أنطوني، ٢٤ عاما، الذي ولد كأي طفل طبيعي، لا بل نطق أولى كلماته في عمر السبعة أشهر، مشى أولى خطواته في عمر السنة، لكن بعد شهرين توقف عن التكلم وعن التجاوب مع ما يدور حوله.

تذكُر كيف صدمت ذات يوم حين لم يبد أي ردة فعل لعواء كلب أرعب كل المتواجدين في المكان، ظنت حينها أنه يفتقد حاسة السمع، لكن الطبيب أكد لها أن سمعه ممتاز، كما أن جميع الأطباء الذين قصدتهم عجزوا عن تشخيص حالته، إلى أن تمكّن برنامج تلفزيوني كانت تشاهده من ذلك، بعدما خصص حلقة عن التوحد، فاكتشفت أن كل العوارض التي تم ذكرها تنطبق على طفلها.

ليس من السهل كما تشير مخول تشخيص التوحد “إذ تختلف أعراضه من طفل إلى آخر، الأمر يحتاج إلى طبيب اختصاصي أو فريق من الاختصاصيين الذين يتوجب عليهم إجراء مجموعة من اختبارات التطور للطفل بما فيها اختبارات اللغة والكلام والسلوك، كما أنه باستطاعة طبيب الأطفال اكتشاف بعض علامات التوحد المبكرة، مشددة على ضرورة “التشخيص المبكر، لكي يستجيب الطفل للعلاج بشكل أكبر”.

وعن أسباب التوحد، ذكرت منظمة الصحة العالمية أن “البيّنات العلمية المتاحة تشير إلى وجود عدة عوامل تزيد على الأرجح احتمال إصابة الطفل به، وتشمل العوامل البيئية والوراثية”.

وكما فاتن، صدمت مخول عندما علمت بإصابة ابنها بالتوحد، لم تتقبل الأمر بسهولة، حتى بدأت تتحدث عن حالته، فمن خلال ذلك استمدت قوتها لمواجهة المجتمع، أنشأت أول موقع إلكتروني عن التوحد، وفي عام 2015 أسست الجمعية بهدف مساعدة أهالي المصابين، لتفتح بعدها المركز، ويبقى هدفها وهاجسها الأكبر كيفية تأمين مستقبل آمن لهؤلاء كون لا نهاية لحاجتهم للدعم.

يمكن تحسين نمو المصابين بالتوحد وصحتهم وعافيتهم وجودة حياتهم على أمثل وجه من خلال حصولهم كما تشير منظمة الصحة العالمية “على مجموعة كبيرة من التدخلات من مرحلة الطفولة المبكرة وفي جميع مراحل العمر. وقد يؤدي حصول الأطفال المصابين بالتوحد في الوقت المناسب على التدخلات النفسية والاجتماعية المسندة بالبينات إلى تحسين قدرتهم على التواصل الفعال والتفاعل الاجتماعي”.

ومن المهم كما تضيف “إتاحة المعلومات ذات الصلة والخدمات وفرص الإحالة والدعم العملي للأطفال والمراهقين والبالغين الذين شُخصت إصابتهم بالتوحد والقائمين على رعايتهم بما يتناسب مع احتياجاتهم وتفضيلاتهم الشخصية المتغيرة” مضيفة “يحتاج الأشخاص المصابون بالتوحد إلى رعاية صحية معقدة ومجموعة من الخدمات المتكاملة تشمل تعزيز الصحة والرعاية وإعادة التأهيل. ومن المهم أن يتعاون قطاع الصحة مع قطاعات أخرى ولا سيما قطاعات التعليم والعمل والرعاية الاجتماعية”.

ويتعين كما تشدد المنظمة العالمية “تصميم التدخلات الموجهة إلى الأشخاص المصابين بالتوحد واضطرابات النمو الأخرى وتطبيقها بمشاركة هؤلاء الأشخاص. كما يتعين أن تكون الرعاية مصحوبة بإجراءات اجتماعية ومجتمعية لمزيد من التيسير والشمول والدعم”.

رغم التقدم الذي تم إحرازه على صعيد توعية المجتمع اللبناني حول التوحد حيث ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك، إلا أنه كما تشدد مخول “لا يزال يحتاج إلى الكثير لتفهّم وتقبّل هذه الحالات”، من هنا توجّهت إلى أهالي المتوحدين بالقول: “تقبلوا أبناءكم وأحبوهم، لا تبالوا بنظرة المجتمع، فهم نعمة من الله مطهرين من كل كذب وخبث وخداع، ربما يعيشون في عالم أفضل لم يتسن لنا اكتشافه”.

أما فاتن فتوجهت لأهالي المصابين بالتوحد قائلة: “لا تجلدوا أنفسكم، اطلبوا المساعدة النفسية إن احتجتم لها، وابحثوا عن البيئة التي تريحكم والأشخاص الذين يتقبلونكم وأولادكم كما أنتم”.